تريد بي بي أن تعود. أهلا بها. ولكن ليس فقط لاستعادة إنتاج النفط والغاز، بل أيضا بما حملته معها للمدينة في عشرينات القرن العشرين.
أهلا بعودة بي بي
يتداول اليوم العراقيون والبريطانيون اللمسات الأخيرة لعودة شركة بي بي النفطية البريطانية العملاقة إلى شركة نفط الشمال -أي نفط كركوك- وهي الشركة التي ورثت من ضمن ما ورثته حصة شركة بي بي المؤممة، أي تلك التي قرر العراق تملّكها يوم أقدم على تأميم شركات النفط الغربية العاملة في العراق عام 1972. كان القرار واحدا من أكثر القرارات السياسية العراقية جرأة، بل يحمّله البعض مسؤولية ما آلت إليه أمور العراق. يعتمد الأمر على ما تريد قراءته. هل التأميم وفّر المال للقيادة العراقية للقيام بما قامت به؟ أم أن التأميم قرار يجب أن تدفع القيادة العراقية ثمنه مع الغرب الذي خسر الكثير من تلك العملية؟ لا نريد أن نفتي، بل أن نطلب. ما نطلبه من شركة بي بي العائدة إلى كركوك أن تعيد علامات ثقافية واجتماعية صاحبت تأسيس وحضور وانسحاب بي بي من ذلك الركن من مدينة كركوك.
كنت لا أزال مراهقا يوم انتقلت عائلتي إلى كركوك، عام 1977. فجأة تنتقل إلى قطعة من بريطانيا، في التسميات والأندية والملاعب والألعاب والأنشطة الثقافية والاجتماعية. من الصعب توصيف مدينة كركوك في ذلك الوقت. كان التأميم قد حدث منذ بضع سنوات، لكن المدينة لا تزال تعيش تحت تأثير التركة البريطانية هناك. الأندية الاجتماعية، برغم طبقيتها أو عرقيتها أو تقديمها لهيكلية دينية، إلا أنها زاخرة بالنشاط والحيوية. خذ مثلا ناديي عرفة وبابا (من مسمى باباكركر وهو واحد من أول مواقع النفط العراقية). عرفة كان نادي العمال. فيه كل شيء وكل أنواع الأنشطة، ولكنها موجهة لطبقة العمال بما لا يحرمهم من الإحساس الثقافي بالتميز والاختلاف. بابا كان نادي المهندسين بالدرجة الأولى، لكنه يستقطب كبار موظفي الشركة (يسمونهم الستاف أو الطاقم) من محاسبين وأطباء ومحامين وغيرهم من الطاقم. الناديان ترفيهيان، بسينمات وملاعب تستقطب ومستشفى بمواصفات عالمية ومستوصف. كانت الأمور معدة للبقاء طويلا هناك لدرجة أنك تتمشى فتجد بالقرب من السينما في حي بابا مكانا لحرق الموتى من المنتسبين الهنود أو الإنجليز.
أسهمت بي بي بالنشاط الاجتماعي في كركوك بشكل مباشر أو بحكم مساهمات المواطن العراقي الأرمني الأصل سركيس كولبنكيان الذي كانت لديه حصة هي عمولته من إتمام صفقة شركة النفط العراقية مع كونسورتيوم من الشركات العملاقة. كان الإسهام غير مباشر أيضا، إذ صار الانفتاح أساس التعامل داخل التركيبات الاجتماعية متعددة الطبقات، مختلفة الأديان والعرقيات، في مدينة كركوك. كنت تذهب إلى النادي الأرثوذوكسي أو الأرمني أو نوادي النقابات المهنية، فتجدها حافلة بالأنشطة والحفلات بحيث من النادر أن يمر يوم من دون مناسبة اجتماعية أو ثقافية أو منتدى. كان الجميع يتسابق بحكم استمرار الزخم كما كان حتى وإن كانت الطواقم البريطانية قد خرجت (“قبل ما يطلع الإنجليز” كما يقول أهل كركوك). الأندية الرياضية كانت لا تتوقف وعلمت أيضا أن الأندية الثقافية كانت “مصنعا” فكريا لأنواع الثقافة والأدب والفنون التشكيلية.
كانت كركوك “جنة” لمراهق مثلي، تجعلك تعيش بكل انفتاح وتنوع، حتى بمقاييس العراق المنفتح في تلك الأيام. لا شك أن الأمر كان أفضل لشاب أو بالغ، وخصوصا للأقليات والنساء.
ثم جاءت الحرب العراقية – الإيرانية عام 1980، وكانت مصافي كركوك أول الأهداف، وخرج من البلاد من تبقى من المهندسين العراقيين ممن اختار البقاء رغم اقترانهم بإنجليزيات وأسكتلنديات. في عام 1987، وهو آخر عام زرت فيه نادي بابا، شاهدت بكل حسرة وألم كيف تحولت قاعات كرة السلة/كرة الطائرة الداخلية والسكواتش إلى مخازن لمقتنيات بيوت المغادرين الذي تركوا كل شيء يوم قرروا “الهروب الكبير” من الحرب. سألت عن نادي الغولف (نادي الغولف الوحيد وكان بـ18 حفرة في كل العراق، والثاني كان أصغر في البرجسية في البصرة)، فكان الرد لم يبق منه شيء بعد أن تحولت تموجاته إلى مرابض لمدفعية مقاومة الطائرات.
تريد بي بي أن تعود. أهلا بها. ولكن ليس فقط بعملية تعكس قرار التأميم لاستعادة إنتاج النفط والغاز، بل أيضا بما حملته معها للمدينة في عشرينات القرن العشرين.