EPA

منذ بداية الجولة الأخيرة من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، نزح بعض الغزيين من سكان المناطق الحدودية الشرقية والشمالية مع إسرائيل إلى وسط المدن شمالي القطاع، كان في اعتقادهم أن مناطقهم ومنازلهم ستكون عُرضة للقصف، وذلك بحسب تجاربهم السابقة خلال الحروب والاجتياحات البرية الإسرائيلية للقطاع. لكنهم كانوا مُخطئين بعض الشيء إذ غيّر الجيش الإسرائيلي من خططه وأساليب اجتياحه البري عما هو مألوف ومعتاد.

كان النزوح الأول للغزيين بسبب الخوف والاستهدافات لمنازلهم بالطائرات وقذائف الدبابات، ولم يكونوا يعلمون أن عملية تهجير جديدة تنتظرهم من مناطق وأحياء ومدن النصف الشمالي للقطاع. في اليوم السادس للحرب، غادرت بعض المؤسسات الدولية والعاملون فيها غزة وشمال القطاع باتجاه الجنوب، وبالتحديد إلى مدينة خانيونس، ليتبعهم بعض السكان.

وفي صباح اليوم السابع للحرب، بدأ الجيش الإسرائيلي يطلب من سكان شمال وادي غزة الذي يفصل القطاع من الشرق إلى الغرب إلى نصفين، النزوح إلى جنوب الوادي تمهيدا لعملية اجتياح بري واسعة قيل إن الهدف منها القضاء على حركة “حماس” وجناحها العسكري.

 

غادر العشرات خوفا على أطفالهم من هول ما ينتظرهم، عبر طريقين رئيسين يصلان الجنوب بالشمال، شارع صلاح الدين في الجهة الشرقية، وشارع الرشيد– البحر- في الجهة الغربية. ثم تبعهم المئات، خصوصا بعد استهداف عشرات المربعات السكنية بأحزمة نارية مكثفة، أدت إلى تدميرها فوق رؤوس من بقي فيها. لكن عددا من الغزيين رفضوا النزوح مُعتقدين أنهم بأمان، حتى جاءت لحظة الدخول البري وفصل القطاع إلى نصفين بالدبابات والآليات العسكرية المحملة بالجنود المجهزين بأكثر الأسلحة تطورا في العالم.

نزوح إجباري

إسلام عبد المعطي (42 عاما) من مدينة غزة، كان يعمل محاسبا في إحدى الشركات التجارية، ومع تعرض منطقة سكنه وسط مدينة غزة لحزام ناري قبل الاجتياح الإسرائيلي البري، قرر هو وعائلته النزوح إلى مدينة دير البلح وسط القطاع، حيث مكثوا في منزل أصدقاء للعائلة لمدة يومين. لكن وبسبب تعرض منزل مجاور للمنزل الذي نزحوا إليه للقصف المباشر، قرروا العودة إلى منزلهم في مدينة غزة. يقول عبد المعطي: “كان القرار أنه لما بدنا نموت خلينا نموت في بيتنا، ليش ننزح ونموت في بيوت الناس”.

 

خلال نزوحهم الأول وعودتهم، كان الطريق بين الشمال والجنوب مفتوحا وكان يمكنهم التنقل عبرها بالسيارة، لكن ذلك لم يستمر طويلا. عادوا إلى منزلهم في غزة على وقع القصف الإسرائيلي الذي أصبح مع الوقت أكثر كثافة، قصف بالطائرات وقذائف الدبابات من الشرق وبقذائف البوارج البحرية من الغرب، ما أدى إلى مقتل عشرات المواطنين، أطفال ونساء وشيوخ، في منازلهم من دون تحذير مسبق من الجيش الإسرائيلي.
حاول عبد المعطي وأسرته الصمود في منزلهم، لكن بسبب كثافة القصف طوال الليل والنهار، وحالة الخوف حد الرعب التي سيطرت على أطفاله، إضافة إلى ازدياد تحذيرات الجيش الإسرائيلي لمن بقي من السكان للنزوح، اضطروا إلى الخروج في اليوم الرابع والثلاثين للحرب. يقول: “كنا مجبرين على السير مشيا إلى شارع صلاح الدين. مشينا بين الدبابات وجنود الاحتلال لمسافة تزيد على الثلاثة كيلومترات”.

كانت عملية النزوح الثانية للعائلة عبارة عن تهجير، ليس تهجيرا خاصا بالعائلة، وإنما لعشرات العائلات التي فرت من هول القصف الإسرائيلي وقتل بعض أقاربها وعائلاتهم من دون أن تتمكن من دفنهم، أو إسعاف المصابين؛ “لم تكن الإسعافات تصل إلى المصابين، وكانت المستشفيات تتعرض للقصف وبعضها كان الجيش الإسرائيلي قد اقترب منها وحاصرها”، بحسب عبد المعطي.

لن يعاودوا تجربة التهجير

يرفض عبد المعطي فكرة التهجير إلى خارج قطاع غزة، في الوقت الذي يتم الحديث فيه عن نية إسرائيل والولايات المتحدة ودول أخرى، العمل على تهجير كافة سكان قطاع غزة والبالغ تعدادهم أكثر من مليوني نسمة، إلى جنوب الحدود الجنوبية للقطاع، وتحديدا إلى سيناء المصرية. يقول: “صحيح أننا هربنا خوفا من القصف والدمار والقتل، لكن لن نغادر إلى خارج غزة، وأفضّل الموت أنا وأسرتي هنا على التهجير واللجوء إلى أي مكان في العالم”.

 

ليس عبد المعطي وحده من يرفض فكرة التهجير، فكثير ممّن تحدثنا إليهم من النازحين إلى جنوب القطاع، يرفضون فكرة التهجير بعد أكثر من 70 سنة على تهجير أجدادهم وآبائهم عام 1948، وعدم قدرتهم على العودة إلى مُدنهم وبلداتهم الفلسطينية حتى اليوم.
ويشير ميخائيل مبارك (38 عاما)، نازح من شرق مدينة غزة إلى الجنوب، إلى متابعته الدقيقة للأخبار المُتداولة عن تخطيط إسرائيل ودول أخرى لتهجير سكان قطاع غزة. ويقول: “أسمع وأقرأ كثيرا من الأخبار والتحليلات التي تتحدث عن تهجيرنا إلى سيناء، في الوقت الذي لم ننس فيه تهجير أجدادنا وآبائنا. لم أنس ما رواه جدي لنا عن تلك الأيام والتجربة وما تبعها”.

 

ويشير إلى أن تجارب اللاجئين الفلسطينيين الأوائل إلى دول الجوار العربي أو حتى إلى الدول الغربية، تفيد بأن أحفادهم لا يزالون حتى اليوم يعانون من التمييز في التعليم والعمل والصحة، وحتى في حرية التنقل، ولذلك هو يرفض خوض تلك التجربة ولا يجد مبررا لها، ويقول: “ليش بدي أكمل تجربة التهجير؟ خايفين نموت؟ كلنا في النهاية حنموت، اليوم أو بكرا أو بعد 20 سنة، المهم أموت بأرضي وكرامتي”.

القرار ليس لهم

بيد أن بعض النازحين الغزيين لديهم آراء مغايرة حول إمكان تهجيرهم، إذ يعتقدون أنهم لا يمتلكون حرية اتخاذ القرار، وأنهم سيجبرون على النزوح إلى سيناء تحت وقع القصف الإسرائيلي الذي سيدفعهم إلى الحدود الجنوبية للقطاع وما بعدها.
أحمد حسني واحد من الذي أُجبروا على النزوح من مخيم جباليا للاجئين شمال القطاع بعد قرابة 40 يوما من الحرب الإسرائيلية، بعدما عجز عن توفير الطعام والمياه لأسرته بسبب القصف وتوغل الدبابات والجيش الإسرائيلي إلى عمق المنطقة الشمالية للقطاع.

 

يعتقد أن إسرائيل لا تستطيع تهجير الغزيين بسهولة، ويقول: “لن تقول إسرائيل للفلسطينيين في غزة: هيا اذهبوا إلى سيناء؛ ونحن سنكون مخيرين بين الرحيل أو البقاء”. ويضيف: “تهجر أجدادنا بسبب المجازر الإسرائيلية، ونحن نزحنا قبل أيام أيضا بسبب المجازر الإسرائيلية، وربما ستستمر المجازر بحقنا وسنكون مجبرين على الهجرة خارج أرض فلسطين، وربما إلى سيناء”.
ويتفق غزيون آخرون مع حسني على أن إسرائيل تجبر الفلسطينيين في قطاع غزة على النزوح والهجرة مع استمرارها في ارتكاب المجازر وقتلها ما يزيد على 14 ألف فلسطيني أكثر من نصفهم من النساء والأطفال، إضافة إلى فقدان نحو 6500 شخص، عدا عن المصابين والجرحى، وهي لا تمنحهم حق اتخاذ القرار إلى أين يتجهون أو يُقيمون.

 

محمود ناصر (39 عاما)، واحد من النازحين الذين يؤمنون بعدم قدرتهم على اتخاذ القرار في الهجرة أو عدمها خصوصا أنه أب لأربعة أطفال، وهو مُجبر على حمايتهم من خطر الموت أو التعرض لأخطار القصف الإسرائيلي. يقول: “لا أريد الهجرة، لكن ربما يجبرنا الاحتلال على ذلك. لن تكون لدينا رفاهية اتخاذ القرار، وعلى الأغلب سأحمل كفني وكفن أبنائي ونجلس على الحدود مع مصر، فإما يسمحون لنا بالدخول أو نُجبر على الموت هناك”.