سيوران وخفة الوجود التي لا تحتمل
يعدّ إميل ميشيل سيوران واحدًا من الفلاسفة الأكثر تمثيلًا للحياة الثقافية الأوروبية في القرن العشرين، رغم أنه يقدم نفسه كاتبًا حرًا ومتشككًا حقيقيًا وليس فيلسوفًا، اختار منذ البداية أن يبحث في صيرورة الوجود بأسلوب يطبعه الرفض والاحتجاج العنيد على الفلسفة المنهجية. ظل طوال حياته الكتابية غاضبًا وحزينًا ومتحمسًا في الوقت نفسه، نوعًا من المراهق الأبدي، منعزلًا واجتماعيًا، “صوفيًا فاشلًا” يعرف كيف يفكر ويكتب بشكل جيد للغاية. تنبض كل أعماله بالمرارة والغضب والاشمئزاز والندم واليأس، ولكنها تتنفس أيضًا، بشكل غامض، الفكاهة والحب والأمل. كان يقول إنه يكتب “للشباب وعمال النظافة”، أي للناس في “العالم الحقيقي”، على الرغم من أنه درس الفلسفة وقام بتدريس القليل منها، إلا أنه لم يدعي أبدًا مكانة الفيلسوف ولم يشارك أبدًا في المناقشات الفكرية. فحسب رأيه، من واجب الفلسفة أن تتعامل مع التجربة اليومية الملموسة التي يعيشها الإنسان، ولا يجب أبدًا اختزالها إلى معرفة مجردة مبنية على مفاهيم جوفاء بدون مضامين حية مثل المشاعر والعواطف.  وبالنسبة إليه، الفلسفة هي انعكاس متواصل للحياة وللكائن الذي تجاوز أفق العدم. في هذا السياق، نقدم في ما يلي ترجمة لهذا المقال الذي كتبه أستاذ الفلسفة والكاتب والباحث الإسباني رافاييل ناربونا، والذي يلقي فيه إضاءة جديدة ونظرة أخرى على بعض الأسئلة التي تثيرها مقاربة سيوران الفلسفية الأصيلة في بحثه المستمر عن المعنى.

(ترجمة وتقديم: نجيب مبارك)

عانى إميل سيوران من رعب الكون نفسه الذي عانى منه بليز باسكال.  كان التناقض بين اتساع الكون وتفاهة الإنسان لا يطاق بالنسبة له، وبدا له الوجود الفردي مضحكًا من منظور الزمان والمكان. فمن وجهة نظره، ليست الحياة مجرد نتيجة للصدفة. علاوة على ذلك، فهي تشكل لا شيء، بقعة صغيرة وسط عاصفة هائلة. كل ما يبزغ إلى الوجود، ويحتل مكانًا، ليس له أي صلة في مسار الصيرورة.  وميض قصير في تدفّق لا نهائي، لحظة مصيرها أن تُمحى من دون أن تترك أثرًا.  أن تولد يعني أن تنحدر إلى الأسفل، وأن تصبح غير واضح في كوكبة من التفاهات.
يؤكد سيوران أن ضخامة الكون تقودنا إلى اليأس. إذا كانت هناك ملايين المجرات، فلا يمكن أن تعزى أي قيمة لأي من تلك التجمعات من النجوم والكواكب وسحب الغاز والغبار الكوني والمادة المظلمة والطاقة المرتبطة معًا بمجالات الجاذبية.  تُحدّد قيمة الشيء على أساس تفرده. أما الوفرة فهي مرادفة للتفاهة. كما أن فكرة الخلود لا تخفف من استياء سيوران. والحياة الآخرة المكتظة بالسكان لا تحل مشكلة عدم أهمية الفرد والواقع، ذلك أن الحقيقة صعبة ومذلة. وفي مواجهة هذه البانوراما، لا يمكن للصحوة أن تتنازل إلا عن احتمالين:  الضحك والانتحار.  الضحك لا يقدم أي حل، لكنه يخفف من القلق ويوفر لياقة معينة، لأنه من الأفضل أن تضحك على الموت بدلًا من أن تلقي الرماد على رأسك وتئن بلا عزاء.  ليس هناك أجمل من إطلاق الضحكة بين فكّي الهاوية. والانتحار يحررنا من عبثنا. العدم هو كلية مكتفية بذاتها، امتلاء تام لا يعرف حدودًا. إن التبدد في أراضيه غير المحسوسة يعفينا من أن نكون شيئًا صغيرًا في مجال واسع يتجاهلنا.
هل كان سيوران على حق؟ هل يمكن القول إن الولادة نكوص فعلًا؟ هل الفرد حقًا خارج الموضوع؟ هل نعيش في كون مشبع بالتفاهات؟ أشارت حنة أرندت إلى أنه لا يوجد شخصان متطابقان.  وعلى الرغم من أن جنسنا البشري يرفض الاعتراف بذلك، إلا أن شيئًا مشابهًا يحدث مع الحيوانات. في كتابها “غوريلا في الضباب “، أظهرت ديان فوسي أن هنالك اختلافات كبيرة بين الأفراد في المجموعة.  هو ليس تكرارًا بسيطًا لنموذج أو صورة نمطية.  إن الذكر الفضي الذي يمارس القيادة برباطة جأش وذكاء يزيد من فرص التماسك والبقاء، بل على العكس من ذلك، فإن القيادة السيئة قد تؤدي بالجماعة إلى التشتت والموت. والولادة حدث حاسم.  فهي مصدر تجديد الحياة ومرتع الفرص.  ومن دون هذا التعدد الذي يرعب سيوران، لم يكن التنوع ليوجد، ومن بين أمور أخرى، لم يكن من الممكن أن يظهر قادة جيدون أو تعلو أصوات كبار الشعراء الغنائيين.

بفضل الشعراء، نعلم أنه لا يوجد شيء غير مهم. يعلّمنا والت ويتمان أن العمل الصامت والصبور الذي يقوم به العنكبوت يملأ “محيطات لا حصر لها من الفضاء”. بينما تكشف لنا إميلي ديكنسون أن نبات النفل هو دائمًا شكل أرستقراطي للنحلة. ويجعلنا رالف والدو إيمرسون نلاحظ أن أوراق الأشجار تحوّل الجداول إلى ألوان مائية. لا شيء مبتذلًا، لا شيء يثير الضحك.  الريح ليست ظاهرة جوية بسيطة، ولكنها معجزة تحرّك العالم.  لولا الريح، لم يكن أوديسيوس ليعود إلى إيثاكا.  لولا الريح لما قطعت الحياة مسافات كبيرة لتنتشر بصمت وتكتّم.  لا شيء يبقى، لكن الانقراض لا يكون بلا جدوى أبدًا.الأشكال التي تختفي تفسح المجال لأخرى، مما يضمن استمرارية المستقبل.
سيوران كاتب نثر عظيم، لكن نظرته لا تلاحظ الجمال الفريد للأشياء، هو ثمل بعدميته، ويستخدم الكلمات للهدم وليس للاحتفال. عندما يتأمّل الإنسان، لا يقدّر روحه المبدعة التي قدّمت لنا المعجزات مثل موسيقى باخ وبرامز، وهما الملحّنان اللذان كان معجبًا بهما، بل يقدر رائحة الجثة المتأصلة في تناهيه. ورغم أنه يدعي احتقار الخلود، إلا أنه لا يخفي الكآبة التي يولدها الخريف في نفسه. ويؤكد أنه لا يمكن النظر إلى تساقط أوراق الشجر من دون أن نتذكر أن ساعاتنا معدودة.  وفي اندفاعة من الصدق، اعترف مرّة: “لن أفهم أبدًا كيف يمكنك أن تعيش وأنت تعلم أنك لست خالدًا على الأقل”. إن الكون هو العمل الفاشل للديميورغ، رجس “القملة” التي تتظاهر بأنها سيدة التاريخ والطبيعة. ينكر سيوران المعرفة المرحة لنيتشه. تبدو له اللحظة سيئة للغاية.  إن مقولة “هنا والآن” ليست شكلًا من أشكال الامتلاء، بل هي تعبير عن الفساد.  لا يمكن تعويض تفاهة الحياة بلحظة سُكر. إن حكمة نيتشه المأساوية ليست سوى إشارة إلى العجز. أما معرفة عبثية العالم وتمجيد تلك الفكرة باعتبارها اكتشافًا فلا تمثّل مكسبًا، بل اعترافًا بالهزيمة.
يشير سيوران إلى أنه لا يمكن القول بأن الحياة لا معنى لها، وفي الوقت نفسه، هو يفترض عقيدة حبّ القدر، التي بموجبها يجب علينا أن نحب كل ما هو كائن، أو كان، أو سيكون. وقد استبق نيتشه هذا الاعتراض، مشيرًا إلى أن الحياة بالتأكيد خالية من المعنى، لكن ذلك لا يعني أن لا قيمة لها. في الواقع، الحياة هي المطلق الوحيد وعلينا أن نطيع أمرها: توسيع قوّتنا، تطوير طاقتنا الإبداعية، التغلّب على أي عقبة. من ناحية أخرى، يعتقد سيوران أنها مضيعة للوقت إذا كانت تهدف إلى أي شيء، أو تخلق شيئًا ما، أو تحارب الشدائد. والرجل الحكيم، الذي يعرف أن الحياة عبثية بشكل يائس، لا يمكنه إلا أن يزرع السخرية والازدراء والعقم. إن فلسفة نيتشه المأساوية ليست بديلًا جيدًا لدحض عدمية سيوران، لأنها تحصر الحياة في القمع والقسوة و”إخضاع ما هو غريب وأضعف”. والولادة لا تعني السقوط بسبب إرادة القوة التي تحرك كل الكائنات الحية، بل تعني أن كلّ من يقتحم الحياة يشارك بشكل مشترك في الجهد الإبداعي للحفاظ عليها.

حنة آرندت (Getty)

يشير هنري برغسون في كتابه “التطور الإبداعي إلى أن جميع الكائنات، من أكثرها عنصرية إلى أكثرها تعقيدًا، “لا تفعل شيئًا أكثر من إظهار دافع فريد لأعيننا […] شحنة ساحقة، قادرة على الإطاحة بكل مقاومة والتغلّب على العديد من العقبات، وربما حتى الموت”. بينما سيوران لا يلاحظ الآخر أبدًا. إنّ جنون العظمة الذي يعاني منه لا يَعتبر الخلود مُرضيًا، لأن العيش إلى الأبد بين كثيرين آخرين لا يبدو شيئًا مميّزًا بالنسبة له.  إنه لا يفهم أن قيمة الوجود الفردي لا تكمن في تمدّد الذات، بل في المساهمة التضامنية لاستكشاف الحياة. لا يوجد شيء غير ذي صلة، كما كتب برغسون: “الحيوان يرتكز على النبات، الإنسان يركب الحيوان، والإنسانية جمعاء، في المكان والزمان”. ويشكل سيوران، بأقواله المليئة بالذكاء، وتشاؤمه المشوب بالفكاهة، جزءًا من هذا الدافع. لقد أدّت كلماته إلى ظهور كلمات أخرى تحافظ على حياة الفكر واللغة. ومن دون الوميض الخاطف للفرد، فإن التدفق اللانهائي للوجود سوف ينهار. ومن يدري إلى أي مدى تصل الحياة؟ ربما يكون الموت مجرد حلقة أخرى في الخليقة اللانهائية.

*نشر المقال في موقع مجلة “إل كولتورال” الإسبانية، بتاريخ 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.