اعلان الولايات المتحدة الرسمي عن رفعها عديد قواتها الى 2000 جندي في شرق الفرات السوري هي رسالة صريحة للرئيس التركي أردوغان بإن أي مساس بهذه القوات سيعتبر اعتداء مباشراً على الولايات المتحدة والشريك الأكبر في حلف الناتو، ورغم محاولات الإعلام التركي احتواء تصريحات الرئيس وكذلك قراراته، الا انها فشلت نتيجة قراراته الانفعالية التي لن يكون آخرها اصداره عفواً بتاريخ 18 كانون الأول (ديسمبر) 2024 عن منفذي الاعتداء الإرهابي على مطار أتاتورك في عام 2016 (منتمين لتنظيم داعش).رؤية الرئيس أردوغان المتصلة بعظمة الإمبراطورية العثمانية تعززت بعد تنامي دور تركيا عبر تفاصيل الازمة الأوكرانية، ووساطتها في تأمين خطوط نقل الحبوب الأوكرانية عبر موانئ البحر الأسود. الا ان نجاحات السياسة الخارجية التركية إقليمياً، فقد تمثل بإعادة إحياء هيئة تحرير الشام وضمان وصولها الى دمشق في زمن قياسي. وتركيا تدرك أن دمشق لا تمثل بيضة القبان في المعادلة السورية، بل ان شرق الفرات هو ما يمثل تمكين مشروعها من عدمه، والحديث هنا لا يقتصر على الثروات الطبيعة الكامنة فقط (الطاقة الاحفورية)، بل وما يمثله شرق الفرات من عمق استراتيجي مؤثر في تمكين الرؤية الكبرى للعظمة التركية من منظور الرئيس إردوغان، أي الوصول الى حدود شبه الجزيرة العربية والحدود المباشرة مع العراق وإسرائيل.
أما بالنسبة لواشنطن، فإن شرق الفرات السوري يتجاوز الملف الكردي ويتصل برؤيتها الإقليمية من حيث توازن القوى اولاً، اما ثانياً، فهو الاستمرار في توظيف ورقة الأقليات في التأسيس لواقع جيوسياسي إقليمي جديد حتى وإن تأخرت ولادته. ولواشنطن اهداف قصيرة المدى، أولها مواءمة الاندفاعة التركية باتجاه الجنوب (سوريا) وتفعيله محركاً اضافيا في الدفع بإيران للعودة الى داخل حدودها الطبيعية (أي لتخلي الطوعي عما ارتأته هي عمقاً استراتيجياً دون الحاجة لتدخل أميركي مباشر).
المجتمع الدولي وأوروبا خصوصا يعي الهشاشة السورية وانعكاسات خواتيمها على عموم الإقليم وعليها بشكل خاص (التهديدات الإرهابية والهجرة غير المقننة)، لذلك سارعت أوروبا لإعادة بعثاتها الدبلوماسية الى دمشق لتكون شاهداً على ما وعدت به تركيا عبر هيئة تحرير الشام، ذلك أولا. امام ثانياً، مصداقية احمد الشرع (الجولاني سابقاً) سورياً ودولياً، أي أن قرر فك الارتباط بأنقرة حال توفر الضمانات اللازمة، وكذلك ما قد يطلبه السوريون في المنفى القسري من ضمانات لما يمثلونه من رؤوس أموال وتراكم خبرات ذلك بالإضافة لعلاقات إقليمية ودولية ستكون وازنة في عملية إعادة الإعمار.
تركيا لم يكن لها دور حقيقي في عملية تحجيم إيران إقليميا، بل إسرائيل هي من اطلع بذلك، الا ان تركيا هي من انتهز ما وفره الظرف وتوظيفه في صالح رؤيتها الاردوغانية إقليمياً (المصالحة الاثيوبية الصومالية برعاية تركية / عرض التوسط في الحالة السودانية). ما تقدم لا ينفي مكانة تركيا إقليمياً الا أنها غير مؤهلة للعب دور متقدم نتيجة فشل ما مثلته سياساتها وتوافقاتها في ليبيا والصومال من نماذج أصلت استدامة أزماتهما.
نجاح النموذج التركي في سوريا مرهون بنجاح هيئة تحرير الشام بحيازة شرق الفرات أو نتيجة تدخل تركي مباشر لفرض ذلك واقعاً، الا ان ثبات موقف واشنطن حتى بعد تنصيب الرئيس ترامب هو ما قد يُفشل ذلك، والرئيس المنتخب يحضر في هذا ذلك الملف حتى قبل تنصيبه. الا أن التحدي الحقيقي يكمن من الانتقال من حالة مهادنة الى اخرى تركية. بل يجب عدم القبول بمفاضلة تقوم اساس طائفي في سوريا وعلى حساب مشروع الدولة الوطنية. واما في حال القبول بمهادنة الرؤية التركية، فإن ذلك قد يدفع الاكراد لمفاضلات لن تدعم جهود الانتماء الإقليمي، بل وقد يمتد ذلك للحالة الدرزية وما تمثله جغرافيا.