يقول قسم كبير من المراقبين إن الرئيس الحالي دونالد ترامب لا يفكر على مستوى الاستراتيجيّة. المؤلف ميكا زنكو والباحثة في كلية الحرب البحرية ريبيكا ليسنر ذهبا أبعد من ذلك سنة 2017. بحسب رأيهما، لا يفتقر ترامب إلى الاستراتيجية وحسب بل هو “مضاد للاستراتيجية”.
لا يُعرف عن الرئيس الأميركي بأنه يمتلك منهجية في التفكير على مستوى رؤية العالم والعلاقات الدولية. جل ما يريده، تقريباً، ألا يستغل الحلفاء الولايات المتحدة لركوب “رحلة مجانية”، وأن يتركها الأعداء وشأنها. في حين أن كل رؤساء الدول يتفقون على هذه المسلمات ويريدون حماية بلادهم عبرها، يبقى أن الولايات المتحدة ليست دولة عادية. نادراً ما ارتبط مصير العالم بمصير دولة واحدة كما هي الحال مع أميركا. ألا يضبط الحلفاء والخصوم ساعاتهم على توقيت الانتخابات الرئاسية؟ بل ألم يفقد الريال الإيراني قيمته، ليس فقط عندما فاز ترامب بالرئاسة، بل حتى عندما فاز بالانتخابات التمهيدية لحزبه يوم الثلاثاء الكبير في آذار (مارس) 2024؟
بذلك، عندما تفتقر الولايات المتحدة إلى البوصلة الخارجية يبدو العالم كله ضائعاً. في الواقع، ينقص البلاد أكثر من مجرد بوصلة كما يقول البعض. في موقع “وور أون ذا روكس”، سلّط الأستاذ المشارك في العلاقات الدولية بالجامعة الأميركية جوشوا روفنر الضوء على كتابه الجديد: “الاستراتيجية والاستراتيجية الكبرى”. ومنه، انطلق ليوصّف رؤى ترامب الخارجية.
الفرق بين المفهومين
المفهوم الأول، الاستراتيجيّة، هو نظرية انتصار تقوم على استخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية بحيث تستند إلى تقييم الأهداف العسكرية والغاية من ضربها وإقناع الأعداء بإلقاء السلاح. المفهوم الثاني، الاستراتيجية الكبرى، هو نظرية أمنيّة تقوم على جعل الدول نفسها آمنة في عالم غير آمن. بذلك، هي تستند إلى تصوّر موسع للعلاقات الدولية. بحسب روفنر، يجب جعل الاستراتيجيتين متكاملتين. إنما ليس الأمر بالسهولة المتصورة: نجح الفرنسيون في إسناد الأميركيين خلال حربهم ضد البريطانيين لكن الأمر كلفهم خسائر مالية باهظة. بالمقابل، خسر البريطانيون معركتهم، لكنهم استغلوا انسحابهم من إدارة أراض مكلفة فحولوا أموالهم إلى بناء أسطول إمبريالي ضخم.
لا يحتاج المرء إلى التجول كثيراً بين أحداث الماضي البعيد لمعرفة صعوبة تكامل الاستراتيجيتين. في سوريا على سبيل المثال، نجحت روسيا في تحقيق الانتصار العسكري على الأرض بين 2015 و2018، لكنها فشلت في تحويله إلى انتصار سياسي. بعد انهيار نظام الأسد الشهر الماضي، خسرت روسيا حليفاً وموطئ قدم في منطقة حساسة وأصولاً عسكرية أمكن أن تستخدمها في أوكرانيا. ولئن كان كسب الحرب، في معظم الأحيان، أصعب من كسب السلام، فإن خسارة الأخير قد تعني أيضاً خسارة الحرب بمفعول رجعي.
أين يترك ذلك أميركا الترامبية؟
لا أحد يعرف ما هي استراتيجية ترامب، بما أنه ينفر من الحروب، كما يلاحظ روفنر. وهذه إحدى مشاكل التعامل التقايضي مع الرئيس الحالي، وهي مشاكل تطال أيضاً الاستراتيجية الكبرى. فالنهج التقايضي في زمن السلم يترك تداعيات خطيرة على زمن الحرب، إذ إن الغموض في الاستراتيجية الكبرى يتسبب أيضاً في إحباط استراتيجي. مع ذلك، إذا نجح ترامب في إبقاء بلاده خارج الحرب، فقد لا يكون لغياب العلاقة بين الاستراتيجيتين تأثير عملي كبير، كما يضيف روفنر.
لكن إبقاء أميركا خارج الحروب ليس هدفاً بحد ذاته. يمكن تخيل التداعيات العالمية لو قرر وودرو ويلسون وفرانكلين روزفلت عدم إقحام بلادهم في الحربين العالميتين الأولى والثانية، فقط لأن الهدف الأساسي هو إبقاء أميركا بعيدة من الصراعات. إحدى النقاط الإشكالية في كلام ترامب عن الحروب في مناطق “بعيدة” – هو الذي قال ذات يوم إن جزيرة تايوان تبعد 9500 ميل عن أميركا و68 ميلاً عن الصين – أنها لا تأخذ بالاعتبار “تأثير الفراشة”. إن هذا التأثير الذي نُقل عن علوم الفيزياء والأحوال الجوية ليطبق على الجغرافيا السياسية يشير إلى أن ما يحصل في بقعة محورية من العالم يؤثر على معظم الكوكب، بأشكال مختلفة، ووفقاً للظروف. ويضخّم تشابك العالم هذه الظاهرة.
إن كان لمعيار البعد الجغرافي للأحداث أن يحدد، خلال مداولات البيت الأبيض، كيفية وتوقيت نشر الجيش الأميركي، فإن غالبية الأحداث في العالم ستكون بعيدة نسبياً عن الولايات المتحدة، بما أن أكبر محيطين يفصلانها عن القارات الأخرى (مع استثناء بحر بيرينغ الفاصل بين ألاسكا وشرق روسيا). لهذا، لا أحد يعرف بالتأكيد ما إذا كان ترامب سيدفع بجنوده إلى ساحات الصراع الأجنبية، بمن فيهم مستشاروه. هكذا قرارات قد لا تُحسم إلا في الثواني الأخيرة، وتحديداً بسبب غياب الاستراتيجية الكبرى. مع ذلك ينبغي عدم الركون إلى قناعة مطلقة في هذا الصدد.
“اسألوا أنفسكم هذا السؤال”
يعتقد الاستراتيجي البارز في عالم الأعمال توماس بارنيت أنّ الرئيس الأميركي يدرك الاتجاهات الأساسية الثلاث حول العالم، وهي فك الارتباط بين الشرق والغرب وإعادة الأقلمة على طول الحدود بين الشمال والجنوب والصدام الكبير بين القوى العظمى حول التغير المناخي واستخدام الذكاء الاصطناعي بالكفاءة المثلى.
وتابع في تعليق على التصريحات التوسعية الغريبة لترامب: “اِسألوا أنفسكم. هل تريدون مستقبلاً تنشقّ فيه كندا وتنضم إلى الاتحاد الأوروبي، وتسيطر فيه روسيا على القطب الشمالي، وتدير فيه الصين أميركا اللاتينية؟ … هنا تخترق طموحات ترامب الغريبة ضبابيتنا الاستراتيجية الحالية: تبنّي ما لا يمكن تصوره اليوم لمنع ما لا مفر منه في الغد”.
“هذه الاستراتيجية الكبرى الحقيقية”.
السؤال هنا، على افتراض أن بارنيت محق في وجود سند لمزاعم ترامب الإقليمية، هل فعلاً صاغ الرئيس الأميركي استراتيجية كبرى؟ أم أن ما يجري مجرد محاولة من أكاديمي للخروج بخلاصة متماسكة، بناء على رغبات عشوائية لدى ترامب بمضايقة وربما ابتزاز الحلفاء؟
السؤال مهم وقد يكون جوابه خليطاً من احتمالين. لكنه قد يشيح النظر عما هو أهم: قسوة وفوضوية العصر المقبل.