بعد أن هرب القاتلُ الأكبر وسقط نظامه في سوريا، وبعد خروجنا من خضمِّ مقتلة عِشنا فيها ثلاثة عشر عاماً، كيف نفهم القاتل؟ وكيف لنا أن نشعر بعملية القتل؟ وما هي سيكولوجية المقاتل؟ وأين هي تلك اللحظة الفاصلة بين قرار القتل، وتنفيذه؟ وماذا يجري خلالها في نفس الفاعل/القاتل؟ القتل، بتعريفه الأبسط، هو استجلابُ الموت في غير وقته، هو إرادة التدخل في العملية التلقائية للوجود. القتل هو الضدُّ من الولادة، وهو إرادة إيقاف كينونة أحدهم ووجوده.

عن القتل والقاتل وظلاله كان العرض المسرحي كينونة، الذي قُدِّم في مسرح تاك (Tak) في برلين يومي 27 و28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، من تأليف وهاد سليمان وإخراج ليديا تسيمكه (Lydia Ziemke) وأداء كل من أمل عمران، محمد آل رشي، ألويس ماري باور (Marie Bauer) وألويس راينهاردت (Alois Reinhardt).

المسرح كبديلٍ لحدث اجتماعي مفقود
أولى الملاحظات التوصيفية السريعة على مسرحية كينونة أن المخرجة، وقبلها الكاتبة، عملتَا على محو هوية الشخصيات المسرحية. لا يمكن تحديد موطنهم أو هويتهم، فقد يكونون سوريين أو أي جنسية أخرى. إلا أن هذا التفصيل لم يؤثر في الجمهور الحاضر للمسرحية الألمانية العربية.

على مدار يومين، شكلت المسرحية حالة لقاء للسوريين المقيمين في أوروبا، كأي حادثة أهلية يجتمع فيها أهالي الحي/ القرية/ المدينة/ البلد. هذا ليس جديداً، مع المسرح تحديداً نتيجة طبيعته، إذ دائماً ما كان أي عرض مسرحي سوري في أوروبا مساحة للقاء السوريين ببعضهم، إلا أن ما ميّزَ اللقاء هذا أنه جاء بالتزامن مع حدث جلل، وأقصدُ بداية التحرير واقتحام فصائل المعارضة لحلب، وانتقالها إلى حماة، في محاولة لإعادة تشكيل كينونة هذه المدن.

اثني عشر عاماً مرّت على عرض مسرحية حدث ذلك غداً في مسرح الرور، المسرحية التي قدّمتها أمل عمران ومحمد آل رشي وأخرجها أسامة غنم. كان الجمهور الألماني والأوروبي آنذاك توّاقاً لسماع الحكاية السورية، ماذا حدث هناك؟ وما الذي يحدث؟ يسأل المتلقي الأوروبي بفضول. بعد ذلك، مرّت عروض مسرحية كثيرة في ألمانيا، وتشكلت تجمعات وشراكات مسرحية سورية مختلفة، وانفضّت، وقُدِّمت عشرات المسرحيات السورية على الخشبات المسرحية الألمانية، انهمَّ الجمهور الأوروبي، وملَّ الجمهور الأوروبي، وبقي عمران وآل رشي دؤوبَين على تقديم العمل المسرحي. حقَّقَ الاثنان حالة خاصة على مستوى المسرح السوري، لا بكونهما نجمين مسرحيين يحفل رصيدهما بأعمالٍ وخبرة طويلة وحسب، بل بقدرتهما على الاستمرار في العمل المسرحي في أوروبا في سنوات النفي والنار.

من خلال أعمال مسرحية مختلفة، بمخرجين ونصوص عربية وأوروبية، وباستمرارية مع تجربتهما المسرحية السابقة على انتقالهما إلى أوروبا، بَنَت عمران وآل رشي بأعمالهما حالة من الأصالة المسرحية، بمعنى أنه أصبح أي عرض لهما في أوروبا حدثاً اجتماعياً يخصُّ السوريين، وفي عودة المسرح لأصله كحدث اجتماعي تكمن الأصالة في تجربتهما، بعبارة أخرى وأبسط؛ هي أن تسمع أحدهم يهمس قُبيل العرض: «ما بعرف المخرج/ة ولا الكاتب/ة صراحة، بس إجيت مشان شوف أمل ومحمد».

في التيه، الشتات، الغربة، المنفى، سَمِّه ما شئت، تختفي الأحداث الاجتماعية الجماعية، كالأعراس والأعياد ومجالس العزاء، التي إن تمت، فهي تتم بعيداً عن العائلة والأصدقاء والمجتمع الذي تفتت، لذلك يبقى الحدث المسرحي أحد الأنشطة القليلة الجامعة، على صغره. من هنا، كانت مسرحية كينونة، قبل فحواها وقولها، حدثاً اجتماعياً سورياً يجري (هنا)، في برلين، المدينة التي غيرت وجهها البشوش بعد السابع من أكتوبر، و(الآن) حيث ستصبح هذه المسرحية آخر عرض مسرحي سوري يُقام في برلين قبل السقوط الكبير للنظام الأسدي.

كينونة، مسرحية سورية في مدينة ألمانية
هناك تياران أساسيان في الفكر الألماني المعاصر لتوصيف العلاقة بين الكينونة واللغة. الأول ظاهراتي فينومينولوجي، ورائدهُ الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل الذي رأى أن الكينونة الأولى، الوجود الخام، هو وجود صامت لا لغة فيه، وبذلك فصل اللغة عن الكينونة. بينما التيار الفلسفي الآخر ظهر مع مارتن هايدغر، الذي كثّفَ هذه العلاقة بين اللغة والكينونة في كتابه الكينونة والزمان، وخرج بنتيجة فلسفية مَفادُها أنّ اللغة بيت الكينونة. في اللغة العربية أيضاً، هناك تفريق بين الكينونة والوجود، الأولى صفة/خاصية للكائن في الوجود «الكينونة»، والثاني هو المحيط الواسع الذي تتواجد فيها الكينونات «الوجود»، وفرّقت اللغة العربية بين الكائن والموجود، وبتعبير آخر: الكائن يكون والإنسان يُوجد، والكينونة هي انكشاف الموجود للعالم. لم تفرّق مسرحية كينونة بين المستويين؛ الألماني والعربي، الفلسفي واللغوي، فالشخصيات التي تُقدَّم بكينونتها الخام تتحدث العامية الشامية، والألمانية المحكية؛ الكينونة هنا ليست صامتة (خام كما يقول هوسرل)، وليست كينونة دون هوية تخضع لكل زمان ومكان (كما يقدمها العنوان المنكّر للعرض)، لأنها تتحدث لغة دلّلت على هويتها، أي عبّرت الكينونة عن نفسها (حسب هايدغر). وبعبارة أوضح: «أنا لغتي» كما يقولها محمود درويش. لذلك كانت محاولة تنكير الكينونة في العرض غير ممكنة لأن الشخصيات تحدثت، بلغة معينة، ولهجة بلد محدد، فكشفت عن كينونتها.

النص، المكتوب بالفصحى في نسخته الأصلية (ورشة الرويال كورت 2014)، حاول تقديم عرض يعكس العبثَ الناتج عن الانفجار السوري بصيغة مسرح ما بعد الدراما، حيث لا صراع ولا دَيالوغ ولا شخصيات، السرد هو الأساس، والدفق اللغوي للمونولوجات غير المترابطة هو مبنى النص وبنيته. لا وجود لمَشاهد متسلسلة وحكاية واضحة بقدر ما كان النص مبنياً على الشذرات والصور والمشاهد المتشظية المتناثرة، وذلك ما اعتمدت عليه مخرجة العرض أيضاً، عبر مشاهد منفصلة متصلة جاءت على شكل لوحات أدائية وسينوغرافية.

من خلال شذرات بصرية وشخصيات شبحية، يرى المُشاهدُ حكاية جابر، أو كينونته. جابر ببساطة قاتل، قتل عدوه وضاجع الجثة. لا هوية لجابر، ولا لأمه وحبيبته وضحيته. لا نعرف إلى أي طرف ينتمي وخلف أي راية يقاتل. هو قاتل وحسب، يطلب سلاحه للقتل فيلبيه، نسمع همهمات أمه المودعة وذكريات حبيبته المُنتظِرة، وهسيس جثة ضحيته.

على امتداد ساعتين، بإيقاع رتيب، ومقدمة سردية طويلة، يقدّم كينونة نفسه على اعتباره عرضاً مسرحياً لنصٍّ عبثي، إلا أنه وفي أماكن كثيرة، يبدو نصاً مُبهماً، يحتوي صوراً عنيفة لكنها غير متسقة، يحوم حول فكرته ولا يقولها، ولا يفهم المتلقي إن كان عليه أن يفهم جابر أو يتعاطف معه أو ربما يحكم عليه. الإبهام يعمُّ العرض، ويُعتِمُه، وربما كان مَخرَج الفَهم الوحيد هو الأداء ومستوياته المختلفة.

دائماً ما يكون الأداء هو أحد الحوامل الرئيسية للعرض المسرحي، لكن في كينونة كان الأداء هو الحامل الوحيد. ضاع المعنى، وتاهت الصور المُتلاحقة، وبقي الأداء هو المسؤول الأول عن مخاطبة المُشاهد، وإخباره قصة جابر وهلاوسِه مع جثة من قتله.

ضمن هارموني واضحة، تمكّنت ماري باور (Marie Bauer) من متابعة أداء أمل عمران والتفاعل معه، ومقاربة تحوّلاتها التمثيلية. أما أمل فأعادت تكوين المونولوجات المبهمة بلغة أدائية تبني تواصلاً مع المتلقي، من خلال أدائها نتعرّف على الأم، والحبيبة والعاهرة. من نبرتها ندرك التحول بين المشاهد والشخصيات، بين التمثيل والأداء، بين لعب الشخصية ولعب الدور. كذلك كان محمد آل رشي هو الآخر، إذ عملَ على ضبط التنقلات بين المشاهد المتناثرة، والتلوين والتنويع في الأداء، خاصة في المشاهد المعتَمِدة على الجانب الجسدي الحركي، تلك التي تَبادلَ فيها دورَي الجثة والقاتل مع الممثل الألماني ألويس راينهاردت (Alois Reinhardt)، الذي قَدَّمَ هو الآخر أداءاً جسدياً محترفاً. من جهة أخرى، عمل آل رشي على إيجاد لغة متعددة الخواص للعرض، بمعنى الخروج من اللغة الخشبية للنص وإيجاد اللغة الخاصة، اللغة اليومية المرنة التي تتنوع بين الخطابة والبوح والحديث اليومي، وحتى الكوميديا والسخرية في عرض مليء بالصور القاسية. وفي سياق الحديث عن اللغة، تجدر الإشارة إلى أن تجربة الترجمة الفورية، وسماعها بدلاً من مشاهدتها، خلق كماً هائلاً من التشويش والتكرار، فالمتلقي يسمع الحوار الواحد، لا بل الجملة الواحدة، مرتين بلغتين، ولذلك كان خياراً خاطئاً، رغم الجهد الهائل الذي قدّمته المترجمة ساندرا هتزل (Sandra Hetzl)، بحيث تمكّنت من نقل حساسية العامية المحكية في اللغتين.

باختصار، الصورة والحركة والسرد والمسرح ما بعد الدرامي والمسرح مزدوج اللغة، كلها اصطلاحات نقدية يمكن من خلالها قراءة عرض كينونة، لكن قبل ذلك، ماذا يقول العرض عنا؟ أو هل هو عنا فعلاً؟

كيف يرانا الآخر وكيف نرى أنفسنا؟
«وكأننا مجرد صورة مشتتة لجثة وقاتل. أشلاء وأطراف ودماء في كل مكان، صورة ملونة بالأحمر والأسود، وصوت أنين يسمعه العالم في الأذن العملاقة في منتصف العرض. ذلك هو نحن في عيون مخرجة العرض الألمانية». توحي الكلمات السابقة بالاستشراق معكوساً إن أمكنني تسميته بذلك، أي أن نحصر رؤية الآخر لنا بالسردية الاستشراقية السعيدية، والانحصار باصطلاحات الأبيض والمستعمر والمستشرق. وكأن الآخر لا يرانا إلا من هذا المنظور. لكن مهلاً، مَن الآخر؟ ومَن نحن؟ لطالما فكرتُ بماذا أقصدُ حينما أقول نحن وأستخدمُ (نا) الدالة على الفاعلين. من نحن؟ السوريون، الفلسطينيون، الشوام، العرب. من أقصد بـ(نحن) فعلاً؟

ربما كانت لحظة سقوط النظام في سوريا هي اللحظة الكاشفة لما يعنيه كلٌّ منا حينما يقول (نحن السوريون). تلك اللحظة المفصلية وضعتنا أمام السؤال الجذري. من نحن؟ ومن هي سوريا؟ وما هي الهوية السورية. وهل هناك سوريا واحدة أم لكلٍّ منا سوريته؟ من المفهوم أن يصيب التيه مجتمعاً ما جرّاء انفجار سياسي، أو حرب معينة، أو ثورة شعبية، إلا أن ما أصابنا مؤخراً انتقل من تيه المكان إلى تيه الهوية. عندما أقول نحن، ولا يمكنني تحديد نحن هذه، فهذا يعني أن هويتي تائهة، كينونتي تائهة.

عاد سؤال الـ(نحن) هذا بإلحاح بعد السابع من أكتوبر، وبعد فورة الهويات المتشنجة التي تبعها، سواء على المستوى المحلي (سوري، فلسطيني، لبناني…) واختلاط الخطوط السياسية جرّاء الحرب (مقتل حسن نصر الله مثالاً)، أو على المستوى العالمي وإعادة مُساءلة حرية التعبير والقيم الليبرالية، وألمانيا، وبرلين تحديداً، هي خيرُ نموذج لهذا التشنّج الهوياتي. أما بعد سقوط النظام الأسدي، فأصبح سؤال «من نحن؟» شأناً يومياً وسياسياً للسوريين، وغدا هاجسهم اليوم، من نحن؟ وما هي سوريا التي نريد؟

في كل ذلك، ومع إعادة القصة السورية إلى بدايتها، بمشاعرها وتناقضاتها، لم أستطع أن أُخرِجَ سؤال «من نحن؟» من رأسي وأنا أشاهد العرض، وأفكر في كينونتنا المعروضة على شكل أشلاء، ودماء، وديمومة قتل لا تنتهي. وأفكر في أنه يجب علينا، جدياً، وفي هذه اللحظة بالذات، الانتقال مِن سؤال مَن هو الآخر، وكيف يرانا، وكيف نراه، هذا السؤال الذي انشغلنا فيه قرنا كاملاً، إلى سؤال «من نحن»؟ ومن نقصد، كلٌ منا، بقوله نحن؟ والأجدر ربما، في مرحلتنا المجنونة هذه، النظر إلى كيف نرى أنفسنا، قبل أن نسأل كيف يرانا الآخر. وإعادة الحفر في كينونة كلٍّ منا، تلك الكينونة التي اختلفت جذرياً بعد سقوط النظام، فقد كنا، نحن السوريين، قبل الثامن من كانون الأول (ديسمبر) 2024، جيلاً مهزوماً فشل في ثورته، وظنَّ أن أحلامه ماتت دون رجعة، وأصبحنا، بعد السقوط، جيلاً يفكر في مستقبل حر وكريم لا دماء فيه ولا أشلاء.

مقالات مشابهة