كان وقف الحرب أقرب إلى منتج في بازار يخضع للعرض والطلب، وكان البازار كثيف الدموية وبأكلاف عالية على لبنان، والحاصل راهناً في القرى المحتلة، وفي الجنوب عموماً، من خروقات واعتداءات إسرائيلية هو أهم أثمان البازار وموجبات العرض والطلب.
في الطائرة، ومن فوق بيروت التي وصلها ظهر الاثنين 6 كانون الثاني/ يناير الحالي، لمتابعة مسار الهدنة بين لبنان وإسرائيل، كتب آموس هوكستين عبارة good land back in beirut.
لم يخطئ هوكستين التعبير وهو يرى العاصمة اللبنانية من الجو، وبعيداً من مناطق التوتر الأمني، لكن عبارة المبعوث الأميركي تفضي إلى سراب تستدعيه أحوال الجنوب والجنوبيين، وفيها ما يشي بتعثّر الهدنة في ظلّ الخروقات الإسرائيلية اليومية لها.
كان آموس هوكستين رجل هذه الهدنة، ورجل العام المنصرم لبنانياً على الأرجح، وهو كان وسيطها، وبمسلّمتين اثنتين.
المسلّمة الأولى أن وقف الحرب كان مطلب الدولة اللبنانية و”حزب الله”، فيما المسلمة الثانية تقول إن شروط وقفها فرضتها إسرائيل، مع كل ما وشى حينها بأن الأخيرة كانت تريد استمرار الحرب، وتحديداً رئيس حكومتها بنيامين نتانياهو. إنها إذاً هدنة بمعياري الضعف والقوة، وطالبها هو الضعيف.
كان وقف الحرب أقرب إلى منتج في بازار يخضع للعرض والطلب، وكان البازار كثيف الدموية وبأكلاف عالية على لبنان، والحاصل راهناً في القرى المحتلة، وفي الجنوب عموماً، من خروقات واعتداءات إسرائيلية هو أهم أثمان البازار وموجبات العرض والطلب.
والبازارأيضاً تكشفت فيه وقائع بدا معها “شراء “الهدنة” موكلاً إلى مشترٍ غير ذكي، وبإدراك مسبق منه أن بائعها، عدا دمويته، جشع وطماع، والأهم أنه محتكر فطن لـ”السلعة”، ويعرف تماماً مكان وزمان تسويقها وبيعها.
فطلب الهدنة، كما عرضها، خضع لسياقات كثيرة، وتبدلت أثمانها تواتراً على إيقاع الحرب وصيرورتها منذ مباشرتها في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حتى التوقيع على شرائها.
اشترى لبنان، و”حزب الله” تحديداً، في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي، هدنة مختلّة الشروط، وبأثمان بشرية واقتصادية واجتماعية ونفسية هائلة. والعودة إلى سياقات تلك الحرب، قبل اكتمال مواصفاتها في شهريها الأخيرين، يفضي كذلك إلى تبدّل أدوار العارض والطالب، والأخير كان إسرائيل، وتحديداً خلال الأحد عشر شهراً الأولى من حرب إسناد غزة التي أطلقها “حزب الله”، وتنكب فيها بمكابرة ملموسة التعفف عن شراء هدنة كانت بشروط ووقائع ومآلات أفضل بكثير من الهدنة الأخيرة التي تبدلت فيها هويات العرض والطلب.
ما من شيء يثقل على الجنوبيين في راهنهم البائس أكثر من آثار الحرب ثم مآل الهدنة الحالية التي تجمعت في هشاشتها كل شروط نقضها، فيما تندرج خروقات إسرائيل كمؤشر مفضٍ الى هذا النقض.
إقرأوا أيضاً:
حزب الله يتظاهر ضد نفسه في بيروت!
عن ضرورة الحوار السياسي في سوريا ما بعد الأسد
إسرائيلياً، النقض يبحث عن أسباب تتواطأ إسرائيل عليها لإعفائها من موجباته، فهل يفعلها “حزب الله”؟.
لم يكن كلام الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم أول من أمس عن الرد على خرق إسرائيل بنود الهدنة جديداً. الجديد فقط أن قاسم ساق احتمال الرد قبل مهلة الأيام الستين، فيما كان النائب محمد رعد قد حدد مواعيده في اليوم الواحد والستين!
وللتذكير، فإن العودة إلى بنود الهدنة يعفي لبنان، و”حزب الله” ضمناً، من مباشرة “عدَّاد” أيام ما بعد شهري الهدنة، إذ منحت الأخيرة توازياً طرفي الحرب الرد على الخروقات، والتي تمعن إسرائيل في وقائعها راهناً بصلافة معلنة، فيما يكابد لبنان، والحزب معه، هذه الوقائع بصمت يشي بعجز متولد أصلاً من أولى مسلمات الهدنة. إنه قدر الضعيف.
ويعرف “حزب الله”، والدولة اللبنانية، أن الرد على التمدد الإسرائيلي خارج الجغرافيا التي انتهت إليها الحرب، كما التدمير المنهجي للقرى المحتلة، أو خطف مواطنين عزل وآخرها أمس في المجيدية، هو على الأرجح إفضاء لاستئنافها إسرائيلياً، والأهم أنه مؤشر الى استعصاء الرد بالكيفية وبالنتيجة التي سبقت الهدنة. ويعرف الإثنان أيضاً أن فكرة “مقاومة” إسرائيل بنمطية ما قبل العام 2000 تبدو واقعاً مفرغاً من مقوماته السياسية والعسكرية والجغرافية. كانت مقاومة “حزب الله” حينها محكومة بآليات سياسية فرضها تفاهم نيسان/ إبريل من العام 1996، الذي جنّب المدنيين تبعات الحرب، ومحكوم أيضاً، وهذا الأهم، بسرية عسكرية كنمط باشرته كل المقاومات اللبنانية ضد إسرائيل، وفي صلبها “حزب الله”، قبل أن ينزع الأخير عنه هذه السمة، ويتبدى أقرب إلى جيش يمارس طقوساً نظامية عديداً وعتاداً، وهو للمناسبة ما يدرجه الحزب نفسه كسردية عن الجيش اللبناني في استحالة مقاومته إسرائيل.
تقترب أيام الهدنة الستين إذاً من نهايتها (26 كانون الثاني الثاني/ يناير الحالي). في إسرائيل يتكثف يومياً الحديث عن بقاء جيشها في القرى المحتلة لفترة أطول، وبذريعة تفكيك البنية العسكرية للحزب، فيما الأخيرة، والتي تقع على عاتق الجيش اللبناني وفق شروط الهدنة، تتبدى على الأرجح مهمة لا تخلو من اعتلالات كثيرة ليس أقلها ما تعرفه إسرائيل، كما لجنة الإشراف على الهدنة، وتعرفه سلطتنا وجيشها، عن مشقة لبنانية ممانِعة تتبدى في راهنها اختباراً قسرياً وقاسياً عن تفكيك تلك المواءمة المبسترة والمتهافتة لثنائية لا يني “حزب الله” يتمسك بها كضامن لشرعية سلاح مطلوب من طرفها الآخر، أي الجيش، تفكيكه. والحال، فإن اعتلالاً كهذا يساق إسرائيلياً كمبرر لتمديد الوقائع التي فرضتها على لبنان بالحرب.
عودٌ على بدء إلى مسلمتي الهدنة. عودٌ يصيب “حزب الله” بحرج تنكبه بإرادته، ويباشَر من واقعين. الأول تمديد الاحتلال، أو تمدده، وهو ما يكثف شرعية مقاومة آثاره التي يسترسل مسؤولو الحزب وقادته وحدهم، وآخرهم أمينه العام، في تسييله كواقع حتمي تخضع كيفيته وزمانه لرؤية الحزب. الواقع الآخر يفترض استعصاء الأول، لا سيما أن المسلمتين، وبآثار الحرب الأخيرة ومآلاتها، لا تزالان حاكمتان بأمرهما.
في البر هذه المرة، يتعذر على هوكستين أن يكرر عبارته أعلاه، والخشية أن زيارته الراهنة قد تتبدى كمقاربة لزياراته المتكررة منذ مباشرته مهمة وقف الحرب بين إسرائيل و”حزب الله”، والتي لن تخفف من راهنها وعوده لقائد الجيش، أو للرئيسين بري وميقاتي بالعمل على انسحاب إسرائيلي خلال مهلة الستين يوماً، بافتراض أن مهلة كهذه تخضع أخيراً لشروط إسرائيل، والتزام لبنان و”حزب الله” بها.
بالتوازي مع الزيارة، كانت “الناقورة” تستعيد حريتها من الاحتلال، وبأمل ألا يندرج الانسحاب الإسرائيلي منها كمؤشر فقط الى “رمزيتها” الأممية كمقر لليونيفيل، أو كمعطى محدود يرفع عن وعود الزائر الأميركي بعض أثقالها.