يمتدّ أثر السينما، بما لديها من ميزات، كالصورة والكلمة والموسيقى وأداء الممثلين، من الذاكرة والوعي إلى التأثير في العالم، إذ تنزع عن الحدث واقعيّته، وتجعل ما لم يحدث ممكن الحدوث. ويتفوّق دورها على “المراجع المكتوبة والمقروءة، أو حتى المسموعة، فالصور المرئيّة والمتحرّكة تعمل عملًا حيويًّا من خلال إعادة إحياء الحدَث على الشاشة أمام المشاهِد الذي يشعر وكأنه جزءٌ منه، بدلًا من تخيّله في حال قرأه، أو سمعه من أحدهم”*.
وإذا كانت الأعمال العظيمة تنتج عن خيال خصب وروح حرّة، فيمكننا أن نعثر على الضدّ من ذلك في أفلام موجهة لخدمة أغراض سياسية، أو أيديولوجيّة معينة. لقد استخدم الزعيم الألماني أدولف هتلر السينما عبر أفلامه التسجيلية للدعاية للنازية. وما ميز الأفلام الدعائية التي بثتها النازية في تلك المرحلة أنها تستهدف الغرائز. كتب هتلر عن التأثير النفسي للصور في كتابه “كفاحي”: “يجب على المرء أن يتذكر أيضًا أن الجمهور نفسه خامل عقليًا، وأنه لا يزال مرتبطًا بعاداته القديمة، وأنه ليس من الطبيعي أن يقرأ شيئًا لا يتوافق مع معتقداته الراسخة عندما لا تحتوي هذه الكتابة على ما يأمل كثيرون أن يجدوا هناك”**. وفي الصفحات ذاتها، يلحّ هتلر على كون الصورة تفعل في ضربةٍ واحدة ما لا تفعله الكتابة.
وفي المسار ذاته، حرصت سينما هوليوود على تكريس علوّ الرجل الأبيض، وقدمت لنا ذوي البشرة السمراء كمجموعة من الأشرار الذين يصعب إصلاحهم. وفي كتابه “حصان نيتشه”، يروي الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو ذكرياته مع السينما الغربية التي تصوّر السمراء شريرة، وعشيقة لزعيم العصابة، كما أنها مدخنة ومحبّة للعراك، بخلاف الشقراء، فالأخيرة ساذجة وغضّة وجذّابة، منتقدًا الجمهور الذي كان يحتجّ لانقطاع مشهد قبلة، لكنّ أحدًا لم يحاول السؤال: لماذا تكون السمراء شرّيرة على الدوام، والشقراء فاتنة! وقد تمنى “لو كان يعرف التصفير حتى يملأ باحتجاجه القاعة التي تمور بالخديعة والنفاق”.
وفي هذا السياق، يمكننا تأمل السينما السورية التي أتت بعد 2011، إذ تبنّت كثير من الأعمال السينمائيّة سرديّة السلطة. واستطاعت عبر الصورة البصرية والتأثيرات النفسيّة التلاعب بالانفعالات لتوجيه الوعي، وما كتابة هذا المقال إلا بأثر من تجربة شخصية عايشتها كاتبته. إذ كان هنالك برنامج ممنهج لهذا النوع من الأفلام التي كانت في غالبيتها “ملكيّة أكثر من الملك”.
إذ كان يجري تخصيص يوم لنا، معلمين وطلابًا، في السنوات التي أعقبت 2012 لمشاهدة أفلام يقدمها مخرجون يعملون في ظل السلطة ورعايتها.
“إذا كانت الأعمال العظيمة تنتج عن خيال خصب وروح حرّة، فيمكننا أن نعثر على الضدّ من ذلك في أفلام موجهة لخدمة أغراض سياسية، أو أيديولوجيّة معينة”
وفي ظلمة سينما الكندي في مشروع دمر، كان الأمر أشبه بجمهور صراع الثيران، إذ تنفلت المشاعر العدوانية، أو الغرائزية، ورغم معايشتنا للواقع ومعرفتنا بما يحدث إلا أننا كنّا أشبه بذلك المشاهد الذي وصفه أستاذ التاريخ والدراسات الثقافية في جامعة ويسليان ريتشارد سلوتكن، والذي يصف المتلقي بأنه وإن “كان يعرف أنّ الحدث لم يحدث بالطريقة التي يرويها الفيلم، فإنّ التصوير السينمائي يعطيه الوهم بأنه حدث بتلك الطريقة بالفعل”. وعبر زاوية الكاميرا، وتركيز الانتباه على وجهة معينة يتوجب فيها ألا تتحرك بوصة إلى اليمين، أو اليسار، لأن ذلك قد يغير مجرى الحكاية. كنا نرى الواقع الذي عشناه من دون بنج، وقد اختزل في رؤية أحاديّة.
يلحّ هتلر على كون الصورة تفعل في ضربةٍ واحدة ما لا تفعله الكتابة…
فما إن ندعى للاصطفاف في الباحة المدرسية مع تلاميذنا، حتى نعرف أن فيلمًا جديدًا يروي حكايتنا ليس كما نعرفها، بل كما يريد صنّاع الفيلم. وبرغم أن مياه حكايتنا تحوي شوائب كثيرة، لكن ينابيعها العذبة كانت في مكان آخر، كما أن الدماء التي خالطتها لم يكن لها حضور وسط كادرات الكاميرا. ولأن الوهم مريح فقد انساق كثيرون منا إلى تصديق الشاشة، حتى إن زيفّت الواقع.
ويمكن أن تشكّل مجمل أعمال المخرج السوري نجدت أنزور مثالًا في هذا الخصوص، فالأفلام التي أخرجها، ولا سيما في ذروة الحرب السورية “فانية وتتبدد” (2016)، “ردّ القضاء” (2016)، “دم النخل” (2019)، “رجل الثورة” (2018)، ليست سوى صياغاتٍ فنيـّة متنوعة لهاجسٍ وحيد: تأكيد وجود شرٍّ مطلق في مقابل خير مطلق. ولأنّ الشر يحتاج إلى شيطان يتبنّاه، فقد كان الأخير حاضرًا في إحدى زوايا الواقع السوري المعقد والسرياليّ، إذ وضعت الكاميرا حيث يرغب المستبد أن تكون. ولأنّ البناء يحتاج إلى أساس فقد عمَد إلى قصص حقيقية لتأكيد نص تحتيّ مخُتلَق.
في فيلمه “ردّ القضاء”، حصار سجن حلب حقيقي، وقصة حاتم واقعية، وهو شرطي خسر عائلته التي أعدمت على أيدي متشدِّدين، وحصار السجن من قبل الإسلاميين ومقاومة قوات الشرطة والجيش لها ليس من صنع الخيال بالتأكيد؛ لكنّ هذه الاختزالية للثورة لم تكن سوى نفي لولادة الحرية، وتأكيد لسردية السلطة حول المتطرفين الذين أخرجوا من سجون الأسد في بداية الثورة، وصبغوا وجه الثورة بالسواد. وفي كل حال، ينتهي العمل بالنصر على الإرهابيين، وإيفاء حاتم بوعده لأمه بأن يعيش، لكن أمه خذلته، إذ ماتت قبل أن يلتقيها.
“تنزع كاميرا أنزور عن المعارضين حسّهم الوطنيّ، وتختزلهم في صورة مجموعة من الوحوش”
ولعل أكثر أفلامه إثارة للجدل بعد “دم النخل”، الذي وصف فئة من المجتمع السوري بالجبن، مقابل بطولات فئة أخرى، هو “رجل الثورة”، الذي يروي قصة صحافي أجنبي لعب دوره الفنان سيف الدين سبيعي، والذي يدخل سورية بطريقة غير شرعيّة؛ بحثًا عن قصص ينشرها عن الواقع السوري، طامعًا بالحصول على جائزة البوليتزر، والذي سيوعز للمعارضين بأن يستخدموا الكيماوي على أنفسهم؛ للتأثير في العالم الغربي، ولتبرئة النظام من هذه الجريمة، وإظهار الحقيقة للرأي العام، كما ذكر مخرج الفيلم.
تنزع كاميرا أنزور عن المعارضين حسّهم الوطنيّ، وتختزلهم في صورة مجموعة من الوحوش، وهي وإن كان لها وجود، لكنها لا تمثل المشهد كاملًا، ومن أجل تحقيق هذه الغاية يعتمد اللقطة المقربّة، والتي اخترعت بحسب المخرج الفرنسي جان لوك غودار/ jean-luc Godara “للمأساة بخلاف اللقطة البعيدة المخصّصة للملهاة”. وعبر شحذِ انفعالات المتلقي إلى الحدّ الذي يجعل العالم، وعلى غرار الشاشة، منقسمًا بين الشرّ المطلق، والخير المطلق، ولا مكان للضحايا ضمن كادراته البصريّة، فالكاميرا تتحرك بين زاويتين لا ثالثة لهما، إما متطرف وقاتل، أو نادم وتائب عائد لحضن وطنه.
نجدت أنزور يصنع أفلامًا دعائية في إطار بروباغاندا السلطة الهاربة من دمشق
وإلى جانب التناقضات الفجّة، وغياب الرؤية الإنسانية، التي تعزز وتحرك مياه الشك لدى الإنسان، يعزز أنزور، وتحت غطاء تنوع السوريين، وتعدد لهجاتهم، من الأفكار النمطية؛ إذ يصبح الشخص بلهجته معبرًا عن طائفة أو جماعة كاملة، وحاملًا لسماتٍ محدّدة لا تجعله إنسانًا في موقف بقدر ما تجعله جماعة في موقف.
هذه العقلية هي التي تعامل فيها النظام مع السوريين، والتي انتهت بفظائع راح ضحيتها أبرياء لانتمائهم إلى مكان أو فئة معينة، ستتكرر بطريقة مواربة في سينما أنزور، فقد أثار “دم النخل” “موجةً من الغضب والاستياء لدى أبناء محافظة السويداء جنوب سورية، إذ يُظهر عسكريًا يتحدّث باللهجة المحكيِّة، كشخصٍ جبانٍ خائف من مواجهة مقاتلي تنظيم “الدولة الإسلامية”. أسهم ذلك في خلق صورة مشوّهة تجعل كلَّ من ينتقد النظام شريرًا ومتطرفًّا. وكل من يواليه شجاعًا بطلًا. اللاّفت أن فيلم “رجل الثورة” يبدأ بمقولة لكاتب يوناني هو أسخيلوس، الذي عاش قبل 2400 سنة، وهي أن “الحقيقة أوّل الضحايا في الحروب”. ولأن الحقيقة ليست عمياء، ولا ترى بعين واحدة؛ فإن كاميرا أنزور اختزلت هذا الواقعة وتنكرت للضحايا الذين شكلت أنقاض بيوتهم استوديوهات مجانيّة لتصوير أعماله، متناسيةً أن القيمة الماديّة للتذكرة، والمهرجانات الدورية، والألقاب الاعتباطيّة، لا تعطي الفن قيمته. وفي حوار مع نجدت أنزور، وعند سؤاله حول سبب السعر المرتفع لتذكرة فيلمه “ردُّ القضاء”، أجاب: ليش الثقافة دائمًا رخيصة، ومين قال إنو الثقافة لازم تكون رخيصة؟”***.
هوامش:
* غيداء أبو خير، الأفلام السينمائية ما بين المتعة السينمائية وتزييف الحقائق.
** أدولف هتلر، كفاحي، ترجمة: لويس الحاج.
***-https://alrai.com/article/1035240/أخر-الاسبوع/نجدت-أنزور-مين-قال-إنو-الثقافة-لازم-تكون-رخيصة، الرأي، مقال منشور بتاريخ 12-6-2017.
*كاتبة سورية.