إن الوضع الراهن في سوريا، حيث تسيطر سلطة أمر واقع بلا تفويض شعبي، يدعو للتساؤل العميق عن غياب أي مبادرة حقيقية لتنظيم انتخابات تشريعية كخطوة أولى نحو الديمقراطية. رغم أن الشعب السوري قد ضحى لعقد ونيف في سبيل الحرية والكرامة، إلا أنه عندما أتيحت الفرصة لطرح فكرة الانتخابات كوسيلة للخروج من الأزمة، نجد تجاهلاً واضحاً من الناشطين والسياسيين والإعلاميين. هذا التجاهل لفكرة الانتخابات كطريق وحيد نحو بناء دولة ديمقراطية يثير الاستغراب والاستنكار، خاصة أن كل الدول التي تخطت أزماتها توجهت إلى الانتخابات التي تعتبر نقطة البداية لمسار ديمقراطي.
لقد خرج السوريون في مظاهرات سلمية بأعداد هائلة، نظموا خلالها ثمانية ملايين ناشط ستين ألف مظاهرة في عام واحد، وقدموا خلالها أثمن التضحيات. ومع ذلك، نجد أن الدعوات الحالية تركز على مؤتمرات حوارية وشكلية أو انتظار سنوات لكتابة دستور جديد، بدلاً من اتخاذ خطوات عملية لتنظيم انتخابات تشريعية شفافة تمثل الشعب حقاً. هذا التجاهل غير مقبول، لأن الانتخابات ليست مجرد إجراء تقني، بل هي الطريق الوحيد لإعادة بناء الشرعية وإنهاء الفوضى. عندما تجري الانتخابات الجميع يهدأ ويركن إلى النتائح دون التصرف من جانب واحد.
تنظيم الانتخابات ليس مهمة مستحيلة كما يروج البعض. السوريون، الذين أعادوا الحياة إلى مدن مدمرة ونظموا المجتمع في ظل أصعب الظروف، قادرون على تنظيم انتخابات شفافة وبمشاركة واسعة. سيهب مليون متطوع سوري على الأقل للمشاركة في العملية الانتخابية، متحملين العبء الأكبر، فيما تقتصر مهام السلطة القائمة على الجوانب الإدارية والتنظيمية البسيطة. الانتخابات لا تحتاج سوى صناديق وأوراق وأقلام، ويمكن إجراؤها في المباني الحكومية أو حتى في المخيمات.
مجلس تشريعي منتخب هو الجهة الوحيدة القادرة على التصدي للتحديات الكبرى التي تواجه سوريا، مثل جمع السلاح من الفصائل المختلفة، تنظيم مؤسسات الدولة، إصدار القوانين، تصميم المناهج التعليمية، وكتابة دستور جديد مستند إلى الشرعية الشعبية. أما سلطة الأمر الواقع، التي لا تمتلك أي تفويض شعبي، فهي غير مؤهلة لاتخاذ قرارات مصيرية بشأن مستقبل البلاد، لأن وجودها نفسه قائم على صفقات دولية واستعراضات شكلية لا تعكس إرادة الشعب.
ما يثير الاستغراب أكثر هو غياب الضغط الشعبي والسياسي لتحقيق هذا الاستحقاق الديمقراطي. الدول التي تجاوزت أزماتها الكبرى لم تفعل ذلك إلا بتنظيم انتخابات تعيد بناء شرعية الدولة. أما في سوريا، فنجد أن الناشطين والسياسيين والإعلاميين يتجاهلون هذه الفكرة بشكل غير مفهوم، وكأنها ليست الهدف الذي دفع الشعب أثماناً باهظة لتحقيقه. كيف يمكن تفسير هذا الصمت؟ ولماذا لا تُطرح الانتخابات التشريعية كأولوية قصوى لإنقاذ البلاد؟
الانتخابات ليست مجرد خيار، بل ضرورة وطنية وشعبية ملحة لإنقاذ سوريا من مأزقها الحالي. مجلس تشريعي منتخب يمكن أن يقود البلاد في مرحلة انتقالية تمتد أربع سنوات، يتم خلالها كتابة دستور جديد، إعادة بناء مؤسسات الدولة، وتنظيم علاقات خارجية قائمة على المصالح الوطنية. الشعب السوري، الذي واجه الدكتاتورية بشجاعة، قادر اليوم على فرض إرادته مرة أخرى والمطالبة بتنظيم انتخابات تشريعية، لأن الاستمرار في هذا الوضع يعني التمهيد لدكتاتورية جديدة تحت مسميات مختلفة.
إن غياب أي تحرك نحو الانتخابات هو أمر غريب ومستهجن، ولا يليق بشعب قدم كل هذه التضحيات من أجل الحرية. الوقت حان لتحويل المطالب الشعبية إلى خطوات عملية، والانتخابات هي البداية الطبيعية لأي مسار ديمقراطي حقيقي. أي تأخير أو تجاهل لهذه الخطوة لن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمة وإطالة معاناة الشعب السوري.