بعد التوصّل إلى اتفاق هدنة إنسانية في قطاع غزة، مدّته أربعة أيام قابلة للتمديد، ويرافقه تبادل للأسرى من النساء والأطفال، لفتَ، في خضمّ هذه العملية، أن الأطراف التي اضطلعت بدور المفاوض فيها، هي الولايات المتحدة وقطر ومصر، إضافةً إلى الطرفَين المباشرَين المتمثّلَين في حركة «حماس» ودولة الاحتلال، فيما الغائب الأبرز عن المشهد، كان تركيا التي أبدى رئيسها، رجب طيب إردوغان، منذ اليوم الأول لـ«طوفان الأقصى»، استعداده للقيام بأدوار مختلفة من أجل وقف إطلاق النار، والتوصّل إلى اتفاق يشمل الدعوة إلى مؤتمر دولي لحلّ الأزمة.ولعلّ الإشارة الأولى المبكرة التي بعث بها إردوغان، تمثّلت في اقتراحه أن تكون تركيا من بين البلدان «الضامنة» لوقف إطلاق النار لدى إعلانه؛ إذ رأى الرئيس التركي أنه يمكن استنساخ صيغة «الضمانة» في غزة، على نحو ما كانت عليه في قبرص، حيث اضطلعت كلّ من أنقرة وأثينا ولندن، بدور الأطراف الضامنة للتوصّل إلى إعلان الجمهورية القبرصية في عام 1960، على أن يَمنح أيّ إخلال بالاتفاق، الدولة الضامنة المتضرّرة، الحقّ في التدخّل، وهو ما فعلته تركيا في عام 1974، حين تدخّلت في قبرص لمنع ضمّها إلى اليونان بعد انقلاب عسكري ضدّ حاكمها، المطران مكاريوس. لكن غزة ليست بحال من الأحوال نموذجاً شبيهاً بقبرص، فيما القوات الضامنة، إذا اتُّفق على استحداثها، فلن يحقّ لها التدخّل، إذ ستكون غالباً قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة. أمّا الإشارة الثانية، فهي أن تركيا لم تقدِم على أيّ خطوة عملية ضدّ إسرائيل احتجاجاً على عدوانها البالغ الوحشية على قطاع غزة، وذلك حتى تحافظ على حظوظها في لعب دور وسيط في الصراع، وخصوصاً في ملفّ تبادل الأسرى والمعتقلين. غير أن عملية التبادل التي بدأت يوم أمس، لم تلحظ لا من قريب ولا من بعيد، لا على لسان دولة الاحتلال ولا على لسان مسؤولي «حماس»، أيّ ذكر لتركيا، وهو ما يُعدّ بمثابة انتكاسة لدور هذه الأخيرة.
وعلى امتداد الحرب في غزة، ركّزت تركيا على اتّجاه واحد، هو «الديبلوماسية المكثّفة» التي لم تسفر عن أيّ نتيجة لمصلحتها، على رغم جولات إردوغان الخارجية، من مثل زيارته إلى ألمانيا وأخيراً زيارته المفاجئة إلى الجزائر، والتي أريد عبرها تعويض تغييب أنقرة عن العملية التفاوضية. ومن بين عبارات إردوغان التي أصبحت مثار سخرية وسائل التواصل الاجتماعي، في هذا المجال، قوله للمستشار الألماني، أولاف شولتس: «أَقنع إسرائيل بوقف النار، وأنا أُقنع حماس بذلك»، كما لو أن قرار الحركة، على الأقلّ العسكري، «في جيبه». كما ركّز الرئيس التركي على دور بلاده في قمّة الرياض العربية – الإسلامية، عبر تكرار القول إن «تركيا فرضت إرادتها على القمّة»، علماً أن هذه الأخيرة لم تقدم على إصدار أيّ قرار عملياتي ضدّ إسرائيل، وذلك بدافع الرفض لهكذا خطوات لدى أربع دول عربية، هي: السعودية، الإمارات، البحرين والمغرب. أيضاً، عندما تشكّل وفد القمّة للتجوّل على عواصم الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، لم تكن تركيا من ضمن الوفد المؤلّف من وزراء خارجية فلسطين، السعودية، مصر، الأردن وإندونيسيا، في زيارتَيه إلى كلّ من الصين وروسيا، فيما كان وزير الخارجية التركي، حاقان فيدان، يشارك في إحدى لجان البرلمان في أنقرة، ومن ثمّ يرافق إردوغان في الجزائر.
وإذ لا يزال غير معروف ما إذا كان فيدان سيرافق الوفد المذكور في زياراته المقبلة إلى باريس ولندن وواشنطن، يعزو مراقبون تغييب تركيا عن المشهد، في جانب منه، إلى السخط الإسرائيلي على إردوغان الذي كان قال، في أواخر تشرين الأول الماضي، إن رئيس حكومة إسرائيل، بنيامين نتنياهو، «لم يَعُد هو المخاطب» بالنسبة إليه، وإنه بحكم غير الموجود، وإن رئيس الاستخبارات ووزيرَي الخارجية والصحة وغيرهم سيواصلون هم الحوار واللقاء مع المسؤولين الإسرائيليين. وأمّا أميركياً، فإنّ زيارة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى تركيا جاءت من باب «رفع العتب»، بعدما انتقد إردوغان دور الولايات المتحدة الداعم بصورة عمياء لإسرائيل. وإزاء ما تقدَّم، يمكن القول إن تركيا خرجت، إلى الآن، خالية الوفاض من أحداث غزة؛ إذ إن وقوفها على الحياد في الأسابيع الأولى للحرب، ومن ثمّ خروجها لاحقاً بمواقف كلامية داعمة لأهالي القطاع، جعلا الموقف الفلسطيني من إردوغان حذراً للغاية ومنزعجاً جدّاً، في الوقت نفسه الذي بات فيه الموقف الإسرائيلي من الرئيس التركي أكثر تشدّداً، على رغم أن الأخير لم يتّخذ أيّ خطوة عملية ذات فاعلية ضدّ دولة الاحتلال