بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد، يخشى سوريون أن تفرض الإدارة الجديدة التي هيمنت على السلطة في سورية هندسةً اجتماعيةً كليةً نابعةً من أيديولوجيتها الإسلامية، تحتلّ مجالات المجتمع السوري الاقتصادية والسياسية، فتهيمن على المجال العام بأدوات ومؤسّسات سلطوية جديدة تعيد إنتاج استبداد عانت منه سورية عقودًا. صحيح أن “محرري” سورية من حكم آل الأسد لا يعلنون أنفسهم ثوّارًا ديمقراطيين، إلا أنهم في الأقلّ يحرصون على عدم إبراز برنامجهم الأيديولوجي، في رسالة إلى السوريين والمجتمع الدولي، لكن سوريين كثرًا يرون في ذلك تكتيكًا لا استراتيجيا، فينادون بضمانات تمثّلت بـ”العلمانية”، و”الديمقراطية”، وبـ”دولة مدنية”، وكأنّها وصفات سحرية للخروج من عنق الزجاجة، بعد عقود من الاستبداد الأسدي، سبقتها قرون من فوات حضاري عربي بالعلاقة مع الغرب المُنتِج لتلك المفاهيم. والسؤال يبقى ما إذا كان السوريون سيتمكنون من استغلال تلك الفرصة التاريخية، محقّقين انتقالًا ديمقراطية سلسًا نحو بناء دولة المواطنة وحقوق الإنسان، التي طالما اشتهوها منذ انطلاق ربيعهم في عام 2011؟
وفي النقاش السوري الراهن، ينبغي التعامل مع “العلمانية” و”الديمقراطية” بوصفهما إشكاليتين لا مشكلتين، فإن كانت المشكلة هي مسألة أمكن الإجابة عنها، فإن الإشكالية هي مسألة، أو مجموعة من المسائل، لا تتوافر بعد إجابة عنها، أو هنالك إجابات عنها متعددة، متناقضة أحيانًا، يحتاج البت فيها إلى رؤية أكثر وضوحًا تستفيد من تقدم وسائل المعرفة، أو من ممارسة تاريخية تحلّ نظريًا ما كان غير قابل للحلّ.
علمانية أم علمانوية؟
في النقاش السوري الراهن، هنالك من يختزل العلمانية (عمدًا أو عن جهل) في اللادينية (اللائكية)، التي تتناقض وتناهض الدين والتديّن، أو تُفهَم العلمانية على أنها فصل الدين عن الدولة. وأنتج النقاش بشأن العلمانية استقطابًا حادًّا في المجتمع السوري بعد أيام فقط من سقوط النظام الأسديّ، بين سوريين شعروا بأن دينهم مهدّد، وآخرين منهم رأوا أن حرّياتهم الشخصية والعامة في خطر. لكن في مقابل سوء الفهم هذا من فريق من السوريين، لا يحدّد رافعو شعار العلمانية، بوصفها مسؤوليات الدولة تجاه الدين، أيّ علمانية يريدون. فإن كانت العلمانية تعني ببساطة التزامًا معياريًا بالحياد من جانب الدولة تجاه الشؤون الدينية من الناحية المؤسّساتية، أو التزامًا بدعم الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية، عمليًا ومؤسّساتيًا، فإن فكرة “الحياد” تظلّ مفتوحةً للتأويل. فلا يوجد فهم واحد لمعنى “علماني” عندما يتعلّق الأمر بمسؤوليات الدولة تجاه الدين، فبالنسبة للعلمانية المحايدة: الدولة غير دينية، ويجب ألا تدعم الدين بأيّ شكل من الأشكال. في العلمانية الإيجابية: لا تؤكّد الدولة المعتقدات الدينية لأيّ دينٍ معين، ولكنها قد تخلق ظروفًا مواتية للأديان بشكل عام. في العلمانية السلبية: الدولة ليست مختصّةً في الأمور المتعلّقة بالدين، ولكن يجب ألا تتصرّف بطريقة تمنع المظاهر الدينية التي لا تهدّد المصلحة العامة، وفي العلمانية الشاملة: يجب ألا يدير الدولة دين معين، ولكن يجب أن تتصرّف بحيث تشمل أوسع مشاركة للجماعات الدينية المختلفة، بما في ذلك غير المتدينين.
باتت حيوية الدين وعودته إلى الحياة العامة من المسلّمات في النقاشات السياسية والأكاديمية، وتثار في الغرب التساؤلات حول ما إذا كانت العلمانية الآن تواجه أزمةً، أم أن المجتمعات العلمانية تكيّف نفسها مع استمرار وجود المجتمعات الدينية المحلّية، والمهاجرة أيضًا. لا يأخذ رافعو شعار العلمانية (شرطًا للديمقراطية) في سورية بعين الاعتبار ما طرأ على النقاش العلماني في الغرب، إذ هنالك من يؤكّد أن المجتمعات الديمقراطية الغربية أصبحت الآن “ما بعد علمانية” بشكل متزايد (يورغن هابرماس… وآخرون)، بعد أن أدّت عودة الدين إلى المجال العام إلى تحدّي الافتراضات الأساسية التي تقوم عليها العلمانية. ويؤكّد مؤيّدو دور الدين في الحياة العامة، ومنهم علمانيون، أن الدين يوفّر مجموعةً من المنافع العامة، ويمنح الأفراد إحساسًا بالمعنى والهُويَّة، وأن الجهود المبذولة لإبقاء الدين خارج المجال العام غير ليبرالية وغير متسامحة.
خصّص المفكر العربيّ عزمي بشارة كتابه “الدين والعلمانية في سياق تاريخي” (في جزأين وثلاثة مجلّدات، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2013 و2015) لمعالجة إشكالية العلمانية في السياق التاريخي العربي، مبينًا أن العلمانية التي كانت حلًّا وجوديًا ومخاضًا ضروريًا لنشوء الدولة الحديثة، القائمة على قيم الحرّية والديمقراطية ودولة المؤسّسات والقانون، إن هي إلا نتاج العلمَنة، أي نتاج عملية تمايز اجتماعي بنيوي، وتغيّر في أنماط الوعي. وحذّر عزمي بشارة من مغبّة استقدام العلمانية من سياقها الغربي نظريةً مكتملةَ المعالِم والشروط، ثمّ محاولة فرضها بقوة الأيديولوجيا على مجتمعات لم تعرف إرهاصات تشكّل العلمانية سياسيًا ودينيًا وثقافيًا. فليست العلمانية، كما يذهب بشارة، وصفةً للتطبيق المباشر من المنتج إلى المستهلك، بل هي عملية تمايز اجتماعي بنيوي، وتغيّر في أنماط الوعي، إنها صيرورة تاريخية. فصل الدين عن الدولة لا يعني بالضرورة فصل الدين عن المجتمع، بل لا تعني العلمنة بالضرورة تراجعًا في الإيمان الديني، أو الممارسة الدينية، بل تغيّرًا في أوضاع الإيمان ذاتها. وبحسب بشارة، لا يمكن فصل الدين عن الحيّز العام، أو عن الدولة، أو عن السياسة، فصلًا كلّيًا، بل يمكن القول إن ثمّة درجات من العلمنة، محذّرًا من أن تنزلق العلمانية نحو الأيديولوجيا، فتصبح “علمانوية”.
“في النقاش السوري الراهن، هنالك من يختزل العلمانية (عمدًا أو عن جهل) في اللادينية (اللائكية)، التي تتناقض وتناهض الدين والتديّن”
فضّل بشارة في غير مناسبة الحديث عن الديمقراطية بدلًا من الحديث عن العلمانية، فتبلورُ الثنائية القطبية علماني/ ديني يمكن أن يفضي في سياق الانتقال الديمقراطي إلى “الاحتراب الأهلي” بين أنصار طرفين، يتماهى كلّ منهما مع موقفه إلى درجة تحويله هُويَّةً، والصراع بين الهُويَّات ليس صراعًا ديمقراطيًا، ولا يساعد في الانتقال الديمقراطي. في الإمكان، حسب بشارة، إضعاف التحالف بين أنماط التديّن (السياسي والرسمي والشعبي) ضدّ الحداثة وضدّ الديمقراطية وتفكيكه، من دون معاداة أنماط التديّن القائمة منفردةً، بل من خلال كسب بعضها لصالح الديمقراطية، وتحييد بعضها الآخر، لتصبح المعركة السياسية مع القوى المعادية للديمقراطية ممكنةً في ظلّ سيادة القانون، تجنّبًا لحملةٍ مفزعةٍ من العنف السياسي، والاجتماعي كذلك.
الديمقراطية وهمًا عاطفيًا
أطفال دمشقيون يحتفلون بسقوط الأبد في ساحة الأمويين وسط دمشق (13/ 12/ 2024/فرانس برس)
العلمانية عند جورج طرابيشي أيضًا ليست أيديولوجيا خلاصية، بل آلية سلبية لفصل الدين عن الدولة، هي لازمة، ولكنّها ليست كافية. وما ينطبق على العلمانية ينطبق على الديمقراطية. وفي سورية، ما بعد الأسد، تواجه الديمقراطية تحدّيات، وتطرح بوصفها إشكاليةً إشكالياتٍ أخرى قد تعوق تحقّقها المباشر. وعند طرابيشي، فإن ديمقراطيةً يظن الأفراد أنها لازمة حتمية عن انتصار الثورة هي وهم عاطفي، إذ قد نجد أنفسنا أمام البنى نفسها التي أنتجت الاستبداد والطغيان. وحذّر طرابيشي في كتابه “هرطقات عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية” (دار الساقي، بيروت، ط1، 2006) من الترويج للديمقراطية بوصفها أيديولوجيا خلاصية، فتساءل ما إذا كانت الديمقراطية مفتاحًا لجميع الأبواب، أم أنها تتويج لتطوّر عضوي لمجتمع، ومقياسًا لمدى تطوّره، وهل الديمقراطية ثمرة تقطف، أم بذرة تزرع؟ ورأى أن الديمقراطية تحتاج جهدًا، ولا تعفي من الجهد، كما تريد الأيديولوجيا الخلاصية، وأن الديمقراطية شرط غير كافٍ، فهي قبل أن تكون مفتاحًا لجميع الأبواب تحتاج هي نفسها إلى مفتاح، وبابها لا ينفتح إلا بعد أن تفتح سائر الأبواب الأخرى، أو بالتواقت معها على الأقل.
فأحد شروط الديمقراطية (غير المتوافر في الوضعية السورية الراهنة) هو توافر حاملها الاجتماعي، فالديمقراطية هي من اختراع الحداثة التي صنعتها البرجوازية، تغيب بغيابها، وتوجد بوجودها، وكانت براعم الديمقراطية في العالم العربي برجوازيةً قبل أن تحفر الثورات الوطنية والانقلابات العسكرية القومية واليسارية قبر الديمقراطية، وقبر البرجوازية معًا. ومن دون حامل للديمقراطية سيظلّ المأزق الديمقراطي يعيد إنتاج نفسه عربيًا، وكان ثمن تغييب البرجوازية وإفقادها الاعتبار الأيديولوجي، بحسب طرابيشي، أنظمةً سلطويةً أبّدت نفسها جمهورياتٍ متوارثةً، وحركاتٍ شعبيةً، منذرةً بشموليات من نوع جديد، وأكثر جذرية بما لا يقاس في القطع مع الديمقراطية وقيم الحداثة، وكان لا بدّ من أن تأخذ المعارضة الشعبية للدكتاتوريات القائمة شكل صعود المدّ الأصولي.
“فضّل عزمي بشارة في غير مناسبة الحديث عن الديمقراطية بدلًا من الحديث عن العلمانية، فتبلورُ الثنائية القطبية علماني/ ديني يمكن أن يفضي في سياق الانتقال الديمقراطي إلى “الاحتراب الأهلي” بين أنصار طرفين”
يلحّ طرابيشي على أن الديمقراطية ثقافة ومنظومة قيم. وفي مجتمع لم ينجز تحديثه المادي والفكري، ولم يستكمل ثورته التعليمية، فإن الموضع الأول لتظاهر الديمقراطية ليس في صناديق الاقتراع وحدها، بل كذلك (وربّما أولًا) في الرؤوس، فلا يمكن أن تكون الديمقراطية نظامًا للحكم من دون أن تكون نظامًا للمجتمع، تقيم النظم العربية العثرات أمام الآلية الديمقراطية، لكن المجتمعات تقيم العثرات أمام الثقافة الديمقراطية. وإن كانت النظم الاستبدادية لا تتحمّل انتخابات حرّة، فإن المجتمعات العربية لا تتحمّل رأيًا حرًّا، والمجتمع الذي يريد الديمقراطية في السياسة، ولا يريدها في الفكر، ولا في العلاقات بين الجنسين، يستسهل الديمقراطية، ويختزلها في آن.
رَجل الشرطة ورَجل المباحث
لم تكن مشكلة السوريين مع الدولة، بل مع السلطة، ولا يمكن إرساء الديمقراطية من دون بناء الدولة. لذا يحذّر طرابيشي من شعبوية تُختصَر في شعار واحد “الدولة ضدّ الأمة”، ذلك أن منطق تأثيم الدولة، وتبرئة الأمة، أو الشعب، أو المجتمع المدني، يحمل جرثومة شمولية جديدة. وفي حين أوجدت النظرية الديمقراطية علاجات للسلطوية، أبرزها فصل السلطات، ودولة القانون، وحقوق الإنسان، فإن الفكر الديمقراطي الشعبوي، الفكر السائد في الساحة الثقافية العربية، يضع رهاناته على الشعب، أو المجتمع المدني، فيؤبلس الدولة، ويؤمثل الأمة، ولا يقيم بينهما إلا علاقة جلّاد وضحية.
بالتالي، يرفض تصوير الأزمة في العالم العربي على أنها تحصيل حاصل للقطيعة بين الدولة والشعب، وانفراد الدولة في تقرير مصائر الشعوب، من دون أن يكون للشعب قدرة مقابلة على التحكّم بمقاليد الدولة. هذا التحليل ذو منزع شعبوي، يجعل من المأزق الديمقراطي نتيجةً شبه آلية لطغيان حضور الدولة، وغياب (أو تغييب) المجتمع المدني، فمأزق الديمقراطية ليس قوة حضور الدولة، بل على العكس استضعافها وتغيبها. ففي ظلّ الديكتاتوريات العربية نتحدّث لا عن عدوان الدولة على المجتمع المدني، بل عن عدوان السلطة على الدولة، وإعاقتها إياها عن أداء دورها عاملًا مُنظِّمًا ومعقلنًا للاجتماع البشري. المشكلة عند طرابيشي أن الشرطي كان “مُجرَّدًا من سلاحه أمام رجل المباحث”، و”أسقف المخافر واطئةً أمام أقبية الاستخبارات”، ولا مخرج من المأزق الديمقراطي إلا بردّ الاعتبار للدولة نفسها، ولسلطة القانون، ولمبدأ العنف الشرعي، وإن كان لا ديمقراطية مع رجل المباحث، فإنه لا ديمقراطية من دون رجال الشرطة، وسيرتدّ المجتمع المدني (إن وجد) إلى غابٍ لو غابت الدولة.
الجامعة السورية
بحسب طرابيشي، تؤدي الفئوية الطائفية إلى خللٍ خطيرٍ في تطبيق مبدأ التمثيل الديمقراطي، وأشدّ خطورةً في اشتغال جدلية الأكثرية والأقلية. فالديمقراطية من حيث هي قيم الأكثرية العديدة، تُختزَل في المنظور الفئوي الطائفي في أكثريةً عموديةً، لا أفقيةً، جوهريةً، فيدور الصراع لا في المؤسّسات التمثيلية، من برلمان وغيره، بل في المجتمع نفسه. فالأكثرية هنا ليست أكثريةً حزبيةً، أو كتلوية، ينفرط عقدها داخل البرلمان، بل هي أكثرية مجتمعية دائمة، إسلامية، أو مسيحية، سنّية، أو شيعية، عربية، أو كردية، ممّا يعني خلال الممارسة الانتخابية تصويتًا جماعيًا إجماعيًا، يصوّت فيه الناخبون لمرشّحهم من دينهم، أو طائفتهم، أو إثنيتهم، ضدًّا على المرشّح “الآخر”.
حذّر طرابيشي في كتابه “هرطقات… عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية” من الترويج للديمقراطية بوصفها أيديولوجيا خلاصية
نستحضر هنا أستاذنا الراحل، الفلسطيني السوري يوسف سلامة، الذي أكدّ أن انطلاق الثورة السورية أسقط الفكرة الجامعة التي قام عليها النظام عقودًا، لكنّه حذّر من عدم امتلاك السوريين فكرةً جامعةً بديلةً تحلّ التناقضات بينهم، التي من دونها تفتقد الثورة (ولو انتصرت) الإطار الإنساني اللازم لتوحيد السوريين، لتحكُم بطريقة مشابهة لحكم النظام. لذلك، دعا إلى “الجامعة السورية” القائمة على مصلحة السوريين، بوصفها فكرةً جامعةً “تتجاوز أفكارنا التقليدية عن الأكثريات والأقليات”، ليصبح كلّ السوريين بمقتضاها أكثريات: “اتفق معي على سورية أولًا، ثمّ كن ما تريد؛ سوريًا كرديًا، سوريًا عربيًا، سوريًا آشوريًا، وحتى سوريًا فلسطينيًا”. تلك الجامعة هي التي ستمنح جميع السوريين حقوقًا متساوية، حين تتخطّى فكرة المظلوميات، لأنهم جميعًا مظلومون، وتضع دستورًا يتوافق عليه الجميع، فيحكم الجميع أنفسهم بأنفسهم، مع المحافظة على وحدة الدولة السورية.
خاتمة
يحتاج السوريون إلى عقد اجتماعي ينطلقون منه، يخرجهم من الحلقة السياسية المفرغة، يُنجز على طاولة حوار وطني قادم مستحق اتفاقًا حول تحديد علاقتهم ببعضهم بعضًا، وبعلاقتهم بالدولة التي يعيشون فيها، ويناط به صياغة التوافق الوطني العام والسلم الاجتماعي، مقدّمةً لبناء مجال سياسي واجتماعي ينبثق منه دستور، بل هو شرط لكتابة الدستور، ذلك أن دستورًا يكتب في ظلّ استمرار الصراع، وفي غياب الثقة، وفي حالة من الارتباك والضبابية السياسية سيكرّس الصراع، بل سيولّد أزمات وصراعات جديدة. بغير ذلك، فإن نصوص الدستور نفسها عرضة لإعادة القراءة والتأويل، فإن بقي الواقع صراعيًا من دون حلّ تناقضاته، سيكرّس الدستور هذه التناقضات والصراعات. وإذا كان بعضهم يرى في أن ينصّ الدستور على أن “الإسلام دين الدولة” ضربة فاضحة للتنوع الثقافي والتعددية وحقوق الإنسان، ويخلو من المنطق، لأن الدولة شخصية معنوية، فكيف يكون لها دين، فإنه في المقابل لا معنى أن ينصّ الدستور على “دولة علمانية” في ظلّ فئوية طائفية ستؤوّل الدستورَ طائفيًا تبعًا للسلطوية المكوناتية المهيمنة.
لا تحقّق الثورةُ الديمقراطيةً هدفًا مباشرًا، بل تحتاج إلى مسار تحول ديمقراطي، وفكرة العلمانية أشدّ تعقيدًا من مجرّد كونها مقاربة سياسية للعلاقة بين الدين والسياسة، بل هي علمنة لا تتحقّق من أعلى إلى أسفل. لا يعني ذلك أن يبدأ السوريون من صفر ديمقراطي، أو أن يدوروا في حلقة مفرغة، بل لا بد من أن ينطلقوا من عقد اجتماعي يتمسّك ببناء الدولة، وهناك حدّ أدنى بات معروفًا لبناء دولة على روافع ديمقراطية (فصل السلطات مثلًا)، بينما يجعلها مبدأ المواطنة دولةً مدنيةً، حين ينظم العلاقة بين الدولة وسكّانها. من هنا يضع السوريون قطار المستقبل في السكّة نحو الدمقرطة والعلمنة. طريق طويل ومتعرّج، لكنّه يستحق بذلًا وعطاءً بقدر ما يستحقّ السوريون حرّيتهم.
شارك هذا المقال