بعد كرّ وفرّ حثيثين، أهدأ أخيراً بعد شهر فأركنُ إلى مجلسي لأكتب هذه الكلمات، التي يمكن تسميتها بالمذكرات: يوم الثامن من كانون الأول من هذا العام، اليوم التاريخي المشابه لسقوط جدار برلين قبل حوالي ثلاثين عاماً. سقط النظام، وها قد مضى شهر، مدة تسمح لنا بالتصديق ما حدث، فهل نُصدّق؟

عالم ثابت كان يحكم دمشق قبل الرحيل الصاعق للنظام، من استقرَّ في الخارج يُتابع حياتَه والبلادُ في خلفية رأسه. من بقي في الداخل، يتثاءبُ فكرةَ السفر دون ملامة، فقد أمضينا سنوات «الانتصار» في رجم أنفسنا بما تبقى من مَلامات وعِتاب وندم، وكثيرون كانوا يتجهزون للسفر وخاصة الأصغر عمراً، ولكني في تلك السن الثلاثينية، حيث بدأت أشعر أنني أعيش داخل كرة زجاج يتجمد فيها الزمن، وكنتُ أعمل باستقرار مؤقت ضمن فريق مسرحي وكأستاذة مساعدة في الدراسات المسرحية في المعهد العالي، يُمازحني صديقي بأنه لن يبقى لي إلا حملُ سطل اللبن وكيس الكوسا، والسعي إلى منزلي كل يوم بعد العمل مثل موظفة خمسينية. كنتُ راضية بإيقاع حياتي الذي جعلني أَقرأُ باستمرار وأَجدُ وقتاً لتكرار الأحاديث مع الأحبة، منتظرين وقف إطلاق النار في جنوب لبنان، ومتفاجئين من العمليات الدقيقة التي قضت على محور المقاومة، ننتظر ما ستؤول الأمور عليه في غزّة شاعرين باعتياد طعم مرارة الهزيمة الذي لم يَزُل من حلوقنا منذ عشرة سنوات، ومنذ أكثر منها في حلوق رفاقنا الأكبر عمراً.

في ذلك اليوم، بقيتُ مستيقظة بين ملايين السوريين، الذين يجزم أحد أصدقائي أنهم جميعاً لم يناموا في ساعات الصباح الأولى مع بدء إطلاق النار العشوائي فرحاً وانتصاراً. لم أَتجرّأ على الخروج من بيتي في اليوم الأول، ولكني بقيتُ أُتابع الرفاق الشجعان الذين لم يُبالوا من ارتداد قلوبهم مع كل طلقة نار، وهدموا التماثيل عوضاً عنّا. كنتُ أقفُ عند نافذتي التي أرى على مَبعدة منها بعض الأبنية المطلة على دوار العلم في إحدى ضواحي دمشق، والمغطاة بصور ضخمة للطاغية المخلوع، أنتظرُ بصبر أن يصل الناس إليها ويمزقوها مثل الصور التي غمرَتْ شاشتي في تلك اللحظات. زغردَتْ إحدى نساء الحارة، مددتُ رأسي وزغردتُ معها بتلعثم.

صرخنا مِلء أفواهنا في الأسبوع الأول، لم نتغيّب عن أي تَجمُّع. بتنا جميعاً أبناء وبنات أمهات الشهداء، أحسستُ بألم في ذراعي في الربع ساعة الأولى لحمل اللافتات وصور المغيبين قسراً، لكنني كنت فرحة وسرعان ما نسيتُ ذلك الألم؛ أهكذا نشعر حين تصبح أجسادنا كتلة واحدة، كل جسد منا عضلةٌ نابضة؟ كان بإمكاننا رفع أي لافتة، وكُنّا حريصين أنا والأصدقاء على ألّا نحملَ كلمات صِدامية منذ اللحظة الأولى، فاستبدلنا «علمانية» و«ديمقراطية»، بـ«مدنية» و«القرار 2254»، فبدأ كثيرون يتساءلون عن هذا القرار ومعناه في ساحة الأمويين، وحتى نحن بدأنا نُراجع معرفتنا عن هذه القرارات، وكان ذلك قبل أن تبدأ المحاضرات الحقوقية التي تثقفنا حول إمكانيات هذه القرارات. أذكر جيداً يوم فَتحت بارات دمشق أبوابها مجدداً، حيث همَّ مرتادوها جميعاً على اللقاء ساخرين من شُرب المرطبات. أَذكرُ حواراً مع أحد الشبان العاملين هناك، كان يصبُّ لي كأساً ويتحدث عن دراسته للحقوق ورأيه بشأن صعوبة وصول جميع تلك اللافتات إلى عامة الشعب، ومقترحاته عن جمل وعبارات بديلة تُصيب المعاني التي نريدها فوراً، فبدلاً من مدنية يمكن قول «دولة تحفظ حريات الجميع» مثلاً. كان هناك جوٌّ من التوافق على ضرورة تقديم المختصين في الدراسات القانونية والحقوقية لحلقات توعوية لنا جميعاً.

بعد أسبوع من الهتاف وحُمّى الفرح والمصالحات التي جرت بمجرد عناق بين الأصدقاء المتخاصمين، بدأنا نتجمع في مقهى الكمال، طاولة كبيرة، وأغانٍ مثل «جنة جنة»، و«مندوسهم مندوسهم» تصدح في الأجواء. يأتي أحد الأصدقاء بصحبة صحفية برازيلية مستقلة، وآخر مع صحفية ألمانية تعيش في تايلاند، ونشعر فجأة أننا في بيروت، وأحد الأصدقاء يُعيّن نفسه راداراً لجواسيس الموساد، معتبراً أنه يستطيع كشف من هم مع إسرائيل. تدور النقاشات حول أخلاقية العمل مع صحافة أجنبية، وحول وجوب عودة جميع السوريين الذين بعضهم حجز أول تذكرة مع سقوط النظام، وكثيرون منهم أجلوا زيارتهم إلى ما بعد رأس السنة.

عادت مهنتي لتتغيّر في الأسبوع الثاني، وخاصة مع توقف الدوام في الجامعات والأعمال الحرة التي توجَّست من هذا التغير العجيب وآثرت الانتظار، وها أنا أسمع بمصطلح فيكسر «fixer» للمرة الأولى بحكم عملي غير المحترف في الصحافة، وتبدأ الأعمال بالهبوط عليَّ بعد سنة كاملة من العمل المجاني، وأنضم إلى مجموعة واتس آب باسم «نقابة فيكسرية دمشق»، وتوصي بي صديقتي للعمل مع صحافي مُصوِّر في نيويورك تايمز، وهنا يبدأ الانتقال من متابعة أخبار سجن صيدنايا والسجون الخسيسة من خلف الشاشة إلى وطئها بأقدامي الحية.

كنت أرى الحياة مغامرة ليست لي، وكأنّما تركتُ فكري في حفرة عميقة تشبه الصور الوضيعة التي تناولها الجميع دون التأكد من مصدرها؛ حياة موازية، بينما أتجول بعيوني وأَذرُعي تضمّها أم فقدت ابنها وتسألني عن العدالة، رجل يصرخ في وجهي يطالبني بإعدام بشار وبوتين، أتحدث مع نساء كثيرات سائلة إياهنَّ عن تجاربهن مع هيئة تحرير الشام، في دوما قبل 2018 وفي الأيام الحالية. جميعنا نُحيّي شبانهم؛ يمدون إلينا بواريدهم بِوردة، وأشتهي أن أخبر أحد الملثمين بأن عينيه جميلتان ولكنني أتردد. أَنشغلُ تماماً عن الانخراط في الحراك المدني، فأتوقفُ عن المظاهرات، وعن النوم، وأَعملُ مُترجمة فورية لمقابلات مُطوَّلة، تُغالبها ضحكات هستيرية أَكبتُها مثلما أَكبتُ البكاء. أَسترق النظر إلى غرفة الجثث في مشفى المجتهد، وجوه أحاطها العفن تمتد إلي وتسألني: كيف استطعتِ أن تعيشي كل هذه المدة تحت حكم النظام ورغم إحساس الذنب القاتل الذي أعماك، كيف استطعتِ أن تعيشي هكذا مع ملايين السوريين؟

أعرض دولاراً واحداً أمام بائع الكشك لشراء باكيت دخان، فيضحك ويقبل به. تتناقش النساء في الميكروباص بشأن قيمة العملة التركية أمام السورية، ويتحدث عجوز مع نفسه ومعنا بعد أن ركب مجاناً بأنه لن يتمكن من دفع الأجرة التي بلغت أربع أضعافها، وهلم هلم إلى التسوّل. لم يتبدل شيء في مهن الدولة، ما يزال راتب الطبيب لا يكفيه أول ثلاث أيام من الأسبوع الأول في الشهر. صار عمله أشد قسوة واحتكاكاً مع الحياة، بينما مهن أخرى لا علاقة لها بما يجري يشعر أصحابها بالانفصال، ويكملون حياتهم بقلق دفين. أَتركُ مهنتي السابقة التي هي أَشبه بتلك المهن، وأنخرطُ في مهنة الصحافة مؤقتاً، أضحك من نفسي ومن تذبذبي الدائم، هل أصبحت الآن تاجرة أزمات!

أَتجولُ في مطار مزة العسكري بين عدد من الأطفال الباحثين عن الحطب والألمنيوم والنحاس، يوشوش أحدهم أخاه أن ما وجداه لا يكفي ربطة خبزهم اليومي، فيبدأ الآخر في خبط انتقامي لما تبقى من أسلحة سبعينية قصفتها إسرائيل، فيُهدّدهم أحد رجال الهيئة بتفحمهم في حال استمروا في لعبهم بالخردة القابلة للتفجُّر. ربطة خبز دولة مختومة تغلفها بقع خضراء متروكة في غرفة العساكر، وفي جوبر صواريخ لم تتفجر بعد إلى جوار سي دي لمنوعات عربية ألفينية. يحكي لنا رجل يطبع على الأعمدة المتضررة رقمه وإعلان تنظيف ركام عن المعابد والكنيس القديم، وكيف سرق باسل الأسد 50 طناً من الذهب من أسفل أحد المعابد المُكتشفة.

أسبوعٌ من الإلهاء عن متابعة مقابلات أحمد الشرع، وجدل الدولة الأسدية وتحولها إلى شرعية، تجعلني لا أشارك في الأسبوع الثالث في تظاهرة نسوية حول دور النساء ومشاركتهن في المجتمع السوري، جاءت ردَّاً على مقابلة عبيدة أرناؤوط حول تحجيم النساء بدورهن البيولوجي. تُشارك أختي بحماس في الجمعة التالية لوقفة «مدنية» في اليوم السابق، اشتُهر فيها مصطلح ما يعرف بفلول النظام. تختبر أختي قُبحَ الإعلام وتشويهه لحماس شابات أخلاقيات، تختبر عجزها عن مناقشة آذان مصمتة، وتختبر سوء خياراتنا في النزول إلى ساحة الأمويين التي باتت ساحة الجميع، حين نريد التعبير عن كل ما هو لا يشبه المقولة السائدة: «من يحرر يقرر»، وإلا فأنتم من فلول النظام ومؤيدي الكيماوي. نعود ونستفيق من حماس حُلم قصير، وندرك أننا تسرعنا في غمرة مشاركة الجميع في الفرح، ونسينا أن الاصطفاف سيعود ويتغلب على الفرح وسيبدأ الاختلاف والتنوع الذي أردناه حقيقة، مع مخاوف انقلابه إلى حالة من الانفلات الأمني والشعبوي والاختلاط مع جهات لا تُمثّلنا.

راقبتُ لمدة يومين لجنةَ AFAD التركية وهي تحفر وتحفر وتجول بكلابها ومعداتها للرنين المغناطيسي في سجن صيدنايا، ومع كل حفرة فارغة يصلني نبأ عن مقبرة جماعية في مكان ما. كنتُ منذ سنتين أَسمع من رفاقي الخارجين من معتقلات النظام، بعد أن دخلوها لأسباب تافهة، عن أنباء تطهير السجون بهدف عدم ترك أدلة للمنظمات الدولية، وكانت مخيلتي حينها لا تتسع لواقع أقسى بكثير. أُفكر في كلام يارا صبري أثناء وقفة حداد في ساحة الحجاز، حين قالت ما معناه: لا ينبغي علينا الاحتفال قبل معرفة مصائر آلاف المعتقلين والمغيبين، وقبل المحاسبة. أتفق معها في الجانب الثاني، ولكنني تعلمت عبر سنوات أن التناقضات تتعايش معاً، هل يمكننا التوقف عن الاحتفال؟ هل سيوقفنا ذلك عن المطالبة بالمحاسبة؟

يُجهّزُ الجميع في الأسبوع الرابع للسهر في أماكن متنوعة، هناك فارق بسيط عن «رؤوس» سنوات خلت، هناك طاقة احتفالية عالية اليوم، وحفلات مُنظَّمة من مغتربين، أشتهي أن أسهر في المنزل بعد هذه الأسابيع الكثيفة، ولكنني أُساير الأحبة، أُشعل سيجارة فينهرني أحدهم لمنع التدخين في الداخل، فأجيبه مستفزة: منذ متى عدتَ إلى سوريا؟ ومن ثم أقضي سهرتي باكية وشاعرة بالذنب لاستفزازي له. أذكر ما قالته إحدى أمهات الشهداء الذين لم يعودوا، صارخة في ساحة المرجة أمام عشرات الصور: يا أهالي سوريا إن أهل دمشق هم من خذلوا ثورتنا. أغصُّ حينها، وأُكمل عملي. أقضي يومين حبيسةَ الفراش من المرض، وأَذكرُ أنها السهرة الأولى التي لم يقم فيها أحد أمامي بالعد التنازلي لبداية سنة جديدة، فقد بدأت السنة الجديدة منذ شهر. أنوي السفر إلى المحافظات الأخرى كي أجرب ممارسة عمل صحافي وحدي هناك، بعد أن تعلمتُ ألا أخاف، وأنه لا ينقصني شيء في الممارسة الصحافية إلا التخلّص من الأوهام ومن الرقيب الذاتي الذي زُرِعَ داخلي على مر ثلاثين عاماً.

مقالات مشابهة