عاصرت إيران، بعد انتصار الثورة الإسلامية فيها عام 1979، سبعة رؤساء أميركيين، ولم يرق حجم التصعيد مع أيّ منهم إلى ما كان عليه في ولاية دونالد ترامب الرئاسية الأولى التي امتدت من 2016 إلى 2020. وهذه التجربة دفعت إيران إلى اعتماد سياسات رادعة تحسّباً للولاية الرئاسية الثانية لترامب التي تبدأ اعتباراً من 20 كانون الثاني/يناير. والقضيتان الرئيسيتان بالنسبة إلى إيران في ما يخص التعاطي مع أميركا هما:
1- تفادي الضربة العسكرية ضد منشآتها النووية أو نقل ملفها مجدداً إلى مجلس الأمن الدولي في أيلول/سبتمبر 2025.
2- الحد من تكثيف العقوبات الاقتصادية والمالية ضدها.
بيد أن السؤال الذي يُطرح هنا هو: ما التدابير والإجراءات التي يمكن لطهران أن تتخذها في سبيل تحقيق هذين الهدفين؟ ترامب أعلن رسمياً أنه قادر على التعاطي مع إيران إن لم تكن بصدد امتلاك القنبلة الذرية. ومنذ 20 عاماً حينما احتلت النشاطات النووية الإيرانية صدارة الاهتمامات الدولية، أخضعت إيران أنشطتها النووية لمراقبة مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية وفقاً لاتفاقات الضمانات وبروتوكولات الوكالة.
واستطاعت طهران، في ظل هذه السياسة، تطوير منشآتها وخبراتها النووية بحيث بادرت عند اللزوم إلى رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى أكثر من 60 في المئة. وهذه القدرات أثارت مزاعم إسرائيل وبعض الدول الأوروبية بأن إيران تحوّلت بالفعل إلى قوة نووية، بحيث أن اختبار القنبلة الذرية بات بحاجة إلى مجرد قرار سياسي في طهران. كما أن أميركا خلال تعاطيها مع القضية النووية الإيرانية، تتخوف من ألا تؤدي الضغوط على إيران إلى تغير سياستها النووية العامة وانتقالها من الشق النووي السلمي إلى تدشين قنبلة.
لذلك يبدو أن إيران ستضع في عهد ترامب، سياسة التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتطوير الخبرة النووية على أجندتها، لكي لا تعطي ذريعة لنقل ملفها النووي ثانية إلى مجلس الأمن، من جهة، وأن تكون بيدها من خلال زيادة قدراتها النووية، ورقة رابحة في المحادثات مع أميركا، من جهة أخرى. والحقيقة أن القدرات النووية الإيرانية اتسمت على مدى العقدين الماضيين بطابع ردعي إزاء الممارسات العدائية للولايات المتحدة، ورفعت من قدرة إيران التساومية في المفاوضات الدولية، بحيث تمكنت إيران عام 2015، في عهد رئاسة باراك أوباما وفي ظل هذه القدرات، من رفع جزء من العقوبات عنها وتسلم 3 مليارات دولار نقداً من أرصدتها المحتجزة لدى الولايات المتحدة.
وفي ما يخص السياسة الإيرانية الثانية تجاه ترامب، يمكن القول إن الجمهورية الإسلامية لا تمرّ بوضع مستقر من ناحية السياسات الداخلية، ولا سيما في المجال الاقتصادي. وتتحدث السلطات الحكومية عن عجز وشحّ في موارد الطاقة بما في ذلك الكهرباء والبنزين والغاز، ما يعني أن كمية الإنتاج بالأسعار الحالية لا تلبّي الحاجات والطلبات، والسبب الرئيس لهذا العجز يكمن في غياب الاستثمارات على مدى السنوات الماضية على خلفية العقوبات الأميركية. ومن ناحية أخرى، فإن رفع أسعار البنزين والكهرباء والغاز يمكن أن يؤدي، بسبب التضخم الاقتصادي المرتفع وتزايد الفقر، إلى اندلاع اضطرابات اجتماعية.
وبناءً على ذلك، ليس بمقدور الحكومة الإيرانية تحقيق الاستقرار في البلاد ونيل رضى الشعب، في ضوء استمرار العقوبات الحالية. وثمة احتجاج واسع يغلي داخل المجتمع إزاء استمرار العقوبات، تمكن ملاحظته في مواقع التواصل الاجتماعي. وبالتالي، فإن إيران مضطرة لخفض العقوبات بأي طريقة كانت. وقال الرئيس مسعود بزشكيان مرات عدة وبصراحة إنه لا يمكن إدارة البلاد أفضل من هذا من دون رفع العقوبات.
وفي ظروف كهذه، يبدو أن طهران، على غرار عام 2010، ستخوض محادثات مع واشنطن. وفي ذلك العام، كان وزير الخارجية آنذاك علي أكبر صالحي بدأ محادثات مع الأميركيين في سلطنة عمان بإذن من المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي ومن دون علم الرئيس الإيراني حينها محمود أحمدي نجاد، وهي المحادثات التي أفضت في رئاسة حسن روحاني إلى إبرام خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي). وتأسيساً على ذلك يذهب بعضهم إلى أن اللقاء الذي جمع إيلون ماسك ومندوب إيران الدائم لدى الأمم المتحدة سعيد إيرواني بعد الإعلان عن فوز دونالد ترامب بالرئاسة، تم من أجل تنسيق هذه المحادثات.