في أيامها الأولى، كانت “كلمة العام” تُستمد من لغة صنّاع السياسات وكتّاب الأعمدة، أولئك الذين يشكّلون نبرة المحادثة في المجال العام. ومع صعود وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت “كلمة العام” أكثر ديمقراطية إلى حدّ ما. فإذا كانت القواميس، وخصوصًا قاموس أكسفورد الإنجليزي، تعطي الأولوية للكلمة المكتوبة، وخصوصًا الكلمة الأدبية، فإن “كلمة العام” تمنح الكلمة الرقمية لحظة من التقدير. يجب الثناء على الشباب هذا العام. لا بد أنهم قرأوا الكثير من وردزوورث William Wordsworth (1770-1850) لأن “تعفّن الدماغ”، التي أُعلنت ككلمة أكسفورد لعام 2024، هو تعبير جديد لفكرة قديمة، فقد كان وردزوورث يشكو من “خمول العقل” منذ عام 1800:
“تتضافر مجموعة من الأسباب، لم تكن معروفة في الأزمنة السابقة، لتُضعف القدرات التمييزية للعقل، وتجعلها غير صالحة لأي جهد إرادي، مما يقلّصها إلى حالة من الخمول الوحشي تقريبًا”.
“لم تكن معروفة في الأزمنة السابقة”: كما لو أن ووردزوورث، الدائم التنبؤ، كان سيحذّر من محاولة استخدام كلماته لوصف واقعنا الحالي. كان قلقه متمثلًا في:
“الأحداث الوطنية الكبرى التي تحدث يوميًا، والتزايد المتسارع لتكدّس البشر في المدن، حيث تؤدي رتابة وظائفهم إلى خلق توق للأحداث الاستثنائية، وهو ما تلبّيه سرعة انتقال المعلومات على مدار الساعة”.
وفقًا لووردزوورث، كانت الأدبيات في عصره تتماشى مع روح هذا الشغف. فقد كانت شعبية الروايات العاطفية و”الروايات المحمومة” دليلًا على ما وصفه بـ”هذا العطش المهين للإثارة المفرطة”. هناك إشارة ضمنية إلى التلاعب بالألفاظ في كلمة “after”، التي تعني “بحثًا عن” وأيضًا “نتيجةً لـ”، مما يشير إلى دائرة مفرغة يؤكدها الغموض في الإشارة إلى “هذا العطش المهين”: “هذا العطش المهين” الناتج عن ذلك “التوق للإثارة الاستثنائية”.
لم يكن ووردزوورث يكتب وفي ذهنه منصة تويتر، وأسلوبه الأدبي نادرًا ما يتردد في أوساط “بوك توك” (Book Tok)، ومع ذلك فإن “التوق للإثارة الاستثنائية” يعبّر عن حال “مهووسي التمرير” الذين يواصلون تصفّح الأخبار السيئة بلا توقف. القلق من أن الأشكال الجديدة من وسائل الإعلام تفسد العقل ليس جديدًا، حتى لو لم يكن تيك توك يختلف كثيرًا عن الروايات القوطية.
صديق ووردزوورث وزميله في الإبداع، صامويل تايلور كولريدج Samuel Taylor Coleridge، كانت لديه مخاوف مشابهة بشأن سهولة “القراءة الاعتيادية للروايات”. فقد كان يعتقد أن قراءة الروايات القوطية الرديئة “تؤدي بمرور الوقت إلى التدمير الكامل لقدرات العقل”. بعد مئة عام، كانت الناقدة كويني دوروثي ليفيز Q.D. Leavis أكثر قلقًا، إذ وصفت الأدب الشعبي بأنه “في معظمه ذو طبيعة استمنائية”!، واعتبرت أن عادة قراءة تلك الروايات “شكل من أشكال الإدمان على المخدرات”.
بالنسبة لكولريدج، كما هي الحال بالنسبة لكثير من النقاد الذين يرفضون الأعمال البسيطة فكريًا، كانت سهولة تلقيها هي المشكلة: “عادة الحصول على المتعة بدون أي مجهود فكري، عبر مجرد إثارة الفضول والحساسية”. كتب كولريدج جملًا تتطلب جهدًا لفهمها، في حين أن الجمل في الروايات القوطية كانت “قصيرة وغير مترابطة”، و”سهلة الفهم وفورية”.
“تعفّن الدماغ”، التي أُعلنت ككلمة أكسفورد لعام 2024، هو تعبير جديد لفكرة قديمة، وقد كان وردزوورث يشكو من “خمول العقل” منذ عام 1800 (Getty)
أولئك الذين يكتفون بقراءة مثل هذه الروايات “يقلّصون قدراتهم الخاصة، وفي النهاية ينحدر فهمهم إلى مستوى يرثى له من الغباء”. كان كولريدج يفضل دائمًا مقارنة جوهر الأدب الجاد بفراغ الإثارة التافهة. ففي روايات هنري فيلدينغ وتوبياس سموليت، نجد أن “ملاحظة الحياة الواقعية” هي التي تدعم “مصادر التسلية الدائمة”. أما التسلية في “الرومانسية الحديثة” التي كتبتها آن رادكليف، فكانت “مُثارة بالحيل”.
في النهاية، تفقد الوسيلة الجديدة هشاشتها، لكن كولريدج يهاجم الرواية ويصفها بأنها مجرد شبح. قراءة واحدة منها تشبه “نوعًا من أحلام اليقظة البائسة”.
كل المادة والصور التي تتغذى بها حالة الغفوة العقلية تأتي من الخارج ab extra عبر ما يشبه “غرفة كاميرا مظلمة عقلية” يتم تصنيعها في دار الطباعة، والتي تقوم مؤقتًا بتثبيت وعكس ونقل الأوهام المتحركة لهذيان رجل واحد. هذه الأوهام تنتشر لتملأ جفاف مئات العقول الأخرى، التي تعاني من نفس حالة الغيبوبة أو تعليق الحس السليم والهدف الواضح.
إذا كانت استعارة كولريدج تستبق مفهوم عرض الصور المتحركة، فإن أسلوبه اللغوي (“هذيان”، “مصاب”، “غيبوبة”، “تعليق”) يتنبأ باللغة المستخدمة في نقد الأفلام المبكر لوصف التنويم المغناطيسي والتسمم. لنأخذ مثالًا من الناقد السينمائي المعروف باسم براير (Bryher)، صديق جيمس جويس وعشيق الشاعرة هيلدا دوليت Hilda Doolittle: “إن مشاهدة شيء أصبح عادة منوّمة مغناطيسيًا… لا تختلف كثيرًا عن وجهة نظر متعاطي المخدّرات”. مع أن صياغتها النحوية تبدو محل تساؤل. هل تأتي المشاهدة المغناطيسية قبل العادة أم بعدها؟ يمكننا بسهولة أن نفهم “وجهة نظر متعاطي المخدرات” كأنها منفصلة ومتحجّرة الحسّ.
تحفيز العقل دون بذل أي مجهود
جادلت سوزان سونتاغ بأن الصور الفوتوغرافية يمكن أن تُفقد المشاهد حساسيتَه، أما فيرجينيا وولف، فقد تناولت التأثير الناتج عن عرض 24 صورة في الثانية: “العين تلعقها كلها بشكل فوري، والدماغ، وقد استُثير بشكل ممتع، يستقر لمشاهدة الأشياء التي تحدث بدون أن يكلف نفسه عناء التفكير”. التشبيه بين “لعق العين” لأي شيء يعكس التشويش الحسّي في هذه التجربة: “العين والدماغ يُمزّقان بلا رحمة بينما يحاولان عبثًا العمل معًا كزوجين”.
“قلق إليوت يكرّر المزج بين الطاقات المتناقضة الذي أشار إليه ووردزوورث بـ”الخمول الوحشي”: عقل مرتادي السينما مخدّر ومثقل في آنٍ واحد، غير قادر على الاستجابة”
إن تحفيز العقل دون بذل أي مجهود هو شكوى مألوفة. لكن، على النقيض من كولريدج، أدرك قانون هايز، وهو نظام الرقابة الذاتية لهوليوود، أن استجابة القارئ للكتاب تعتمد بشكل أساسي على إدراكه، بينما “التفاعل مع الفيلم يعتمد على حيوية العرض”. (لم يكن قانون هايز يملك أي ثقة تقريبًا في رواد السينما).
مثلما انتقد كولريدج الروايات التافهة التي تُقرأ لتمضية الوقت، فقد عبّر ألدوس هكسلي Aldous Huxley عن اشمئزازه من سهولة الأفلام، ذلك “الإلهاء الجاهز”: “يغرق عدد لا يحصى من الجماهير بشكل سلبي في حمام فاتر من الهراء. لا يُطلب منهم أي جهد فكري، ولا مشاركة؛ عليهم فقط الجلوس وإبقاء أعينهم مفتوحة”.
كره هكسلي كيف أن “ظلام المسرح، والموسيقى الرتيبة- التي تُحدث، كما هي، حالة أشبه بالتنويم المغناطيسي- تعزّز في عقول المشاهدين الطابع الحلمي لما يرونه على الشاشة”. من اللافت أن كلمة “induces” (يُحدث) تُستخدم أيضًا مع التخدير. فكلمة “مخدّر” anaesthetic اشتُقت في النصف الأول من القرن التاسع عشر من كلمة “جمالي” aesthetic، التي كانت في حدّ ذاتها حديثة العهد.
أما الأحاسيس في رواية “عالم جديد شجاع” لهكسلي فتثير كل الحواس باستثناء التذوق؛ فهي مليئة بالصدمات و”الإثارة الكهربائية”، لكنها تُنتج الخمول. فالمشاهد، الذي يصبح في آنٍ واحد مخدّرًا ومحفزًا بشكل مفرط من خلال “المتعة الكهربائية التي تكاد تكون لا تُحتمل”، يفقد القدرة على إصدار الأحكام “الجمالية”، وهذا أمر مناسب جدًا إذا كنت تدير دولة شمولية.
يبدو أن تي. إس. إليوت كان يتحدث مع نفس سائق الأجرة الذي تحدّث إليه هكسلي أو يقرأ نفس المجلات: فقد كتب في مجلة The Monthly Criteria معبّرًا عن قلقه بشأن عقول أولئك “الذين يُشبِعون أعينهم كل ليلة، بينما هم في حالة من السلبية المطلقة تحت التأثير المغناطيسي للموسيقى المستمرة”.
إن “الرتابة” التي تحدّث عنها هكسلي و”الاستمرارية” التي تحدّث عنها إليوت تستحضر في الذهن إيقاع الطبول الذي يصاحب التعاويذ. فالمشاهد الذي يخضع للتنويم المغناطيسي يصبح تحت رحمة الإيحاء، “مخدّرًا بالموسيقى التي لا معنى لها، والمستمرة، وبالأحداث المتلاحقة التي تفوق قدرة الدماغ على استيعابها”.
جادلت سوزان سونتاغ بأن الصور الفوتوغرافية يمكن أن تُفقد المشاهد حساسيتَه، أما فيرجينيا وولف فقد تناولت التأثير الناتج عن عرض 24 صورة في الثانية (Getty)
قلق إليوت يكرّر المزج بين الطاقات المتناقضة الذي أشار إليه ووردزوورث بـ”الخمول الوحشي”: إن عقل مرتادي السينما مخدّر ومثقل في آنٍ واحد، غير قادر على الاستجابة أو المشاركة في الفيلم. والنتيجة هي “اللامبالاة الخاملة”، فقدان بعض الاهتمام بالحياة، وعندما تستنفد وسائل “العلم التطبيقي” كل ما في وسعها لجعل الحياة مثيرة للاهتمام قدر الإمكان، تكون النهاية “الموت بالملل الخالص”.
لا شك في أن الموسيقى لا تحتاج إلى أن تصاحب الأفلام لإرهاق العقل. فقد كان آلان بلوم يعتقد أن موسيقى مايكل جاكسون، وبرينس، ورولينج ستونز “تدمّر الخيال”: إذ كان “إدمان موسيقى الروك” له تأثير مماثل على الطالب مثل تأثير المخدرات. ومن المؤسف أنه لم يوجه غضبه إلى ألعاب الفيديو. ولم يقم أي ناقد من مكانة إليوت البابوية بإدانة ألعاب الفيديو، على الرغم من أن مارتن أميس قال إنه إذا أجبر على الحكم على أخلاقياتها، فسوف يربطها بـ “الإباحية ومتعها الانفرادية”. وبعد السينما والتلفزيون، كانت ألعاب الفيديو بلا شك الوسيلة التالية التي استحوذت على انتباه “الجماهير”.
ولا شك في أن أمثال هكسلي وإليوت لا يمكنهم أن يشتكوا من أن ألعاب الفيديو لا تنطوي على المشاركة؛ وربما تكون فرص المشاركة أحد الأسباب التي جعلت إدمان ألعاب الفيديو يجد طريقه إلى التصنيف الدولي للأمراض التابع لمنظمة الصحة العالمية. وقد أظهرت الأبحاث العلمية أن هناك بعض الفوائد المعرفية لألعاب الفيديو، ولكن العلم قد يكون ملتبسًا. إذا تمكنت من العثور على مقال يندّد بتأثيرات الهاتف المحمول ووسائل التواصل الاجتماعي، فيمكنني العثور على بيان صحافي صادر عن جامعة يعلن عن دراسة تقول شيئًا مختلفًا. تيك توك هو سبب غير معروف في العصور السابقة؛ لكنه يثير مخاوف قديمة. لحسن الحظ، لدينا الآن كلمة للظاهرة المعنية:
تعفّن الدماغ: التدهور المفترض للحالة العقلية أو الفكرية للشخص، وخاصةً نتيجة الإفراط في استهلاك المواد (خاصة المحتوى عبر الإنترنت) التي تعتبر تافهة أو غير مثيرة للتحدّي.
***
جوش آبي Josh Abbey: كاتب وطالب دكتوراه في اللغة الإنكليزية في جامعة أكسفورد، من أستراليا.
*نُشر هذا المقال على موقع Literary Hub بتاريخ 20-12-2024 على الرابط التالي:
New Media, Old Anxieties: Why is “Brain Rot” the Word of the Year?
***
ملاحظات خاصة بالترجمة:
– أعلنت دار نشر جامعة أكسفورد، المسؤولة عن إصدار قاموس أكسفورد الإنكليزي، بتاريخ 2 كانون الأول/ ديسمبر 2024، عن اختيار مصطلح “تعفّن الدماغ” كـ “كلمة العام” لـ 2024، وذكرت في بيانها ما يلي:
“بعد التصويت العام الذي شارك فيه أكثر من 37,000 شخص، يسرّنا أن نعلن أن كلمة أكسفورد لعام 2024 هي “تعفن الدماغ”. قام خبراؤنا اللغويون بإعداد قائمة مختصرة من ست كلمات تعكس الأجواء والمحادثات التي ساهمت في تشكيل هذا العام. بعد أسبوعين من التصويت العام والمناقشات الواسعة، اجتمع خبراؤنا للنظر في مدخلات الجمهور ونتائج التصويت وبيانات اللغة لدينا، قبل إعلان “تعفن الدماغ” ككلمة العام النهائية لعام 2024″.
– BookTok هو مجتمع فرعي على تطبيق TikTok يركّز على الكتب والأدب.
– “العطش المهين” هو ترجمة تعبيرية لـ”degrading thirst”، للتعبير عن المعنى الأخلاقي والانحدار الفكري الذي قصده ووردزوورث.
– “مهووسو التمرير” هو ترجمة لكلمة “doomscrollers” التي تصف الأشخاص الذين يدمنون تصفح الأخبار السلبية.
– ab extra تُترك كما هي لاتصالها بالسياق الأدبي اللاتيني الذي يشير إلى المصدر الخارجي للمادة. وتعني “من الخارج” أو “خارجيًا”. وغالبًا ما تُستخدم في السياقات الفلسفية والقانونية والنقدية للإشارة إلى شيء يأتي من خارج نظام أو موقف أو منظور معين. على سبيل المثال، في الفلسفة، يمكن أن تصف المعرفة أو التأثير الذي يأتي من مصدر خارجي وليس من داخل النظام أو الموضوع الذي يتم تحليله. وبعبارات أبسط، تعني النظر إلى شيء ما أو فهمه من وجهة نظر خارجية، وليس من الداخل.
– “غرفة كاميرا مظلمة عقلية” تعبّر عن الفكرة الاستعارية لكيفية عمل الروايات كأداة لنقل الهلوسات أو الأوهام من عقل المؤلف إلى القراء.
– تعبير “مشاهدة شيء ما بتنويم مغناطيسي” يُظهر كيف يشبه النقاد السينما الأولى بالتجارب النفسية أو الغيبوبية، التي تغمر المشاهد بدون وعي.
– ربط “وجهة نظر متعاطي المخدرات” مع المشاهدة يشير إلى حالة من الانفصال أو اللامبالاة، مما يعكس طبيعة التجربة السينمائية الأولى بالنسبة للبعض.
– تشبيه فيرجينيا وولف “العين تلعق” يعكس بشكل إبداعي الإشباع اللحظي للحواس من خلال الوسائط البصرية، لكنه يبرز أيضًا افتقارها إلى التحليل العقلي العميق.
– الإشارة إلى قانون هايز تكشف عن الحذر الشديد الذي كانت هوليوود تبديه تجاه تأثير الأفلام على الجمهور، مقارنةً بالثقة النسبيّة التي توضع في القارئ.
– تعبير “حمام فاتر من الهراء” يشير إلى النبرة الساخرة لهكسلي، التي تُدين انغماس الجمهور في محتوى فارغ بلا أي تفكير.
– التشبيه بـ”الموت بالملل” يعكس رؤية ساخرة وحادة لتأثير الوسائط الترفيهية على الحياة اليومية، وكيف تنتهي إلى استنزاف الروح.
المترجم: دارين حوماني