تسود، اليوم، كل أنواع الفوضى في سورية، سوى فوضى الدم. على عكس سني الثورة منذ ما يزيد على 13 عامًا. الدم بدأ منذ يوم الثورة الأول، بعد الاعتقالات، و”كسر خواطر” أهالي درعا. ذلك كان السبب المباشر للثورة. أما الأسباب غير المباشرة فيعرفها أكثر ما يعرفها النظام السابق نفسه بسياقيه الاثنين المتنافسين على راديكالية قمعية لم تدع للسوريين فرصة أن يتنفسوا منذ بدايات ثمانينيات القرن الماضي، حيث جفَّت شجرة سورية وتجمعت حولها بقع الزيت لتشتعل في 18 مارس/ آذار 2011.
منذ 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، بدأ السوريون باستعادة ذاكرة التنفس، ومنهم من سيتأخر في استعادة هذه الذاكرة، حتى أن بعضهم ممن فقد لسانه منذ عقود، مع ذاكرته، أو لم يقرأ عن سنوات الثمانينيات المؤسسة للبنية الصلبة للقمع حسب تعليمات الأسد الأب، وتنفيذ وزير إعلامه، أحمد إسكندر أحمد، والقبضة الضارية للأفرع الأمنية المتناسلة، هؤلاء بدأوا باستعادة ذاكرة الكلام والتعبير، مع ما يشوب الكلمات الأولى من خلط وإبدال وكلمات مبعثرة لا تعبر عن قائلها. فقط من يريد جبر الخواطر يستطيع أن يفهم ماذا يريد قائلها.
لكن بعض من ليس لديهم ذاكرة أساء فهم ذاكرة فقراء السوريين، ليس فقط في سنوات الثورة السورية اليتيمة والمستحيلة، بل السنوات المؤسسة لها خلال 54 عامًا من حكم الأسدين، و61 عامًا من الانقلاب البعثي عام 1963. وهؤلاء أيضًا كان يمكن أن يستحقوا جبر الخواطر، لولا أنهم تخلفوا عن جبر خواطر من فقدوا رئات تنفسهم، وألسنتهم، في معتقلات تدمر، والمزة، وصيدنايا، خلال عقود من القمع طاولت معظم فئات الشعب السوري.
بعد أقل من أسبوعين فقط من طيران نظام الأسد، بدأت فلول أصحاب الذاكرة المثقوبة بالمطالبة بدولة مدنية علمانية، أو دولة مدنية ديمقراطية، أو بدستور مدني علماني، مع كل غموض هذه التعبيرات التي لا يفهم مطلقوها معناها، حتى إذا طلبنا منهم أن يشرحوها لنا لنذهب معهم سيتلعثمون ويكلون في البحث عن ألسنتهم من دون أن يجدوها.
“خمسة ملايين طفل سوري فقدوا أكثر من 15 مليارًا و600 مليون يوم دراسي خلال 13 عامًا”
في الأصل، لم يقل أحد خلاف ذلك، ولم يعترض أحد من السوريين على المضمون الغامض وغير المحدد لتعبيرات الديمقراطية المطلوبة بتنويعاتها المتاحة. لكن من قد يقولون: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان” تظاهروا في ساحة الأمويين، منكرين على من كسر النظام خواطرهم خلال خمسين سنة أن يروا في الخبز والدفء والمدرسة أولوية، متناسين أن تنويعات الديمقراطية، مع مسائل أخرى أساسية، سيحددها الدستور المقبل للبلاد، مع بداية الفترة الانتقالية بعد الأول من مارس/ آذار 2025، وأن ما قبل هذا التاريخ هو فترة إسعافية للبلاد الجريحة، ليتنفس فيها السوريون، ويعود من يعود من اللاجئين إلى بيوتهم، أو من النازحين إلى مدنهم، أو قراهم، ليجدوا خبزًا وبيتًا دافئًا، ومدرسة قد تعوض خمسة ملايين من الأطفال عن فقدان أكثر من 15 مليارًا و600 مليون يوم دراسي خلال أكثر من 13 عامًا.
صور لمئات المعتقلين في ساحة المرجة في دمشق في انتظار من يجبر خواطر الأهالي ويعطي خبرًا عنهم إن كانوا أحياءً أو أمواتًا
أليس هذا أول أوليات الديمقراطية؟ ألا تأتي المساواة في حقوق أطفالنا في الخبز والتعليم قبل أي من شروح الديمقراطية الفضفاضة التي لن يفهمها الجائع والمشرد في خيمة؟ وفروا له ذلك، ومن ثم أعدوا له منهجًا لشرح تلك الديمقراطية! وبالتأكيد سيفرح منكم، لأن الديمقراطية ستضمن لك دوام الخبز والدفء والتعليم والعلاج.
نحن، من نعيش خارج البلاد، لم نشاهد على التلفزيونات في ساحات الاحتفال في المدن السورية فقراء سورية ومشرديها. بالتأكيد هم موجودون في الساحات الخلفية، وفي أحيائهم المدمرة، أو في خيامهم، وهم أكثر من فرحوا بالأمل الجديد. الأمل الجديد يعني الخبز والمستشفى والمدرسة والبيت الدافئ، أولًا، وجبر الخواطر قبل كل ذلك، وليس العلمانية والديمقراطية بالأساس. وحين يتحقق ذلك سيكون صوتهم أعلى من صوت فاقدي الذاكرة الأميين إنسانيًا، ببساطة لأن عنوان الديمقراطية، بما ينطوي تحته من قوانين تحفظ لهم كرامتهم وخبزهم وتعليمهم واستشفاءهم، هي من تضمن دوام توفر أساسيات حياته، وعندها سيقولون بصوت أعلى من صوتكم “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”.
من جهة أكثر حزنًا من كل تراجيديات التاريخ، هيئات من خرجوا يطالبون بالدولة المدنية العلمانية الديمقراطية، وربما الشعبية، أو البرلمانية، لا تدل على أن لديهم مشكلة خبز، وبيت دافئ. هنيئًا لهم، لكن سورية لا تزال بيتًا فيه مأتم وعويل، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، وهنالك من يتمنى أن يجد جثة ابنه، أو أخيه، لينصب له بيت عزاء. فهل لمثل هذا ستتحدث بعد أقل من أسبوعين من عودة الروح عن الديمقراطية والدولة المدنية؟ قبل ذلك، عليك الاعتراف أنك مدين بصوتك هذا المرتفع اليوم لأصوات الذين خنقهم النظام في بحثه اليائس عن أبد مستحيل.
“الذين ينتظرون في الخيام، وفي الأحياء المدمرة، لديهم أولويات مختلفة: سقف يؤويهم، وخبز يومهم، ومدارس لأطفالهم”
قبل أسبوعين من اليوم، وعلى أعتاب مدينة حلب، لم يكن يشطح خيال أكثر المتفائلين في إمكانية دخول المقاتلين مدينة حلب. لكن، بعد الوصول إلى مدينة حماة، ساهم أحد الأصدقاء الكرد بنظرية “ثلث، بثلث، بثلث” في إشارة إلى أن سورية الجديدة ستشبه كأس العرق، في أحد اجتهادات “أصحاب الكيف”، وأن سورية سيتم تقسيمها إلى ثلاثة كيانات، في حركة “تغميس خارج الصحن”.
اليوم، لا تزال مناطق الجزيرة السورية محل نزاع بين السوريين، مع تداخل مربك للمشهد من تركيا وأميركا. ولأن الإرباك السوري الداخلي سيجد حله بالحوار، ومن دون دم، بزوال العاملين المربكين الخارجيين، فإن “نظرية المثالثة” زال خطرها، وإن كان بعض السوريين لا يزال حذرًا أمام طرح كرد سورية للنظام الفيدرالي للدولة الجديدة. هذا أيضًا يحتاج إلى “جبر خواطر” في هذه المرحلة، جبر خواطر للطرفين، مع أن نظرية “تضحية قسد بعشرة آلاف مقاتل من أجل القضاء على داعش” ليست مقنعة لي، أنا ابن الرقة، مع تدمير 80% من الرقة بقصف الطائرات الأميركية (24 يونيو/ حزيران حتى 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2017)، وقتل أكثر من 3000 مدني من الرقة، وخروج مقاتلي داعش معززين مكرمين في اتجاه دير الزور والبادية السورية.
“جبر الخواطر” هذا يشمل، بالطبع، فقراء الكرد، من المقاتلين والمدنيين، ممن خدعتهم القوى المتدخلة خلال أكثر من مئة عام بحلم الدولة، كما يشمل الأضرار الجانبية التي عانى منها معظم فقراء الجزيرة السورية الذين وقعوا تحت سلطة داعش، ثم قسد. يكفي، هنا، أن نبحث عن ملف مخدر “إتش بوز” في الرقة، لنجد المعادل الموضوعي لجمهورية الكبتاغون، ولنعرف لمن سنوجه السؤال عن سبب فقدان عشرة آلاف كردي حياتهم بناء على التحالف مع أميركا في مواجهة داعش!
ملف الديمقراطية السورية حاضر، وواجب، ومستحق للسوريين، لكن بعد طي ملف “جبر الخواطر”. نعم، هو ملف سياسي بكل معنى الكلمة، فخواطر أهل حماة لم تُجبر بعد أكثر من أربعين عامًا من المذبحة، وخواطر كل سوري وسورية تحتاج إلى أعوام كثيرة ما بعد استعادة الروح والأمل كي يجبروا خواطر بعضهم، مع التأكيد على ألا ننسى، ليس نحوًا في اتجاه الانتقام، بالقانون أو بغيره، بل كي لا نقع في حفرة الديكتاتورية مرة أخرى.
هل تذكرون حرب لبنان (1975 – 1990)، التي سميت، خطأ، حربًا أهلية، وأراد بعضهم أن يُلصق هذا التوصيف بالحرب في سورية؟ هذه الحرب لا تزال مستمرة بأشكال مختلفة تتناسل في أعوام ما بعد 1990، لأنها انتهت بصيغة لا غالب ولا مغلوب بين زعماء الإقطاع السياسي اللبناني، من دون أن يتم جبر خواطر فقراء اللبنانيين. تلك الحرب خلفت في أقل التقديرات 120 ألف قتيل، وحتى عام 2012 كان حوالي مليون لبناني خارج ديارهم، في نزوح، أو تشرد. وهنالك من هم ما زالوا مجهولي المصير، في معتقلات النظام السوري السابق، أو ضحية القتل على الهوية، وهؤلاء هم في حكم المغيبين حتى اليوم. ولن يُغلق ملفهم ما لم يتم جبر خواطر أحبائهم.
وحدهم، من ضمن من تسعفني ذاكرة قراءاتي، هم اليهود، ممن تم جبر خواطرهم، فأوروبا، وأميركا، ولغاية في نفس الأنكلوساكسونيين، جبرت خواطر اليهود، فأسس بعض اليهود دولة “إسرائيل” الديمقراطية، التي ذبحت أرض فلسطين بالمعنى الحرفي للكلمة، ولا زالت سكاكينها تقطع رقاب الفلسطينيين، وأرضهم، وزيتون سلامهم.
فهل يخشى الآن بعض السوريين أن جبر خواطر العرب السُنّة السوريين سيحيلهم إلى يهود يتحكمون في رقاب المكونات الأخرى للشعب السوري، وكل ذلك خلال أقل من ثلاثة أشهر، بعد 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، وحتى الأول من مارس/ آذار 2025؟!