يوم اضطر ثوار الشمال الإسباني إلى خوض الحرب ضد قوات فرانكو النازية والستالينيين معاً

من الحرب الإهلية الإسبانية (غيتي)

في العامين 1943 ثم 1949 حين أصدر جورج اوريل  (وهو الاسم الأدبي المستعار لإريك آرثر بلير) كتابيه الأدبيين “حيوانات في كل مكان” و”1984″ تباعاً، كان من الواضح أنه إنما يحاول فيهما وبلغة بالكاد تبدو روائية، أن يشهد على أحداث تاريخية عاشها بنفسه فاختار في الكتاب الأول أن يعبر عنها من طريق مجتمع حيواني يعيش حكماً سرعان ما يتحول إلى حكم حزبي توتاليتاري يلغي فردية كل حيوان من أبناء المزرعة التي تدور فيها الأحداث، فيما اختار في الكتاب الثاني نوع الخيال العلمي الذي بدا أكثر وضوحاً في مهاجمته لأواليات النظم التوتاليتارية وتحديداً كما اشتغلت عليها في الوقت نفسه ولكن بأسلوب نظري علمي، الفيلسوفة الأميركية من أصل ألماني حنة آرندت في كتابها المؤسس “جذور التوتاليتارية”.

كان من الواضح أن الكتابين معاً ينهلان من اطلاع الكاتب ومن داخل البيت “الماركسي” على تجربة العلاقة مع الأحزاب الستالينية ومناهضته لممارساتها ولكن ليس في بلده البريطاني – وهو ما أوحى به دائماً من أنه إنما كان يقصد حزب العمال وممارساته في المقام الأول – ولكن في بلد آخر عايشه وشارك في ثورته التي قد يكون محقاً في اتهامه الحزب الشيوعي الإسباني الخاضع لموسكو الستالينية بأنه كان سبباً رئيساً في إجهاض الثورة الديمقراطية في هذا البلد. وللتيقن من هذا، كان بحسب المرء أمام الشهرة التي اكتسبتها “روايتا” أورويل هاتين، أن يعود إلى كتاب سابق له كان أصدره في عام 1938 بعنوان “تحية إلى كتالونيا”.

نجاح مستعار ومتأخر جداً

في الحقيقة أن هذا الكتاب لم يحظ في بداية الأمر بالنجاح الواسع الذي سيكون عليه نجاح “الروايتين” المذكورتين، لكنه سرعان ما راح يقرأ ويترجم إلى كثير من اللغات بعد عقد ونيف، إذ اكتشف المعلقون أن في صفحاته تكمن الجذور الحقيقية للغضب الذي حول الكاتب الإنجليزي من شاهد إلى مؤرخ، ومن مؤرخ إلى أيديولوجي حيث غالباً ما بدت الأيديولوجيا طاغية على “حيوانات في كل مكان” ثم أكثر من ذلك على “1984” بحيث إن هذا الأخير بات منذ ذلك الوقت المبكر يطبع ويستعاد تفسيره والتعليق عليه في كل مرة اقتضت الأحداث السياسية ذلك. وكانت آخرها كما نعرف مناسبة مجيء الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب إلى سدة البيت الأبيض وهو الذي راح في كل خطوة من خطواته يذكر الناس بـ”الأخ الأكبر” الذي يحصي على المواطنين أنفاسهم متجسساً عليهم حتى داخل بيوتهم وفي أعماق تفكيرهم، ويقلب الأكاذيب إلى حقائق ويخترع لغة ليست كاللغات ويحرم الناس من السعادة والحب والحياة، وما إلى ذلك من ضروب التصرفات التي تبدو حزبية لكنها في حقيقتها مجرد نوع شديد الرداءة من الديكتاتورية الفردية.

روايات أم لا روايات

في تلك المناسبات، لئن ظلت المكانة الأولى في تراتبية انتشار كتب أورويل (1903 – 1950) لـ”لروايتين” على رغم احتجاج كثر من النقاد على توصيفهما كروايتين معتبرين جورج أورويل مجرد شاهد على التاريخ، حاول أن يعطي أحداثاً تاريخية لا شك في صحتها بعداً تخييلياً يجب الشك دائماً في قوته الأدبية، استعيد ذكر “تحية إلى كتالونيا” الذي فضله كثر من المعلقين والنقاد والمفكرين باعتباره أكثر صدقاً، ليس فقط في تعبيره عن موقف الكاتب الحقيقي والدوافع التي حدت به لاحقاً إلى “استكمال” شهادته عبر ذلك الأسلوب الأدبي الذي من الواضح أنه بدا لديه مفتعلاً وفي الأقل بحسب معلقين لاحقين من طينة كنغسلي آميس وسلمان رشدي وحتى إدوارد سعيد.

ولعل ما يمكن التوقف عنده بالنسبة إلى “تحية إلى كتالونيا” هو أنه كتاب عرف كيف يكسر قاعدة أساسية تسم عادة كتب الشهادات التاريخية، إذ من المعروف عادة أن هذا النوع من الكتب الذي يصدره في لحظة زمنية معينة كتاب شاركوا في أحداث تاريخية معينة وها هم أولاء يريدون الآن التأريخ لها من موقع ذاتي، فإذا طوى النسيان تلك الأحداث اختفت أهمية شهاداتهم، لكن الأمر لم يكن على ذلك النحو بالنسبة إلى كتاب أورويل المبكر. فإذا كان الكاتب قد تمكن من تجاوز محنة مرور الزمن فما هذا إلا لأنه عرف ذات لحظة في كتابه كيف يحوله من شهادة شخصية إلى تاريخ لما عايشه.

الروايتان كملحقين بالنص التاريخي

كان تاريخاً أتى مستبقاً ما استخلصه من دروس سياسية في “الروايتين” اللتين تبدوان هنا وكأنهما مجرد “استكمال له” فيبدو الكتاب من ثم أكثر صدقاً وفاعلية. ولربما كان من أهم ما جعله كذلك، في نظر المعلقين، كونه قد قدم شهادة حية على حدث صحيح أن مضى في غياهب النسيان ولكن بقيت منه رمزيته المطلقة وما نتج منه من انشقاقات كبرى، على صعيد العالم، بين قوى آمنت بالثورة والديمقراطية وقوى أخرى آمنت بالحزب والزعيم وبأن الغاية تبرر الوسيلة مهما كانت قذارة تلك الوسيلة. ولعل النزاهة التي وسمت نص أورويل وهو يتحدث عن وصوله إلى إسبانيا للمشاركة في حربها “الأهلية” التي كانت في الوقت نفسه حرباً ضد النازية والفاشية، العامل الأول في بقاء هذا الكتاب ليتلوه عامل آخر هو صدور “الروايتين” مما استدعى الحاجة إلى قراءة تجربة أورويل التي أنجبتهما.

فلقد وصل أورويل إلى كتالونيا في مرحلة مبكرة من الحرب حين كان الحزب المناوئ بقوة للستالينية، وهو “حزب العمال الماركسي الموحد” والمعروف اختصاراً بـ”ب و و م” مسيطراً على الوضع فكان من أول ما فرضه إزالة التراتبية الطبقية بين الثوار في إصدار الأوامر وتلقيها وفي المكافآت الشهرية والرعاية الصحية وما إلى ذلك.

 

الثوار في مواجهة جبهتين

صحيح أن هذا كله قد أرضى المواطنين ولا سيما في كتالونيا، لكنه أغضب الستالينيين وغيرهم من القوى الحزبية التقليدية التي لا تقوم لها قائمة عادة إلا على أساس تلك التراتبية. ونعرف أن أورويل انضم إلى الـ”بووم” وقد أرضته تلك الحرية وذلك الإخاء والرفاقية في الشارع وفي المقاهي وعلى جبهات القتال معتبراً إياهما تأسيساً لمجتمع جديد. ومن هنا نراه يخوض حرب الشوارع والجبهات حتى اليوم الذي أصابته رصاصة في عنقه أبعدته بعض الشيء عن الجبهة، لكنها قربته، أكثر، من تأمل ما يحصل، ولا سيما منه تصرفات جبهتين معاديتين راح الـ”بووم” يتصدى لكل منهما: جبهة الستالينيين من جهة، وجبهة فاشيي فرانكو من جهة ثانية. وفي خضم ذلك وفيما كان الحزب الذي انضم إليه أورويل وأثار لديه كل تلك الحماسة الثورية والفكرية يتراجع ليس تحت ضغط الفرانكويين وحدهم، بل كذلك تحت ضغط بقية القوى الثورية، وفيما كان أورويل يغادر إسبانيا مثقلاً بجرحيه، جرح الجسد وجرح الكرامة الإنسانية، بدأ يخط الصفحات الأولى من هذا الكتاب وقد أدرك أن عليه أن يحوله، في قسمه الأخير – الذي سيكون أكثر أهمية بكثير لاحقاً – من كتاب شهادة شخصية على تجربة عايشها بنفسه وشارك فيها مشاركة فعالة، إلى نص تاريخي يحلل من موقع فكري وعلى ضوء انتهاء الأمر بحزب الـ”بووم” إلى أن يعتبر من قبل القوات الستالينية وحلفائها “جماعة متطرفة خارجة على القانون” وهو التعبير نفسه الذي استخدمه الفرانكويون حين أعلنوا بدورهم الحزب نفسه خارجاً على القانون. ومن هنا اتجه تفكير الكاتب وجهة ما كانت لتخطر له في بال من قبل. فكرة تتعلق بالوسائل الستالينية في رسم التحالفات وتأبيد عبادة الفرد وخلق النظم التوتاليتارية. ولسوف يقوده التعمق في تلك التأملات لاحقاً إلى تحويل كل ذلك المتاع الفكري الذي بات يملكه ورسم إرهاصاته في “تحية إلى كتالونيا”، إلى أساس بنى عليه خلال السنوات التالية تينك “الروايتين” اللتين بقيتا من أشهر أعماله على الإطلاق، إضافة طبعاً إلى نصوص أخرى له مثل “إطلاق النار على فيل” (1950) وكتابه البديع السابق على ذلك كله حول تجواله “صعوداً وهبوطاً بين لندن وباريس” (1933).