لم يرتبط دخول الفكرة العلمانية في الوعي العربي الحديث بدوافع خارجية، أو بأسباب خارجة عن إرادته، أو نابعة من الضغط الاستعماري والتغريب الثقافي. فهي انطلقت من مفكرين وسياسيين وطنيين، أدركوا بحسهم العميق انحلال الروابط الاجتماعية العامة في مجتمعاتهم، وعجز المفاهيم التقليدية السياسية المشتقة من الرؤية التي كانت سائدة للدين، عن تكوين العصبية الضرورية لإعادة لِحَم التضامن، وترسيخ علاقات الاخوة الوطنية التي لا بد منها لتسيير أي مجتمع مدني. بمعنى أن هؤلاء الرواد تعاملوا مع العلمانية من حيث تطورت إلى مفاهيم حققت التقدم المدني، وأسست للوحدة الوطنية، وصنعت التقدم العلمي ومعطياته.
يقول الافغاني : ” ولا ملجأ للشرقي في بدايته أن يقف موقف الأوربي في نهايته، بل ليس له إلا أن يطلب ذلك “. فهؤلاء الرواد نظروا إلى العلمانية على إنها الوسيلة لتجديد الأسس الأخلاقية والروحية للاجتماع المدني الإسلامي والعربي، ولإعادة بناء السياسة وأخلاقها كنشاط متميز في مجتمعات خمدت فيها الروح، روح الوطنية والعصبية الجامعة من أي نوع .
والتقت هذه الفكرة – في ذهن المفكرين المسلمين المحدثين – مع العقيدة الاسلامية التقليدية التي ترفض الكهنوت، وترتبط بتأكيد حرية العقل وحقه في الاجتهاد، وما كان لها أن تثير لديهم مشكلة ضميرية أو دينية. واعتبروها، بالعكس، من الأمور التي سبق بها الاسلام المجتمعات الغربية الحديثة، ولم يشعروا أن تناقضاً يمكن أن يحصل بين الاسلام وبين مبدأ الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية.
الفصل لا الانفصال، بمعنى التمييز بينهما على حد تعبير” محمد عمارة”. وخير من يصف لنا هذا الموقف ويعطينا الدليل الناصع البيان حول هذا الكلام، الاستاذ الامام “محمد عبده ” رائد المدرسة الاصلاحية، ومؤسس ” الجامعة الاسلامية ” مع استاذه “الافغاني” : يقول الأستاذ الإمام : ( ليس في الاسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه، فالحاكم هو حاكم مدني من جميع الوجوه، بل إن الاسلام هو الذي قضى قضاءً مبرماً، لم يسبق إليه أي دين، على السلطة الدينية من جذورها، وأنه يمثل بالتالي الدين العقلي من دون منازع ). كذلك فإن “الافغاني” لم يخف في رده على رينان مثل هذا الموقف.
ففي النظرة إلى العلمانية والتعامل معها استند المصلحون العرب والمسلمون على قاعدتين اقترحوها من أجل الاصلاح :
من الناحية النظرية : الاستناد على الفلسفة العلمانية التي كانت سائدة في عالم نهاية القرن الماضي .
من الناحية العملية : استندت على نموذج فصل الدين والدولة الذي طورته المجتمعات الأوربية، بشكل خاص المجتمع الفرنسي الذي أثر بعد ثورته في القرن الثامن عشر أكبر تأثير في فكر النخبة الاسلامية، وبشكل خاص في تركيا.
وقد أصبح الحديث عن العلمانية، والفصل بين الدين والدولة، موضوعا ً شائعاً وفكرة مقبولة لدى المصلحين الكبار من المسلمين (الكواكبي – الأفغاني – محمد عبده – النائيني ).
يقول محمد عبده : ( أصل من أصول الاسلام , قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها، هدَم الإسلام بناء تلك السلطة، ومحا أثرها، حتى لم يُبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم .
لم يدع الاسلام بعد الله ورسوله سلطانا ً على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه، على أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان مبلغًا ومذكرًا، لا مهيمًا ولا مسيطرًا. وليس لمسلم مهما علا كعبه في الإسلام على آخر مهما انحطت منزلته فيه، إلا حقُّ النصيحة والارشاد، فالمسلمون يتناصحون وهم يقيمون أمة تدعو إلى الخير، وهم المراقبون عليها، يردُّونها إلى السبيل السوي إذا انحرفت عنه، وتلك الأمة ليس عليهم إلا الدعوة والتذكير والانذار، ولا يجوز لها ولا لأحد من الناس أن يتتبع عورة أحد، ولا يسوَّغ لقوي ولا لضعيف أن يتجسس على عقيدة أحد، وليس يجب على المسلم أن يأخذ عقيدته أو يتلقى أصول ما يعمل به من أحد، إلا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) . “الاسلام بين العلم والمدنية”.
ويبدو هذا الموقف واضحًا أشدّ الوضوح في برنامج الحزب الوطني المصري الذي صاغه “محمد عبده” في كانون الأول 1881 حيث يؤكد، أن هذا الموقف ليس موقفه فحسب، ولا موقف الحزب وحده، إنما هو موقف زملاء معه في الأزهر :
تقول المادة الخامسة من البرنامج : ” الحزب الوطني حزب سياسي، لا ديني، فإنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب، وجميع النصارى واليهود، وكل من يحرس أرض مصر ويتكلم لغتها منضم إليه، لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات، ويعلم أن الجميع أخوان، وأن حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية، وهذا مسلم به عند أخص مشايخ الأزهر الذين يعضدون هذا الحزب، ويعتقدون أن الشريعة المحمدية الحقة تنهى عن البغضاء، وتعتبر الناس في المعاملة سواء”.” الأعمال الكاملة للامام محمد عبده جمع وتحقيق محمد عمارة”
هذا ما عبرت عنه مواقف وأدبيات سادت في بداية العصر عن فكرة العلمانية في الاسلام، وإمكان ممارستها في المجتمع العربي الحديث دون أن تتناقض معه، إلا أن بعض الاسلاميين المحدَثين، وقف ضد الفكرة العلمانية لأسباب نذكرها دون أن نتعرض لتقييمها :
1ـــ لشعورهم أنه لا توجد حاجة تدفع إلى إشكالية علمانية في الحياة السياسية، فالعلمانية بما هي نموذج تاريخي ثابت لإعادة تنظيم العلاقات التاريخية بين الكنيسة والدولة، لا يمكن أن تعني شيئاً كثيرًا بالنسبة للمجتمعات التي لم تعرف نظام الكنيسة أساسًا.
2ـــ لشعورهم أيضا بأن العلمانية انتهت إلى صورة دين جديد يدعو للإلحاد ويسعى لتغيير قيم المجتمع، بما تظهر من قيم ومفاهيم ورؤى اجتماعية وكونية متميزة، تخالف قيم الثقافة الدينية والتراث التقليدي.
3ـــ بروز شعار العلمانية مستخدما من قبل أحزاب وتنظيمات وحكومات كسلاح يعمل على تشويه المجتمعات العربية، ويصمها بالتأخر والتعصب، والافتقار إلى القيم العلمية والمعايير الكونية والانسانية.
4ـــ للشعور بأن قيم العلمانية وأطروحاتها لم تمنع الأوربيين مبدعي العلمانية من قهر الشعوب وظلم المجتمعات، وممارسة كل ما يناقض ما يطرحون، من عنصرية واستبداد وتفرقة بين الشعوب. يقول ناجي علوش : ” أما في السياسة فإن العقلانية (احدى قواعد العلمانية ومرتكزاتها ) التي ولَدت نظريات العقد الاجتماعي، وفصل السلطات، وإرادة الشعوب، هذه العقلانية أباحت اتجاهات فيها احتلال المستعمرات، وتأييد القوى والأنظمة القمعية في العالم الثالث، ومحاربة القومية في البلدان النامية، وشن الحروب المقدسة على الشيوعية، كما ولدت الأفكار العرقية التي تفلسف حكم القوة والاستيلاء على المستعمرا ت، ومن ذلك “النازية – والفاشية – والصهيونية”. وشجعت السيطرة على الأسواق العالمية، والتفوق في كل الميادين ” السلاح – والسلع – والثقافة ” .
5ـــ رغم مناداة دول بالعلمانية وتبينها لها “الاتاتوركية – الشاهنشاهية – البورقيبية”، فإنها بقيت رمزا ً للفساد، والاحتكار والاضطهاد الشامل والمعمم للأقليات والأغلبيات على حد سواء، للمؤمنين وغير المؤمنين. ولم تستطع أن تنشئ اجماعًا وطنيًا كما انتهت إليه التجربة الأوربية. فاختلطت الدولة بالعقيدة الحزبية، ولم يتحرر مفهومها من هذه السيطرة، ولم تظهر بعد كمبدأ للإنجاز تقف إزاء موضوع الايمان والضمير والفكر، موقف الضامن والكافل للحرية والكرامة الشخصية، لا موقف السياسة الحزبية. فالاضطهاد التي تمارسه الدولة التي ترفع شعار الدولة العلمانية، وضع عقبات كبرى أمام مصداقية العلمانية ذاتها.
6ـــ ومن مبررات رفض العلمانية عند بعض الفئات، استخدام دول أجنبية هذا الشعار لوصم المجتمعات والدول العربية الاسلامية، ببعدها عن متطلبات التعاون والتفاهم الدولي في إطار بناء حضارة بشرية واحدة .
هذه مبررا ت رفض العلمانية لتي رآها البعض وهي مبررات تبدو معقولة، وهي تتمثل فشل العلمانية في تحقيق أهدافها بشكل مطلق، حيث فشلت مع شعوب ونجحت مع أخرى. وفي مظهر آخر بقيت شعارات دون أن تحقق أهدافًا مرتجاة.
ولكنها مبررات لا تقوم على نقد لمفهوم العلمانية ذاته، وهذا سبب قصورها، فهي نابعة نتيجة تشويش بعثه استخدام المفهوم استخدامًا خاليًا من أي نقد، وبعيدا عن أي حقيقة .
إن ما حصل لمفهوم العلمانية في الدول التي أساءت تطبيقه هو نفسه ما حصل لمفهوم الشيوعية في الدولة السوفيتية،” من المساس بحرية العقيدة، وحجز الحريات الشخصية وكل قيمة مستمدة منها، وإعلان محاكم تفتيش جديدة، بل هي ألغت الأديان، ولكنها أحلت محلها دينًا جديدًا، وقضت على رجال الدين واستبدادهم اللاهوتي، لتحل محلهم رجال يستبدون بالمجتمع باسم العلم ووحدة المجتمع وما إلى ذلك”.
ومثل ذلك حصل مع العلمانية في بعض وجوهها، وأبرزه محاولة الداعين لها أن يجعلوا منها مصدرًا للقيم، مما أدخلها في محنة أخلاقية، تجلت ظواهرها في فرنسا حديثًا، وهي تواجه مسألة الحجاب الإسلامي في المدارس، وتواجه قضية سلمان رشدي، مما دعا أركون المفكر العلماني، أن يرى مثل هذه المظاهر علامة على على تراجع العلمانية. يقول هاشم صالح ناطقا ً بلسان أستاذه المفكر الجزائري محمد أركون : ” وقد ارتفعت في فرنسا مؤخراً بعض الأصوات الداعية إلى المراجعة وإعادة النظر، وتشكيل علمنة منفتحة وواسعة، منها صوت (جان بوبيرو) أحد كبار مؤسسي البروتستانية في فرنسا المعاصرة الذي أصدر كتاب ( نحو ميثاق علماني جديد ” .
إن الرفض الذي تجلى هنا وهناك، ليس قائما ضد مفهوم العلمانية، فكثيرون يتفقون على ضرورتها، وهذا يستدعي لحديث في المفهوم”مفهوم العلمانية”، لنقف على أرضية حوار مشتركة تستوعب مغزى هذا الحديث، فلا يتحول إلى حوار طرشان، إذ أن توحيد المصطلح يبعد عن الشطط، ويرسى على الشواطئ الآمنة، ويبعد عن لجة البحر وأمواجه المتلاطمة.