بعد أسابيع من سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، يتزايد النقاش بشأن مستقبل البلاد وصياغة المرحلة الانتقالية التي تمهد للوصول إلى دستور دائم يحدد شكل الدولة ونظامها السياسي. في هذا السياق، صرّح القائد العام للإدارة السورية، أحمد الشرع، بأن عملية صياغة الدستور قد تستغرق حوالي ثلاث سنوات، مع توقع إجراء أول انتخابات بعد نحو أربع سنوات. في المقابل، أعربت مجموعة من النخب الفكرية والدستورية السورية، عن تقديرات تشير إلى أن الوصول إلى صيغة حكم نهائية استناداً إلى دستور دائم قد يتطلب فترة تراوح بين أربع سنوات وخمس سنوات.
في هذا السياق، يمكن استعراض التجربة العراقية كمثال لدراسة مسارها واستخلاص الدروس من إيجابياتها وسلبياتها، بما يمكن أن يفيد في الحالة السورية. جدير بالذكر أن التجربة العراقية استغرقت عامين منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003 حتى تشكيل حكومة تستند إلى دستور دائم.
تُعد التجربة العراقية في بناء نظام سياسي ودستوري جديد بعد سقوط النظام تجربة معقدة ومليئة بالتحديات، إذ مرت بمراحل متعددة تأثرت بالظروف السياسية الداخلية والتدخلات الخارجية.
جاءت خطط قيام النظام وليدة الظروف الناشئة وبتأثير دور القوى السياسية والدينية المستجد. فكانت مرحلتان: المرحلة الموقتة منذ انهيار النظام حتى 28 حزيران/يونيو 2004، لتبدأ في هذا التاريخ المرحلة الانتقالية حتى قيام أول حكومة على أساس الدستور الدائم في 20 أيار/مايو 2006، وبدء العراق مسيرة الدولة التعددية، بنظام اتحادي.
شكل قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية الإطار القانوني الذي رعى قيام السلطات العراقية وآلية عملها من الفترة الممتدة من 28 حزيران 2004 (بدء المرحلة الانتقالية مع تسلم السلطة العراقية من سلطة الائتلاف الموقتة) حتى 20 أيار 2005 (بدء أول حكومة عراقية مشكلة على أساس الدستور الدائم عملها).
وقد جاء هذا القانون كنتيجة طبيعية للتسوية التي أفضت إلى قيام مرحلة انتقالية تحضر لكتابة الدستور الدائم، خصوصاً في ظل الخلافات بشأن الآلية التي يجب اعتمادها لوضع الدستور، وتحديداً الهيئة المفترض أن توكل إليها هذه المهمة، مع إصرار المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني على أن تكون هيئة منتخبة ديموقراطياً، واصطدام هذا المطلب بموقف أميركي يشدد على عدم القدرة على تحقيق ذلك خلال المهل المطلوبة.
كان للفتوى التي أصدرها آية الله علي السيستاني في حزيران 2003 الأثر البالغ على تحديد مسار الأمور في بناء العراق الجديد. السيستاني شدد على ضرورة حصول انتخابات عامة لاختيار مجلس تأسيسي يعنى بكتابة الدستور، على أن يطرح بعدها على تصويت عام.
فتوى السيستاني تعارضت مع توجهات سلطة الائتلاف الموقتة، التي شددت على ضرورة الإسراع في تسليم السيادة إلى العراقيين بناء على دستور جديد، يتم إقراره من هيئة عراقية لا تلبي آلية اختيار أعضائها شروط السيستاني. هذا التعارض تزامن مع تباين في الرؤى داخل الإدارة الأميركية وبين القادة العراقيين أنفسهم بشأن كيفية نقل السيادة ومتى.
للتوفيق بين كل هذه التناقضات عمدت سلطة الائتلاف الموقتة إلى إعادة تنسيق خطتها لتشمل مرحلة انتقالية تؤمن انتقال السيادة إلى العراقيين وتعمل على التحضير لكتابة الدستور الدائم من قبل هيئة وطنية مختارة بانتخابات عامة. وبالفعل تم تطوير هذه الخطة لتصبح اتفاقية بين مجلس الحكم وسلطة الائتلاف الموقتة وقد عرفت باتفاقية 15 تشرين الثاني/نوفمبر.
أبرز ما جاء في هذه الاتفاقية أنها حددت المهل الزمنية لقيام المرحلة الانتقالية والانتقال بعدها إلى مرحلة ما بعد الدستور الدائم. وقد نصت على وضع مجلس الحكم لقانون انتقالي يجري اعتماده من قبل سلطة الائتلاف الموقتة، على أن يحدد هذا القانون الإطار القانوني لحكومة العراق، ويتضمن ضمانة لحقوق الشعب العراقي الأساسية، والالتزام بالفيدرالية.
بالفعل تشكلت لجنة صياغة القانون الانتقالي من المجلس الرئاسي لمجلس الحكم (الأعضاء التسعة المفترض أن يتداولوا رئاسة المجلس)، برئاسة عدنان الباجه جي. وتولت الصياغة لجنة خبراء مصغرة مؤلفة من حقوقيين وقضاة وخبراء في القانون. وقد درست هذه اللجنة ستة نصوص مختلفة تقدم بها الفرقاء. انحصر الدور الأساسي في صياغة القانون بخمسة أشخاص، سالم الجلبي وفيصل الاستربادي وهما محاميان أميركيان من أصل عراقي وقد ساهما بشكل كبير في مشروع “مستقبل العراق” من خلال وضع تقرير”الانتقال إلى الديموقراطية في العراق”، بالاضافة إلى ثلاثة مسؤولين من سلطة الائتلاف الموقتة، لاري دايموند، عرفان صديق، ورومان مارتينز.
شكل قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية المكان الرسمي لصياغة التسويات وتكريسها في وثيقة دستورية ولو بصفة انتقالية. وستتبين أهمية هذه التسويات مع استمرارها في تنظيم وإدارة الحياة السياسية العراقية حتى بعد إقرار الدستور الدائم، لتكريسه الجزء الأكبر منها.
كذلك تبرز أهمية قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية على مستويات عدة، لجهة المبادئ التي أقرها ويمكن تبيانها على مستويات عامة ثلاثة: شكل الدولة، قيام السلطات وتنظيم عملها، والحقوق الأساسية للشعب العراقي. وهو ما دفع بعض الخبراء الدستوريين إلى اعتبار هذا القانون بمثابة دستور.
إلا أن شمول هذا القانون العديد من التسويات والتنظيمات المهمة لا يعني عدم استمرار الخلاف بشأن بعض القضايا العالقة والتي تم ترحيلها إلى الدستور الدائم، خصوصاً بالنسبة لمستقبل كركوك مع استمرار التباين بين القوى الكردية والعربية بشأن كيفية حل الإشكالات القائمة فيها.

لعل الصيغ الأبرز التي تمت مناقشتها: صيغة تقدمت بها القوى الكردية تبين المصالح والمطالب الكردية، صيغة “الكتلة الليبرالية” المرتبطة بعدنان الباجه جي، وصيغة الوفاق الوطني العراقي برئاسة إياد علاوي، فيما لم تقدم الكتلة الشيعية أي صيغة محددة، بل اعتمدت على مناقشة الصيغ المقدمة. وقد تمت الاستعانة بالقانون الأساسي للعراق الصادر عام 1925، وبالدستور الأميركي عندما تعلق الأمر بموضوع فصل السلطات.
استلمت الحكومة الانتقالية في العراق السلطة من سلطة الائتلاف الموقتة في 28 حزيران 2004، وعملت هذه الحكومة بموجب قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية على إجراء انتخابات الجمعية الوطنية في 30 كانون الثاني/يناير 2005. وقد أناط هذا القانون بالجمعية الوطنية كتابة مسودة الدستور الدائم، على أن يجري عرض المسودة على الشعب العراقي للموافقة عليه باستفتاء عام.
بشكل عملي تشكلت لجنة صياغة الدستور في 10 أيار 2005، وقد أنهت عملها في 28 آب/أغسطس بعد تمديد الفترة المحددة لها والتي كان من المفترض أن تنتهي في 15 آب. أقرت الجمعية الوطنية مسودة الدستور في 18 أيلول/سبتمبر وعرضتها على بعثة الأمم المتحدة للمساعدة في نشرها في أنحاء العراق قبل الاستفتاء الذي جرى في 15 تشرين الأول/أكتوبر 2005. وبنتيجة الاستفتاء أكدت مفوضية الانتخابات المستقلة أن الشعب العراقي وافق على الدستور طبقاً للمادة 61 من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية.
حدد الدستور العراقي إطار النظام السياسي الجديد في العراق، وهو نظام يفترض أن يرعى التعددية العراقية وينظمها. وقد جاء هذا النظام ضمن تسوية بين المجموعات العراقية، على أنه يشكل الحد الأدنى المقبول لها من أجل رعاية مصالحها. لكن في الواقع طرح وجود أكثرية شيعية في عراق تعددي أزمة بشأن كيفية صياغة نظام يرعى العلاقة بين أكثرية وأقليات في إطار المحافظة على التعددية.
إن سعي الشيعة لحكم الأغلبية في العراق لم يكن سهلاً، نظرا لأن تصنيف الأغلبية والأقليات قائم على أساس هويات طائفية – إثنية، وليس على اعتبارات سياسية. وهذا ما يشكل عملياً معضلة بالنسبة للشيعة، لجهة الحصول على امتيازات الحكم بالأغلبية من خلال نظام يقوم على مراعاة التعددية.
التسوية تمت بشكل فريد بين حكم الأغلبية، الذي طالب به الشيعة، وضمانات الأقلية التي سعى إليها الأكراد، والتوازن يبقى دقيقاً بين المجموعات العراقية، والذي يترجم توازناً بين مفهومي حكم الأغلبية، والحكم بالتوافق. وعلى الرغم من القواعد الدستورية التي حددت موقع السلطات العامة، وعلاقتها مع بعضها البعض، إلا أن عمل هذه السلطات تأثر حكماً بقواعد النظام السياسي الجديد في العراق، وأوصل إلى حكم يرجح الأغلبية للشيعة، رغم استمرار قواعد التوافقية بصورة مشوّهة.
أهمية استعراض التجربة العراقية، تعود إلى تشابه كبير بين العراق وسوريا، لجهة بنية المجتمع التعددية، وانهيار النظام السابق والحاجة لنظام جديد، ووجود العديد من التدخلات الإقليمية والدولية، وغيرها من الأسباب.
يبقى على المسؤولين في سوريا، على مختلف مواقعهم، أن ينطلقوا في عملية بناء النظام الجديد من دون المبالغة في المهل الزمنية، فحركة المجتمع وسلطات الأمر الواقع قد تفرض واقعاً وتغيرات سيكون من الصعب الرجوع عنها.