ساهمت سيطرة الحاكم المصري محمد علي باشا على بلاد الشام، خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر، في إثارة انتباه بريطانيا إلى أهمية فلسطين كحاجز جغرافي بين مصر والشام ، وقبل سنة من شن لندن الحرب على الحاكم المصري لإخراجه من الشام أعطت الحكومة البريطانية عام 1839 التعليمات إلى القنصل في القدس بأن يكون ضمن صلاحياته “حماية اليهود “. ازداد هذا الاهتمام البريطاني بفلسطين بعد شراء لندن عام 1875حصة الخديوي إسماعيل في شركة قناة السويس، ثم مع سيطرة البريطانيين على مصر بعد ثماني سنوات، وما أعقب هذا من مشروع طرحته الحركة الصهيونية بعد قيامها عام 1897 على لندن، التي أقلقها مشروع خط سكة حديد برلين- بغداد ومارافقه من تقاربات بين الدولة العثمانية والألمان منذ عام 1898، لبناء خط سكة حديد يمتد من فلسطين بعد قيام “الدولة اليهودية ” إلى الهند عبر العراق وبلاد فارس ويقل في استغراقه الزمني عن الطريق البحري بخمسة أيام.
ولكن لندن لم تحزم أمرها في تبني المشروع الصهيوني إلابعد أن قررت قتل “الرجل المريض العثماني” إثر تقارباته مع الألمان، وهي التي حمته طوال القرن التاسع عشر ضد نابليون بونابرت ومحمد علي باشا والقياصرة الروس، وقد أتى وعد بلفور عام 1917 في السنة التالية على (سايكس- بيكو) وفي خضم الحرب العالمية الأولى التي وقف فيها العثمانيون مع الألمان ضد البريطانيين .
هنا، وفي عام 1922 أشارت صحيفة “التايمز” البريطانية إلى الخطورة على المدى البعيد لما يمكن أن يؤول إليه وعد بلفور عندما يضع ” توراة موسى في مواجهة قرآن محمد “.
يومها لم يلتفت أحد إلى ما أشارت له الصحيفة البريطانية في ظل أن أول من طرح فكرة “الوطن اليهودي” كان هو (موزس هِس) في عام 1862 بكتابه: “روما وأورشليم: دراسة في القومية اليهودية”، وهو صديق كارل ماركس وهو الذي أتى بفريدريك إنجلز إلى الفكر الاشتراكي بالأربعينيات، وكان يحمل فكراً إلحادياً أثناء مرحلة انخراطه في حركة (الهيغليين الشباب) بالثلاثينيات قبل تحوله للفكر الاشتراكي، ولم يكن طرحه في كتابه المذكور لفكرة “كومونويلث يهودي اشتراكي زراعي” في فلسطين ناتجاً عن نزعة تدين يهودية عنده، بل عن ردة فعل على نزعة العداء لليهود في المجتمع الألماني بالستينيات مع صعود الموجة القومية وهو ما جعله يطرح فكرة أن “اليهود سيظلون غرباء في أوروبا .. وأن الحل للمسألة اليهودية يكون في فلسطين عبر إقامة كومونويلث يهودي اشتراكي زراعي.. وأن اليهود لن يُقبلوا من الآخرين مالم يكن لهم وطن”. في هذا الكتاب لم يعتبر موزس هس أن اليهود هم جماعة دينية بل اعتبرهم جماعة قومية وكان العنوان الفرعي لكتابه دالاً على ذلك.
في هذا الاتجاه كان تيودور هرتزل بكتابه: “الدولة اليهودية” عام 1896 وفي تأسيسه للحركة الصهيونية بالعام التالي، حيث كان مثل (هس) ملحداً أو لاأدَرياً ولم يكن متديناً، وقد أتت صهيونيته من “نزعة العداء لليهود” التي ظهرت في أثناء قضية دريفوس بالتسعينيات في فرنسا، وهو مثله، نظر لليهود كجماعة قومية وليست دينية، وعلى هذا المسار مع نزعة يسارية عمالية صهيونية كان دافيد بن غوريون، وحتى شخص في اليمين الصهيوني القومي، مثل زئيف (دافيد) جابوتنسكي، لم يكن متديناً، ولو أن تلميذه مناحيم بيغن قد مال للتدين الخفيف ولكن نزعته القومية اليمينية الصهيونية ظلت هي الغالبة عنده.
هذا الذي وجدناه عند جابوتنسكي وبيغن لم يستمر مع شارون في ظل اتجاهه لتزويج اليمين القومي الصهيوني مع الأحزاب الدينية اليهودية (الحريديم) أثناء رئاسته للحكومة الإسرائيلية 2001-2006 وهو ما تابعه ناتنياهو في أثناء رئاسته للحكومة بفترة 2009-2021 ثم مع عودته لرئاسة الوزارة أواخر عام 2022 بالتحالف مع الأحزاب الدينية ومع تيار الصهيونية الدينية الذي يمزج القومية والدين، وكلاهما، أي شارون ونتنياهو، ابتعدا عن العلمانية، واتجها نحو تبني “يهودية دولة إسرائيل” في ظل اضمحلال شهده القرن الواحد والعشرون لحزب العمل الإسرائيلي ولقوى أخرى سواء كانت حركات صهيونية علمانية- ليبرالية، مثل حركة شينوي، أو حركات صهيونية علمانية – يسارية مثل حزب ميرتس.
بالتزامن مع صعود شارون وناتنياهو وسموتريتش وبن غفير، صعدت (حركة المقاومة الإسلامية – حماس) إلى واجهة الساحة السياسية الفلسطينية، وفي انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني بعام 2006 فازت بأغلبية المقاعد في قطاع غزة والضفة الغربية، بعد أن كان الفلسطيني منذ عام 1948 قد سلًم أمره للعروبة بفرعيها الناصري والبعثي ضد إسرائيل ثم بعد هزيمة 1967 ومع صعود حركة فتح وتسلم ياسر عرفات الزعامة في منظمة التحرير الفلسطينية عام 1969 قد وضع (الوطنية الفلسطينية) في الواجهة بالتزامن مع صعود اليسار الفلسطيني بزعامة جورج حبش ونايف حواتمة.
ما يلفت النظر هنا هو تزامن صعود النزعة الإسلامية الفلسطينية، التي تعتبر فلسطين “قضية إسلامية، وليست فلسطينية أو عربية، وتعتبر أرض فلسطين وقفاً إسلامياً”، مع صعود النزعة الدينية وطغيانها في الحياة السياسية الإسرائيلية ووجودها في مسارات ثلاثة: الليكود -الأحزاب اليهودية الدينية- الصهيونية الدينية، شكًلت الغالبية البرلمانية منذ عام 2009، ثم كانت أقوى وأكثر بروزاً بعد انتخابات الكنيست في يوم 1 تشرين الثاني/نوفمبر 2022، والأرجح أن صعود الإسلام السياسي الفلسطيني هو رد فعل على صعود النزعة الدينية اليهودية وطغيانها بأشكالها الثلاثة في الحياة السياسية الإسرائيلية ومحاولة لملء الفراغ بعد فشل منظمة التحرير الفلسطينية بفرعيها الفتحاوي واليساري منذ (اتفاق أوسلو) عام 1993 في نيل الحقوق الوطنية الفلسطينية.
هنا، إذا عدنا إلى ما قالته قبل قرن من الزمن صحيفة “التايمز”البريطانية… فهل كان هذا ما يريده أرثر بلفور، وزير الخارجية البريطاني، عندما أعطى ذلك الوعد؟ أي بريطانيا، التي زرعت في مناطق متعددة من العالم ألغاماً متفجّرة، مثل شبه القارة الهندية مع تقسيم الهند- باكستان ومع قنبلة قضية كشمير ومثل سودان ما بعد استقلال 1956. وعلى الأرجح كانت بريطانيا واعية لمدى ومآلات اللغم المتفجر، الذي اسمه “الدولة اليهودية”، الذي وضعت بذرته في جسم المنطقة مع وعد بلفور وقامت بسقايته وتنميته أثناء الانتداب البريطاني على فلسطين.