في الثامن من ديسمبر الماضي، تحقّق ما كاد السوريون يرونه مستحيلاً، أو شبه مستحيل، وهو سقوط النظام أو تهاويه كبناء هش من ورق، أمام حملة «هيئة تحرير الشام»، بعددها وعتادها المحدودين.. ولكن بهمّتها العالية، بذلك غاب عن المشهد السوريّ ما كان يشكّل جزءاً أساسياً من الأطراف المعنيّة بتنفيذ القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن بتاريخ 18/12/2015.
هذا ما تردّده شخصيّات القوة المظفّرة الحاليّة في دمشق، وترفض على أساسه مطالبات جزء من السوريين، ومجمل الأطراف العربية والدوليّة، بتنفيذ ذلك القرار، بمبادئه وجوهره ـ ما لم يكن بحرفيّته – بعد التغيير الذي حدث. ولا يمكن إنكار أن هناك سوريين آخرين من خارج الإدارة التي تحكم الآن بصفة مؤقّتة، يؤيّدون أيضاً رأي السلطة الجديدة ولا يرغبون بسماع ذكر القرار.
بالتوازي مع ذلك، وبإلحاح أكبر، تُطالَب سلطة دمشق الراهنة بتأسيس حكم انتقالي «شامل، وذي موثوقيّة، وغير طائفي»، مع تركيز متفاوت أحياناً لمصلحة «الشمولية»، التي تعني هنا وجود تمثيل لكلّ الأطراف بكلّ أشكال تصنيف تلك الأطراف: جغرافية، وسياسية، ودينية، وإثنية، بل اجتماعية وثقافية أيضاً، علماً أن مفهوم «الحكومة الشاملة» قد يأتي بالعربية بصيغة «الحكومة الجامعة»، أو التي لا تستثني ولا تُقصي. في حين تعطي الحكومة المؤقّتة – حسب إعلانات يومها الأول ـ تفسيرات مختلفة، قد يكون بعضها شعبياً أو شعبوياً، مثل رفض مشاركة الائتلاف إلّا كأفراد، وهو قوة حظيت باعتراف مهم في السابق، وما زالت تحتفظ بجزء منه، التركيّ خصوصاً؛ كما أنها تتعامل مع بنى سياسية ذات تاريخ طويل في المعارضة بطريقة غير مناسبة.
لا يتجاهل أحد ولا يستطيع تجاهل فضل من استطاعوا إسقاط النظام، خلال أحد عشر يوماً، وهو فضل عظيم ينبغي تقدير من قام به، لكنّ ذلك النظام «ذاب» أمام القوى التي تتقدّم باتّجاهه، وقبل وصوله إليها غالباً. ذلك الذوبان نتيجة لهشاشة سبّبتها عدة حقائق: منها العقوبات الغربية والفساد وتهتّك النظام بعد إطباق الروس والإيرانيين عليه، ثمّ ما طرأ على الطرفين من ضعف، ولكن أولاً بسبب نضالات أجيال من السوريين وتضحياتهم، كان آخرها جيل ثورة 2011.

تقاوم هيئة تحرير الشام ومعها آخرون فكرة صلاحية القرار 2254، بعد أن انتهى طرفه الآخر: النظام. هذا يعني أن هنالك منتصراً ومهزوماً، والأوّل يرسم التاريخ اللاحق، لا السرديّة وحدها

وصفة الحكم «ذي الموثوقية»، التي لا يجري التوقّف عندها كثيراً، لأن بعض من ينتقد لا يحملها، تعني أن تكون هنالك شفافية ومحاسبة ومراقبة لعمل ذلك الحكم، من برلمان أو مجلس تمثيلي مؤقت على الأقلّ، لقبول أو رفض أحكام تلك السلطة، أو على الأقلّ نقدها بشكل مباشر، وملاحقة مصير ذلك الانتقاد بمقدار ما تكون لتلك البنية السياسية من قدرات. ليس ذلك بعسير، لو تمتّعت السلطة بالرشد والإرادة و»الموثوقيّة» أيضاً، مع التواضع. وكانت حكاية «الحكم غير الطائفي» قد ابتدأت منذ بياني فيينا في 30 أكتوبر ثمّ 14 نوفمبر عام 2015، حيث ترافقت مع صفة «العلمانية» في البيان الأوّل ثم بقيت اللاطائفية وحدها. كنّا بين البيانين قد اجتمعنا كوفدٍ للائتلاف مع ممثّلي القوى الغربية، وبينهم يومها السفير مايكل راتني ممثّل الولايات المتّحدة، وديمستورا مبعوث الأمين العام للأمم المتحّدة. وطرحت – أنا العلمانيّ- شخصياً ضرورة الاستغناء عن اللفظ والاستعاضة عنه بمضمونه، كالفصل بين الدين والدولة، إضافة إلى صفة «غير الطائفي»، وتمّ ذلك في البيان الثاني. حالياً لا يمكن أن تنطبق تلك الصفة على الإدارة المؤقّتة، لأنّها من طرف واحد سياسياً وأيديولوجياً وطائفياً، بانتظار موعد الحكومة «الانتقالية» في أوّل مارس المقبل.
في تلك الأيام، وخلال شهرين أو ثلاثة أشهر، طرأت على المسألة السورية عدة تحوّلات كبرى: قام الطيران الروسي بافتتاح سلسلة من الغارات اعتباراً من 30 سبتمبر على المعارضة، أدّت إلى إضعافها، وابتدأ مسار فيينا تحت تلك النيران في الشهر التالي، حيث تأسّست «مجموعة دعم سوريا الدولية»، وصدر عنها البيان الأوّل؛ ثمّ بُحثت قضية تمثيل المعارضة، وتمّ في الاجتماع الثاني إصدار بيان ثانٍ أكثر تفصيلاً، وإقرار أن تقوم السعودية ـ تفويضاً دولياً من دون إعلان- بالدعوة إلى مؤتمر يشمل مع الائتلاف والقوى الميدانية منصّتي القاهرة وموسكو ومستقلّين، فانعقد» مؤتمر الرياض- 1» بعد أقلّ من شهر، في 10 – 12 ديسمبر، وانتخب هيئة للتفاوض، ما زالت تقاوم عوامل» الحتّ والتعرية» حتى الآن.
كان قرار مجلس الأمن رقم 2254، إجمالاً لكلّ تلك النتائج: من بدء التدخْل العسكري الروسي إلى مؤتمر الرياض، وصدر بعد ستة أيام فقط من الحدث الأخير. لذلك ظهر ويظهر ذلك القرار قويّاً وصاحب حضور في ساحة المسألة السورية: بإجماع دولي، وتوازن للقوى الدولية والإقليمية، وللأطراف السورية من معارضة ونظام، بل ورضا متبادل تمّ النصّ عليه في القرار.
كان ذلك الإجماع والتوازن يعكس الحالة في تلك الفترة، وهو لا يعكس الحالة الحاليّة، التي لم نصحُ بعد من زلزالها. لكنّ الحالة الأولى كانت ملغومة بالنوايا المتضاربة، التي افترق بعدها الجَمع على مسارين، في جنيف وآستانا، وابتدأت المغامرة الروسية مع سابقتها الإيرانية بالتنافس على تخريب البنية السورية، جغرافياً وسكّانيّاً وطائفياً واقتصادياً، دون أية سياسة إيجابية. انتهى ذلك السياق بمساعدة أهل النظام على إنهاء مقوّمات وجوده في العام الماضي، قبل الحدث التاريخي الباهر في الثامن من ديسمبر.
حالياً هنالك تفارق: تقاوم هيئة تحرير الشام ومعها آخرون فكرة صلاحية القرار 2254، بعد أن انتهى طرفه الآخر: النظام. هذا يعني أن هنالك منتصراً ومهزوماً، والأوّل يرسم التاريخ اللاحق، لا السرديّة وحدها. ويردّ أنصار القرار الخارجيون والداخليون أن المطلوب تنفيذ مضمونه وروحه ومبادئه، التي لا يمكن اختصارها بالمطاليب الثلاثة: الشمولية والموثوقية واللاطائفية، رغم أنّها أهمّها وزبدتها.
وفي الحقيقة، عمل «المنتصرون» الخارجيون على إيجاد البديل الجديد، الناتج من ترميم القديم والمحافظة على محتواه، في مدينة العقبة الأردنية، بعد انهيار النظام السابق بأيام، حين أحيى بيان العقبة ذلك المحتوى من دون ذكر النظام، بل بنى على غيابه وانتهاء زمانه.. وتكريماً للقرار الشهير ذَكَرَه بالخير في سياقه، بما هو أهل له. تضمّنت الفقرة الثانية من البيان أهمّ ما اتّفق عليه، ونصّت على «دعم عملية انتقالية سلمية سياسية سورية – سورية جامعة، تتمثل فيها كل القوى السياسية والاجتماعية السورية، بما فيها المرأة والشباب والمجتمع المدني بعدالة، وترعاها الأمم المتحدة والجامعة العربية، ووفق مبادئ قرار مجلس الأمن رقم 2254 وأهدافه وآلياته، بما في ذلك تشكيل هيئة حكم انتقالية جامعة بتوافق سوري، والبدء بتنفيذ الخطوات التي حددها القرار للانتقال من المرحلة الانتقالية إلى نظام سياسي جديد، يلبي طموحات الشعب السوري بكل مكوناته، عبر انتخابات حرة ونزيهة، تشرف عليها الأمم المتحدة، استنادا إلى دستور جديد يقره السوريون، وضمن تواقيت محددة وفق الآليات التي اعتمدها القرار».
وأعرب عن «دعم دور المبعوث الأممي إلى سوريا، والطلب من الأمين العام للأمم المتحدة تزويده كل الإمكانات اللازمة وبدء العمل على إنشاء بعثة أممية لمساعدة سوريا لدعم العملية الانتقالية في سوريا ورعايتها ومساعدة الشعب السوري الشقيق في إنجاز عملية سياسية يقودها السوريون وفق القرار 2254».
ولم يفت المجتمعون في العقبة أن ينصّوا على أهمية عقد مؤتمر لحوار وطني شامل يعبّر عن تكاتف الشعب السوري «بكل مكوناته وأطيافه وقواه السياسية».. ويمكن وضع خط تحت الأخيرة، لجذب انتباه من يعملون اليوم على مثل هذا المؤتمر.
هناك أشياء أخرى في بيان العقبة أيضاً، تثبت وراثة القرار 2245، إضافة إلى فقرات أخرى مهمّة وملموسة مثل، وقف فوري لجميع العمليات الحربية، الأمر الذي يمكن أن يشير إلى ما يجري في الشمال والشرق. كذلك النصّ على أهميّة العدالة الانتقالية حسب المعايير المعروفة ومن دون الانتقامية؛ والمساعدات الإنسانية، والاستعداد لدعم إعادة الإعمار وغير ذلك. دعت إلى اجتماع العقبة لجنة الاتّصال العربية التي تابعت خلال العام الماضي المشكلة السورية، مع حضور تنسيق دول «المجموعة المصغّرة الخاصة بسوريا. وغاب من بين «المجموعة الدولية لدعم سوريا»، التي صنعت القرار 2245، وموقّعي بيان العقبة، روسيا والصين وإيران، التي يمكن اعتبار غيابها انعكاساً لغياب النظام عن المشهد.. وزاد الوزن العربي في المقابل.
فيمكن لمن يرفض القرار الأممي أن يأخذ ببيان العقبة – الذي يتضمّنه – بديلاً عنه، إذ لن يستطيع القطع مع حاجة السوريين إلى الآخرين، وهم في حالة الخراب الرهيب!
كاتب سوري