تعد العلمانية من المفاهيم المثيرة للجدل، سواء على مستوى السياق الأوروبي الذي نشأت فيه أو على مستوى تطبيقها في مجتمعات ذات خلفيات ثقافية ودينية مغايرة، مثل المجتمع السوري.
لفهم العلمانية بشكل دقيق، لا بد من تحليل جذورها التاريخية في أوروبا، ثم استعراض التحديات التي تواجه تطبيقها في سياقات اجتماعية مختلفة.
يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على نشأة العلمانية في أوروبا، تطورها وأثرها، والتحديات التي تواجه تطبيقها في سوريا، مع التركيز على الفروقات الجوهرية بين السياقين.
أولاً: العلمانية في السياق الأوروبي
نشأت العلمانية في أوروبا، خلال القرون الوسطى، كرد فعل مباشر على الهيمنة المطلقة التي مارستها الكنيسة على مختلف مفاصل الحياة.
كان المجتمع الأوروبي يعاني حينها من قمع فكري وسياسي واقتصادي، فقد سيطرت الكنيسة على العلم والفكر والسياسة وحتى الاقتصاد.
استُخدمت السلطة الدينية أداةً لقمع الحريات وتعطيل التقدم العلمي، مما دفع الشعوب الأوروبية للبحث عن نظام يضمن لهم الحرية والانفصال عن الكنيسة.
أصل الفكرة وتطورها
جاءت العلمانية كفكرة تهدف إلى فصل رجال الدين عن شؤون الدولة، لكنها لم تكن دعوة لإلغاء الدين من الحياة العامة، بل كانت في أصلها محاولة لتحقيق التوازن بين الدين والدولة.
إلا أن تطور العلمانية لاحقاً أخذ منحىً مختلفاً، إذ أصبحت تتجه نحو علمنة الاقتصاد والمجتمع، فقد أدت إلى فصل القيم الأخلاقية عن المجالات الاقتصادية والسياسية، مما أحدث خللًا في تركيبة المجتمعات الأوروبية.
ثانياً: العلمانية وأثرها على المجتمع الأوروبي
مع مرور الوقت، أسهمت العلمانية في تحرير المجتمعات الأوروبية من الهيمنة الكنسية، إلا أن تبعاتها الاجتماعية كانت معقدة، فقد اتجهت المجتمعات الأوروبية تدريجياً نحو نزعة مادية وفردية، وحدث تفكك في القيم الأخلاقية والمجتمعية.
وفي دراسة معمّقة للباحث الدكتور عبد الوهاب المسيري حول العلمانية كان قد أشار إلى أنها تؤدي تدريجيًا إلى فصل الأخلاق عن الحياة العامة، مما يضعف التماسك الاجتماعي ويُشجع النزعات الفردية على حساب القيم الإنسانية.
على الرغم من النجاحات الاقتصادية والتكنولوجية التي حققتها المجتمعات الأوروبية، إلا أن العديد من الآفات الاجتماعية برزت كنتيجة مباشرة أو غير مباشرة للعلمانية، من بين هذه الآفات انتشار ظاهرة الإدمان، التحول الجنسي، وانهيار القيم الأسرية، مما أثار تساؤلات حول مدى ملاءمة هذا النموذج لسياقات ثقافية ودينية مختلفة.
ثالثاً: تحديات تطبيق العلمانية في سوريا
يختلف السياق السوري بشكل كبير عن السياق الأوروبي، مما يجعل تطبيق العلمانية وفق النموذج الأوروبي تحدياً كبيراً إذ يتميز المجتمع السوري بتركيبة دينية وثقافية تستند إلى روح الدين الإسلامي، الذي يشكل الإطار القيمي الأساسي للمجتمع.
في الوقت نفسه، لا توجد في سوريا سلطة دينية مهيمنة كتلك التي مثلتها الكنيسة في أوروبا خلال القرون الوسطى، مما يجعل محاكاة النموذج الأوروبي غير ملائمة كلياً مع التنويه على أهمية التمييز بين المصطلحات، فالدولة المدنية على سبيل المثال قد لا تعني بالضرورة دولة علمانية، ولكن من الممكن أن تكون دولة مدنية تستمد قوانينها من أديان وشرائع وعرف وتقاليد المجتمع.
التحديات الثقافية والاجتماعية:
الدين والعادات: يشكل الدين الإسلامي والعادات المرتبطة به جزءاً لا يتجزأ من هوية المجتمع السوري، تطبيق العلمانية بنموذجها الأوروبي قد يؤدي إلى تصادم مع القيم الثقافية والدينية التي تحكم المجتمع.
التجربة التاريخية: خلال حقبة الديكتاتورية التي مرت بها سوريا عانى السوريون لعقود من قمع سياسي واجتماعي أدى إلى تدهور القيم الأخلاقية وتفشي الانحلال وخصوصاً بعد الظروف القاهرة التي أثرت سلباً على التركيبة الاجتماعية خلال سنوات الحرب ضد الديكتاتورية وسلطة النظام البائد، وهو ما يجعل الحاجة إلى قوانين تستمد روحها من الدين أكثر إلحاحًا لإعادة تمكين الهوية الثقافية التي تضمن تماسك المجتمع والتي تضمن له المضي قدماً في التطور والبناء والتقدم.
رابعاً: بدائل العلمانية في السياق السوري
يمكن للمجتمع السوري استلهام نماذج مختلفة تتوافق مع طبيعته الثقافية والدينية من دون الوقوع في محاكاة غير مدروسة للنموذج الأوروبي، من بين هذه النماذج:
النموذج الماليزي:
نجحت ماليزيا في تحقيق نهضة اقتصادية واجتماعية مع قدرتها على الحفاظ على هوية إسلامية واضحة.
يعكس هذا النموذج إمكانية التوفيق بين التنمية الاقتصادية والتمسك بالقيم الدينية وثقافة وهوية المجتمع.
النموذج التركي:
رغم تبني تركيا للعلمانية منذ عهد مصطفى كمال أتاتورك، إلا أن الحكومات الحديثة أعادت إدماج الدين في الخطاب الرسمي والسياسات العامة بشكل متوازن.
تركيا اليوم تقدم نموذجاً لدولة ذات مؤسسات مستقلة، من دون التخلي عن القيم الأخلاقية للمجتمع التركي.
خامساً: أهمية التشريع المستند إلى القيم الدينية
يمكن للدين أن يشكل إطاراً أخلاقياً وقيمياً يسهم في وضع قوانين مدنية تستمد جوهرها من روح الدين، مع مراعاة تطورات العصر واحتياجات المجتمع.
فالدين تحدث في كل حالات المجتمع بشكل أو بأخر فيمكن الاستعانة به مع مراعاة الظروف المعاصرة لتعزيز العدالة والمساواة من خلال صياغة دستورية قانونية تعكس روح العدالة وتحترم حقوق جميع الطوائف والأديان وتضمن تحقيق التوازن بين الحرية الفردية والقيم الأخلاقية وتعزز القوانين التي تحارب الفساد واحتكار السوق، وتدعم الطبقة الفقيرة.
أخيراً، إن تبنّي النموذج العلماني الأوروبي في سوريا خلال هذه الفترة الحرجة يحمل مخاطر متعددة أبرزها: فقدان الهوية الثقافية والدينية وهذا ما لايناسب الأغلبية، وفي المقابل، يمكن للسوريين البحث عن نموذج مدني يناسب طبيعة مجتمعهم واحتياجاتهم يرضي تطلعات الجميع يُصاغ بعقد اجتماعي جامع ولايكون تقليد لمجتمع أخر، في حين يبقى التحدّي الأكبر هو تحقيق التوازن بين الحرية الفردية والقيم الأخلاقية، بما يضمن بناء مجتمع عادل ومتماسك