ليس خافياً على أحد أن جوزف عون يحظى بدعم أميركي في طموحه الرئاسي. وقد حصل أخيراً، بطريقة غير مباشرة، على تزكية “حزب الله” عندما أعلن وفيق صفا في مؤتمر صحافي عقده إلى جانب مطار بيروت الدولي، عن عدم وجود “فيتو” على عون، رغم معرفة الحزب بالدور الذي يلعبه الجيش في المطار لجهة مراقبة حركة دخول الأموال للحزب.
في تموز/ يوليو 1958 لم يكن مفاجئاً لمتابعي الشؤون السياسية اللبنانية أن يصل فؤاد شهاب، قائد الجيش اللبناني حينذاك، إلى سدّة رئاسة الجمهورية. جميع العوامل كانت تصبّ في صالح تزكيته للمنصب، من وصول الأسطول الأميركي السادس إلى شواطئ بيروت، إلى دوره في المفاوضات الأميركية مع جمال عبد الناصر حول لبنان، وصولاً إلى أنه يلبّي الشرط غير المعلن الذي وضعه الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور، بضرورة أن يكون الرئيس اللبناني عسكرياً بعد أحداث عام 1958 الطائفية.
هكذا تضافرت عوامل كثيرة لتفتح المجال أمام أول قائد جيش لبناني للوصول إلى كرسي رئاسة الجمهورية منذ استقلال لبنان في العام 1943. وكانت تجربة شهاب فريدة لجهة ربطها بقيام مؤسسات الدولة، لكنه ارتبطت أيضاً بالتأسيس لتداخل الأمن مع السياسة مع تأسيس “المكتب الثاني”(الاستخبارات)، وأدواره سيئة السمعة.
انتهت ولاية شهاب في العام 1964، لكن الشهابية استمرت في عهود لاحقة، ولم يتولّ أي ضابط أو قائد للجيش سدة الرئاسة حتى العام 1998 مع وصول قائد الجيش إميل لحود إلى قصر بعبدا بانتخابات هي أشبه بالتعيين، بفعل سطوة النظام السوري بقيادة حافظ الأسد على لبنان وتحكّمه بقراراته السيادية وتدخّله في أدقّ التفاصيل. ومذاك، لم يجلس على كرسي رئاسة الجمهورية أي مدني، بل تولى الرئاسة بعد لحود، قائد الجيش ميشال سليمان في العام 2008 بعد أحداث السابع من أيار/ مايو الطائفية حين اجتاح حزب الله بيروت بسلاحه، ثم تولى الرئاسة في العام 2016 ميشال عون، وهو قائد جيش سابق معروف بطبائعه العسكرية، بعدما حظي بدعم حليفه “حزب الله” الذي كان يبسط سطوته على الداخل بالسلاح والترهيب.
ومنذ العام 1998 حتى اليوم، كان العسكر والفراغ يتناوبان على قصر بعبدا، وصولاً إلى تحديد الاستحقاق الرئاسي في التاسع من كانون الثاني/ يناير المقبل، إذ يأمل اللبنانيون بأن يتوصّل النواب إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
إقرأوا أيضاً:
حزب الله يتظاهر ضد نفسه في بيروت!
سؤال ل”حزب الله”: كيف حدث كل هذا؟
الظروف ليست مطابقة لما حدث في العام 1958. لكن هناك تفاصيل تعزز من إمكانية وصول قائد الجيش الحالي جوزف عون إلى سدة الرئاسة، وهو المرشح الأكثر حظاً للحصول على أصوات النواب في التاسع من كانون الثاني المقبل.
ليس هناك أسطول أميركي على الشواطئ اللبنانية، لكنْ ثمة ضابط أميركي رفيع يراقب اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل، مع ما يحمله هذا الأمر من رمزية. اسم جوزف عون حاضر في تطبيق قرار التسوية، وهو من موقعه كقائد جيش يلعب دوراً فيها عبر نشر الجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني وضبط سلاح “حزب الله” في تلك المنطقة بالتنسيق مع اليونيفيل. وهذا يعزز من حظوظه في أن ينقل دوره العسكري إلى المستوى السياسي ويصير مشرفاً كرئيس للجمهورية على تطبيق الاتفاق الذي أوقف الحرب، تماماً كما كان دور فؤاد شهاب في تطبيق الاتفاق الذي أوقف مفاعيل “ثورة العام 1958″، التي كادت تنقلب إلى حرب أهلية مدمّرة.
ليس خافياً على أحد أن جوزف عون يحظى بدعم أميركي في طموحه الرئاسي. وقد حصل أخيراً، بطريقة غير مباشرة، على تزكية “حزب الله” عندما أعلن وفيق صفا في مؤتمر صحافي عقده إلى جانب مطار بيروت الدولي، عن عدم وجود “فيتو” على عون، رغم معرفة الحزب بالدور الذي يلعبه الجيش في المطار لجهة مراقبة حركة دخول الأموال للحزب. وهذا جزء من دور الجيش الحالي والمستقبلي، أي إعادة ضبط المعابر الحدودية وتثبيت دوره في الحفاظ على سيادة لبنان ومنع انتهاك حدوده، إن لجهة الجنوب عبر تطبيق الاتفاق الدولي 1701، وإن لجهة الشرق مع سوريا، التي شهدت سقوطاً لنظامها البعثي الذي لطالما استباح لبنان وحدوده وسيادته، وتدخّل في تشكيل حكوماته وانتخاب نوابه وتعيين رؤسائه.
العين إذاً على الجيش، الذي يعتبره كثيرون المؤسسة الوحيدة التي تحافظ على وحدتها في البلد رغم كل الانقسامات. الخوف من انقسام الجيش دفع فؤاد شهاب إلى عدم مواجهة “المقاومة الشعبية” في العام 1958، ويقال إن شهاب كان زاهداً برئاسة الجمهورية، وقد كانت له تجربة سابقة في العام 1952 حينما استقال بشارة الخوري وعيّن شهاب(وكان قائداً للجيش) رئيساً لحكومة انتقالية، فما كان من شهاب إلا أن شجّع على انتخاب رئيس للجمهورية وسلّمه السلطة وعاد إلى قيادة الجيش.
ويرى مؤرخون أن شهاب لم يكن ليوافق على تولي الرئاسة في العام 1958 لولا شعوره بأن المطلوب منه هو مهمة إنقاذ ولفترة محددة، وقد جاء اختياره لمحاولة التوافق مع محيط الانقلابات العسكرية التي شهدتها دول عربية آنذاك، خصوصاً في سوريا والعراق ومصر.
لبنان اليوم على مفترق طرق بعد تحولات استراتيجية تدور فيه ومن حوله، خصوصاً مع سقوط نظام آل الأسد، أحد أكثر الأنظمة قمعية في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، والذي قام على الجزمة العسكرية والقبضة الأمنية التي تتسلل إلى التفاصيل اليومية للسوريين واللبنانيين، حتى تصل إلى غرف النوم، وضمور سطوة “حزب الله” بهزيمته وسقوط مشروع الممانعة والخط الممتد بين طهران وبيروت عبر العراق وسوريا.
السقوط والضمور هذان لا يُسقطان الخوف من العسكرة، بل يعززانه، ولا تضمر معهما حساسية الناس تجاه الأمن، بل يزيدانها. ولهذا فإن وصول عسكري إلى سدّة الرئاسة في لبنان سترافقه دائماً، مع الأمل بالاستقرار وتعزيز المؤسسات، مخاوف من استعادة تجارب سابقة تضيّق الحريات الفردية والصحافية وتكتم المعارضة السياسية، كتجربة “المكتب الثاني” أو تجربة النظام الأمني السوري- اللبناني المشترك في فترة الوصاية السورية، أو تجربة “حزب الله” وتدخله الأمني في القضاء والصحافة والسياسة.
في نهاية مقاله الأيقوني الذي ارتبط باسمه وسيرته وقضيته، والذي حمل عنوان “عسكر على مين؟”، كتب الصحافي والمؤرخ سمير قصير(اغتيل في حزيران/ يونيو 2005): “من يضمن ألا يؤدي سوء استخدام سلطة العسكر، إلى أن يتساءل أحد غداً: عسكر على مين؟ وأن يجيب: على الآمنين؟”.
نُشر مقال سمير قصير في العام 2001، في ظلّ حكم إميل لحود، وربما يكون هذا المقال وما تبعه من مواقف لقصير ضد القبضة الأمنية اللبنانية-السورية، أحد الأسباب التي أدّت إلى اغتياله. ولا يزال السؤال ملحاً، اليوم ودائماً: من يضمن؟