هذا المقال هو استكمال لما تناولناه في الجزء الأول، الذي نشر قبل عام، حيث استعرضنا التحولات السياسية الكبرى في المنطقة وتأثيرها على تركيا وإيران. في هذا الجزء، ننتقل إلى الأحداث الأخيرة التي شهدها العالم بعد السابع من أكتوبر 2023، والتي أدت إلى سقوط نظام الأسد في سوريا وما خلفه من فراغ سياسي وأمني. كما نناقش ترقب تسلم الرئيس المنتخب دونالد ترمب السلطة في 20 يناير 2025، وأثر ذلك على المشهد الإقليمي والدولي. سنسلط الضوء أيضاً على التحولات السياسية داخل إيران، حيث تواجه الأطروحتان الإصلاحية والمحافظة اختباراً صعباً، في ظل وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي بحادثة الطائرة أواخر 2023، مما أضاف تعقيداً جديداً إلى المشهد الإيراني. وأخيراً، نتناول تطوراً إيجابياً في لبنان، حيث انتهت أزمة الفراغ الرئاسي باختيار رئيس جديد للجمهورية.
سقوط نظام بشار الأسد شكل منعطفاً جديداً في المشهد السوري، وأطلق مرحلة انتقالية تتسم بفراغ سياسي وأمني، ما جعل الساحة مفتوحة لتنافس القوى المحلية والدولية. على المستوى الداخلي، سيطرت “الجماعات المسلحة”، خاصة “هيئة تحرير الشام” المدعومة من تركيا، على مناطق استراتيجية، لكن الخلافات بين الجماعات المسلحة تعقد إمكانية التوصل إلى رؤية موحدة لإعادة بناء الدولة.
تركيا بدورها ترى في هذا التحول فرصة لتعزيز دورها الإقليمي، لكنها تواجه تحديات كبيرة، منها تعقيد علاقاتها مع روسيا وإيران، فضلاً عن أزماتها الاقتصادية الداخلية. في الوقت نفسه، مع اقتراب تسلم إدارة ترمب السلطة، من المتوقع أن تتبنى الولايات المتحدة سياسة أكثر حزماً تجاه سوريا وإيران، ما يفرض على تركيا إعادة حساباتها في المنطقة.
على الجانب الإيراني، وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي في حادثة الطائرة خلقت فراغاً قيادياً في صفوف المحافظين، مما فتح المجال للنقاش حول جدوى سياساتهم. الإصلاحيون، بقيادة شخصيات مثل محمد جواد ظريف، يدعون إلى نهج أكثر مرونة مع الغرب، مع التركيز على تحسين العلاقات مع الاتحاد الأوروبي ودول الجوار، بينما يصر المحافظون على سياسة المواجهة المفتوحة مع الولايات المتحدة، مع تعزيز تحالفاتهم مع روسيا والصين.
لكن في ظل التحديات الاقتصادية والسياسية الراهنة، تبدو الأطروحة الإصلاحية أكثر انسجاماً مع المتغيرات الدولية، خاصة إذا ما استطاعت إيران تحسين علاقاتها مع دول المنطقة. إيران تواجه واقعاً جديداً بعد تراجع نفوذها العسكري في سوريا وانسحاب وكلائها الإقليميين، مما يتطلب إعادة صياغة سياساتها بما ينسجم مع التحولات الإقليمية والدولية. عليها العمل على تحسين العلاقات مع دول الخليج، خاصة السعودية، من خلال خفض التصعيد وفتح قنوات للحوار الدبلوماسي، والتركيز على التعاون الاقتصادي لتعزيز الثقة. كذلك، يجب أن تسعى لتحويل دورها في سوريا من الحضور العسكري إلى التعاون السياسي والاقتصادي، والمشاركة في إعادة الإعمار بشكل يضمن نفوذاً أقل تصادماً مع القوى الأخرى.
إيران بحاجة أيضاً لإحياء الاتفاق النووي لتخفيف العقوبات الاقتصادية، مع الموازنة بين تحالفاتها مع روسيا والصين وعلاقاتها مع أوروبا والولايات المتحدة. داخلياً، يتعين على إيران تحسين أوضاعها الاقتصادية والسياسية، وتقليل الإنفاق على التدخلات الخارجية، مما يساهم في تعزيز الاستقرار الداخلي والشرعية الدولية.
الحركة الخضراء عام 2009: فرصة ضائعة لإيران
عند الحديث عن الإصلاحات في إيران، لا يمكن تجاهل الحركة الاحتجاجية لعام 2009، المعروفة بالحركة الخضراء، التي شكلت لحظة فارقة في التاريخ السياسي الإيراني الحديث. الحركة، التي انطلقت اعتراضاً على نتائج الانتخابات الرئاسية واتهامات التزوير، عبرت عن تطلعات شرائح واسعة من الشعب الإيراني للإصلاح السياسي والاقتصادي.
الحركة الخضراء، بقيادة رموز بارزة مثل مير حسين موسوي ومهدي كروبي، لم تكن مجرد احتجاج على الانتخابات، بل كانت تمثل رؤية لإصلاح النظام المؤسسي في إيران، بما يشمل تعزيز الشفافية، وتقوية مؤسسات المجتمع المدني، وتقليل تدخل الحرس الثوري في الحياة السياسية.
لو استجابت القيادة الإيرانية حينها لمطالب الحركة، أو تعاملت معها كفرصة للإصلاح الحقيقي، لربما كان موقع إيران اليوم أفضل بكثير. بدلاً من ذلك، انتهت الحركة بقمع واسع، مما أدى إلى تفاقم الفجوة بين النظام والشعب، وإضعاف مسار الإصلاحات لسنوات لاحقة.
تبدو هذه الأحداث اليوم أكثر ارتباطاً بالمشهد الحالي، حيث تواجه إيران تحديات داخلية وخارجية كبرى، مع تراجع الاقتصاد وتزايد العزلة الدولية. استرجاع تجربة الحركة الخضراء يظهر كيف أن تجاهل التطلعات الشعبية للإصلاح قد يؤدي إلى نتائج كارثية على المدى البعيد.
أما في لبنان، فقد شهدت البلاد تطوراً إيجابياً بإنهاء أزمة الفراغ الرئاسي التي استمرت لفترة طويلة. اختيار رئيس جديد للجمهورية، بعد توافق داخلي ودعم إقليمي ودولي، يمثل خطوة نحو استعادة الاستقرار السياسي. ومع ذلك، فإن الرئيس الجديد يواجه تحديات كبيرة، أبرزها إعادة بناء الاقتصاد المنهار وتعزيز ثقة المجتمع الدولي بلبنان.
التطورات الأخيرة في سوريا وإيران ولبنان تعكس مرحلة جديدة من التحولات في الشرق الأوسط، تفرض على القوى الإقليمية ضرورة التكيف مع المتغيرات الدولية والإقليمية. السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه الآن هو: هل تستطيع هذه القوى استغلال هذه التحولات لصالح استقرار طويل الأمد، أم أننا أمام مرحلة جديدة من الصراعات التي قد تعيد تشكيل خارطة المنطقة؟