مع انتهاء العام 2024 نكون قد طوينا ثلاثة أسابيع على سقوط نظام الأسد. لم نشبع بعد من فرحة التحرر من نظام أكل جل أعمار الغالبية الكبرى من السوريين. ها هي الحرية التي تحولت من مجرد حلم إلى حقيقة نمسك بها ونتنفس هواءها، ولا نعرف كيف نعيش فيها.
يظهر هذا الذهول أمام الحرية التي باتت واقعاً في تعبيرات ومسالك معظم السوريين. حتى الجماعة المسلحة التي حققت النجاح، هيئة تحرير الشام، تبدو مرتبكة أمام حجم التحديات والمهمات وتشعبها، تتدرب على حكم سوريا بعد تجربة الحكم المديدة في بقعة صغيرة محاصرة في حالة طوارئ دائمة راكمت عليها سجلاً من التصفيات ضد مجموعات مسلحة أخرى ومن قمع تعبيرات السكان عن احتجاجهم.
لكن أكثر ما يلفت النظر هو غياب شبه تام لتمثيلات القوى السياسية المعارضة للنظام المخلوع من خارج هيئة تحرير الشام والفصائل الحليفة، ويقتصر الأمر على تعبيرات فردية على وسائل التواصل الاجتماعي لأشخاص مبعثرين يساهمون في التعليق على الأحداث ويعبرون عن تطلعاتهم للشكل الذي يريدون أن تكون عليه سوريا ما بعد الأسد، وعن هواجسهم من تفرد المجموعة الحاكمة بالسلطة وخشيتهم من احتمال قيامها بصياغة لشكل الدولة بصورة منفردة مستمدة من خلفيتها الأيديولوجية.
سارع أحمد الشرع، قائد هيئة تحرير الشام، إلى تشكيل حكومة هي نفسها حكومة الإنقاذ التي كانت تحكم محافظة إدلب، فكانت هذه أول إشارة إلى خارطة الطريق التي في ذهنه، وتتضمن أيضاً «مؤتمراً للحوار الوطني» يشكله كما يريد منطلقاً من رؤية للمجتمع السوري تراه عبارة عن «مكونات» دينية ومذهبية وإثنية، بلا تيارات سياسية أو أيديولوجية ولا رؤى متباينة لمستقبل سوريا أو تعبيرات عن المجتمع المدني. ويبدو الشرع مستعجلاً لعقد هذا المؤتمر للحصول على ما يكفي من الشرعية للمضي قدماً في مشروعه السياسي الذي يمتنع إلى الآن عن إعلان تفاصيله بوضوح. وقال في لقائه مع قناة العربية الحدث إنه سيعلن عن حل الهيئة في هذا المؤتمر، مراهناً على ما يبدو على أن تحذو حذوه الفصائل المسلحة الأخرى، فتحل نفسها وتندمج في إطار جيش وطني قيد التشكيل.
كذلك يتوقع الشرع أن يصدر المؤتمر قرارات كوقف العمل بالدستور وحل مجلس الشعب واختيار وزراء «حكومة انتقالية» تحل محل حكومة تصريف الأعمال القائمة اليوم، على أن تأتي بعد ذلك خطوات صياغة دستور جديد (في ثلاث سنوات! كما خمّن في المقابلة المشار إليها) ثم انتخابات برلمانية (بعد أربع سنوات!). يمكن ترجمة هذه الإشارات على أنها خطة عمل لفترة لا تقل عن أربع سنوات يقود فيها سوريا كحاكم بمساعدة حكومة تنال شرعيتها من مؤتمر يقوم بنفسه بتحديد إطاره التمثيلي وبرنامجه، في حين لا يرى أنه هو نفسه في حاجة إلى شرعية تتجاوز شرعيته الثورية كقائد فوق الحكومة.
إن سوريا والسوريين دخلوا عالم السياسة بكل تعقيداته، بعد ستين عاماً من حرمانهم من المساهمة في تقرير مصيرهم. على السوريين أن يتعلموا ممارسة السياسة الآن بدلاً من الاكتفاء بالنق
على أننا لاحظنا في تعامله مع الهجمة الدبلوماسية من الدول الإقليمية والدولية في اتجاه دمشق الجديدة أنه يولي أهمية كبيرة لنيل الشرعية الدولية بما يفوق اهتمامه بالشرعية الوطنية ربما لاعتقاده بأنه قد نالها فعلاً منذ سقوط نظام الأسد. وما لا يظهر على السطح الآن إنما هو شرعيته «الداخلية» في بيئة الفصائل المسلحة بالذات، سواء داخل الهيئة أو في الفصائل التي شاركت معها في عملية «ردع العدوان» وهذه ربما غير محسومة تماماً، الأمر الذي قد يفسر قيامه بتعيينات أثارت الجدل لمقاتلين غير سوريين. لعله في ذلك أراد نزع فتيل صراعات داخلية محتملة، من خلال عزلهم عن جسم التنظيم ووضعهم «تحت الأنظار». هذا لا يعني تبريراً لما هو غير قابل للتبرير، بل مجرد محاولة للفهم. ذلك أن الحفاظ على السلطة يتطلب سياسات متعددة المستويات، مع الدول، ومع المجتمع بتنوعه، ولكن قبل كل شيء تأمين قبول «أهل السلطة» أو القدرة على إخضاعهم.
ونفهم من تصريحات الشرع أنه لم يعد ثمة حاجة لمعارضة سياسية بعد سقوط النظام، مع أنه يدرك ولا بد أن ثمة معارضة ستتشكل للحكم الجديد بحكم طبيعة الأشياء، وربما معارضات متباينة المصالح والتوجهات. لكنه خص الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة بالذات لأنها المعارضة الوحيدة المؤطرة التي تتمتع باعتراف دولي وأعلنت عن رغبتها في المشاركة في ثمرة نصر لم تشارك في تحقيقه، فضلاً عن افتقادها لأي صفة تمثيلية شعبية. فأعلن رفضه لمشاركتها في المؤتمر الوطني بوضوح، مع ترك الباب مفتوحاً أمام مشاركة شخصيات من الائتلاف بصفتهم الفردية، الأمر الذي رفضه الائتلاف.
في ضوء هذا التطور يمكننا أن نتوقع أن يتمكن الشرع من فرض المؤتمر بالشكل الذي يريده، على رغم أنه سيلقى على الأرجح رفضاً في الرأي العام لا يمكن التكهن بحجمه. وفي غياب أي قوى معارضة منظمة ذات وزن ستبقى الاعتراضات فردية ومبعثرة، مقابل نيل السلطة قبولاً من «المكونات» التي يراد تمثيلها للتنوع السوري بديلاً عن التمثيل الديمقراطي.
الشيء الوحيد الذي يمكن تأكيده بصرف النظر عن التطورات المحتملة في الأشهر القادمة، هو أن سوريا والسوريين دخلوا عالم السياسة بكل تعقيداته، بعد ستين عاماً من حرمانهم من المساهمة في تقرير مصيرهم. على السوريين أن يتعلموا ممارسة السياسة الآن بدلاً من الاكتفاء بالنق، فتكون لهم كلمتهم في شكل الدولة التي يطمحون إلى تأسيسها، وفي اختيار ممثليهم في السلطة، وفي العمل على نيل حقوقهم بدلاً من انتظار الحاكم ليتكرم بها عليهم أو يمنعها عنهم.