كلّما ظهرت في الأفق اللبنانيّ مشكلةٌ طارئةٌ، أو مفعولٌ من مفاعيل مشكلةٍ قائمةٍ، أو انكشف التخبّطُ في مواجهة وجهٍ من وجوه الأزمة العامّةِ المقيمة، تجاوبت هنا وهناك أصداءُ السُؤال المشهور: أين هي الدولة؟ (بعامّيّتنا: «وَيْنِيّي الدَوْلي؟). وهو ما يرمي منه السائلُ، في الأعمّ الأغلب، إلى إرساء المسؤوليّةِ عن أمْرٍ ما على عاتقٍ جهةٍ يُجادَلُ في الصفة التي تخوّلها حَمْلَ المسؤوليّة تلك، وإلى إثباتِ العجزِ المنسوبِ إلى جهةٍ أخرى، هي الدولة، عن الاضطلاعِ بمهمّةٍ يُفْتَرَضُ وقوعُها على عاتِقِها، ذاكَ أنّ الهزءَ بِـ»الدولة» والرغبةَ في النَيْلِ من طرفٍ (أو أطرافٍ) تُنْسَبُ إليه (أو إليهم) هذه الأخيرةُ (وكأنّها دولةُ آبائهم وحدَهم) أو يُنْسَبُ إليهم الحرصُ على أدائها الأدوارَ المنوطةَ بها عُرْفاً وقانوناً، لا يخلو منهما (أي من ذَيْنِكَ الهُزْءِ والرغبةِ) طرْحٌ لهذا السؤالِ اللبنانيِّ، المتَرامي الشعبيّة: «أيْنَ هي الدولة»؟
وفي عُرْفِ الطوائف التي يتألّف منها المجتمعُ اللبنانيُّ، يسودُ زَعْمٌ مؤدّاهُ أنّ الأجهزةَ الطائفيّةَ أوفَرُ كفاءةً من أجهزةِ الدولة في أداء مهمّاتٍ متنوّعةٍ وأَوْلى من هذه الأخيرة بتلبية ما يحتاج إليه الجمهور في مضمارِ التعليم، أو الصحّة وسائر ما يجري هذا المجرى من شؤون. وإذا كان لا يستغنى عن أنصبةٍ من ذلك كلّه تبقى في عهدةِ الدولةِ، فإنّ السعيَ يبقى دائباً لوضع الأيدي الطائفيّةِ على هذه الأنصبةِ أيضاً، بحيث تقبضُ كلٌّ من هذه الأيدي على ناصية ما تَعِدُّه حقّاً لها في كلّ مجال، وهذا بأشدِّ ما يُستطاعُ من إحكامِ القبضات. هذا ولا تُرى هذه المصادرةُ الأخيرةُ ولا ذاك الزعم المشارُ إليه مانعَيْن من السؤالِ، كلّما ظهر نقصٌ أو تقصيرٌ: «أين هي الدولة؟»!
ولعلّ الحالةَ الأظهرَ من حالات الاستهزاء بالدولة وتشريع الحلول محلّها، في شأنٍ هو الأخصُّ من بين ما تختصّ به الدولةُ من شؤون، إنّما نقعُ عليها في تصدّي جناحٍ من الشيعة اللبنانيّين لمهمّة الدفاعِ، بمَعْناهُ العسكريّ، لا عن هذه الطائفة وحدها، بل عن البلاد بأسرها. وهو ما يستقي إمكانَه لا من الموارد الذاتيّة للطائفة (ناهيكَ بأن تفي بما يتيحُ هذا الإمكان مواردُ جناحٍ من طائفة) بل من نوعٍ من «معاهدة دفاعٍ مشتَركٍ» مُبْرمةٍ بين التنظيم الشيعيّ المقاتل ودولة أخرى هي جمهوريّةُ إيران الإسلاميّة. يزيدُ هذا الاستبعادَ (للتعويلِ على المَواردِ الذاتيّةِ) استبعاداً أنّ مفاعيلَ المعاهدة المذكورة لا تنحصرُ في الميدان العسكريّ، بل تنتشر على خريطة الحاجات الاجتماعيّة – الطائفيّة كلّها، دينيّةً كانت الحاجات أم تعليميّةً أم إعلاميّةً أم صحّيّةً ورعائيّةً، إلخ. وهو ما سوّغَ إطلاقَ اسم «المجتمع» تارةً واسمِ «الدولةِ» طَوْراً على هذه «البيئة» المذهبيّة، التي يبسط عليها الحزب المقاتل سلطانه.
«أيْنَ هي الحكومة» يا صاحِ؟ هذا هو السؤالُ في صيغتِهِ الخاليةِ من الغشِّ، هنا والآن، والصادرةِ عن هَمٍّ يتعدّى مجرّدَ الرغبةِ في النَيْلِ من خصمٍ أو في الانتصارِ لجهة
تلك «معاهدةٌ» لا تكافؤ فيها، بطبيعة الحالِ! ويزيدُها خللاً على خللٍ ما تندرجُ فيه من صلة الولاءِ الاعتقاديّ، في صيغتِه الموسومةِ بـ«ولايةِ الفقيه» وهذه توجِبُ على أحد المتعاهدَينِ (وهو الأضعفُ حُكْماً) لزومَ جانب الطاعة، في نهاية المطافِ، للمتعاهد الآخر: وهذا مهما يكن مقدارُ ما يتركه الأقوى للأضعفِ من هامشٍ لتقدير المصلحةِ والتصرُّفِ وفقاً لما يخلُص إليه من رأي، فإذا اعتَرَض مُعْتَرِضٌ طارِحاً السؤالَ عن جواز تركِ «الدولة» اللبنانيّة جانباً، من جانب جماعةٍ من الجماعاتِ المكوّنة لمجتَمعها، للانضواءِ في علاقةِ ولاءٍ لدولةٍ أخرى أبرزُ وجوهها الوجهُ السياسيّ -العسكريّ، بما له من بُعْدٍ اعتقاديٍّ يزيده طاقةً وشدّةَ أَسْرٍ، فما عساه يكون الجواب؟ يستلهمُ الجوابُ ما قد يصِحُّ اعتِباره معيناً مشتركاً ما بين سائرِ «البيئاتِ» اللبنانيّة ليأتي، باللفظِ أو بالمعنى، في صيغة سؤال: «أين هي الدولة؟»!
والحالُ أنّ هذا السؤال ينطوي على غشٍّ عملاقٍ: فإنّ مَن تصِحُّ دعوتُهُ إلى التصرّف، في شأنٍ من الشؤون العامّة (أكان شأنَ الدفاعِ عن البلادِ أم سواه) ليس «الدولة» على إطلاقِ مدلولِها: لا في لبنان ولا في جُزُرِ الواق الواق! وإنّما تتصرّفُ ويصِحُّ أن تُدْعى إلى التصرُّفِ حكومةٌ من الحُكوماتِ وأذرُعٌ مختلفةٌ لها تأتَمِرُ بأمْرِها. والحُكومةُ هي ما يُرادُ لهُ أن يُحْسِنَ التصرّف وهي ما يُلامُ أو يُهْزَأُ به إذا قصّر أو أساءَ أو أظهر عجزاً.
من بينِ أذرُعِ الحكومةِ (أو أجهزةِ الدولةِ) وقع اختِيارُ الحزب المقاتل على «الجيش» فأدرجه في ثالوثه المأثور «الجيش والشعب والمقاومة». وهو ثالوثٌ أجازَ الاقتصارَ من «الدولة» على واحدةٍ من «آلاتِ» سيادتِها وأجاز ترك «الحكومة» جانباً وكأنّ الجيش غيرُ مقيّدٍ بأوامرها ونواهيها. أخيراً جعَلَ هذا الثالوثُ من «الشعبِ» قوّةَ فَصْلٍ ـ إذا جازت العبارةُ ـ ما بين الجيش والمقاومة. وهذا فيما تبقى هذه «المقاومةُ» أسيرةَ بيئةٍ طائفيّةٍ بعينِها، واقعاً وتوَجُّهاً، فتجتزئُ من هذا «الشعبِ» شطراً من إحدى طوائفه. فإذا صحَّ ما أسلفْناهُ من أنّ من يُسْألُ في الشؤون العامّةِ إنّما هي «الحكومةُ» لا «الدولةُ» فأين هي الحكومةُ اللبنانيّةُ اليوم (بل أيْنَ كانت في سنةٍ مضت أو سنتين انقضتا) لتُسألَ، مثلاً، عن الحربِ التي وَقَعت بغيرِ اختيارٍ منها وعَن الاتّفاقِ البائسِ الذي انتهت الحربُ إلى فرضهِ على البِلادِ وعن الكيفيّاتِ المتاحةِ لتداركِ ما جرّتهُ الحربُ من احتِلالٍ ومن موتٍ ودمار؟
«أيْنَ هي الحكومة» يا صاحِ؟ هذا هو السؤالُ في صيغتِهِ الخاليةِ من الغشِّ، هنا والآن، والصادرةِ عن هَمٍّ يتعدّى مجرّدَ الرغبةِ في النَيْلِ من خصمٍ أو في الانتصارِ لجهة، ولا يُضْمِرُ السؤالُ، بطبيعةِ الحال، أنّ الحكومةَ، حيثُ توجَدُ، تأتي بالترياقِ من العراق. ولكن يُعْلِنُ السؤالُ (ولا يُضْمِرُ) أنّ الحكومةَ لا بُد أن توجَدَ ليُفْتَحَ بابُ الركونِ إلى جُهودِها في موضوعٍ ما أو الطعنِ في أهْلِيَّتِها لِأداءِ ما هو مَنوطٌ بها من مَهامّ. هذا مع العِلْمِ أيضاً بأنّ هذه الأهليّةَ ستبقى رهناً، في كلِّ حالٍ، بما تتوفَّرُ عليه الحكومةُ من مواردَ مختلفةٍ، وبينَها ما تحوزُه من تأييدٍ سياسيٍّ في البلادِ وفي المحيطِ، قريبهِ والبعيد.
هذا السؤال ـ هنا والآنَ ـ لا يُوجّهُ إلى الحكومةِ نَفْسِها (وهو الأمرُ المفتَرَضُ أصلاً) إذ لا حُكومةَ في الساحةِ، اليومَ، ليُوَجّهَ إليها. ولا كان هناكَ من حكومةٍ مستوفيةٍ شُروطَ الحُكْمِ قَبْلَ شهرَيْنِ ولا قَبْلَ سنتين. وإنّما يوجّهُ السؤالُ إلى كلّ من لهُ ضلعٌ في تكوين حكومةٍ، وكلّ من لهُ ضلعٌ في مَنْعِ تكوينِها أيضاً، أي أنّ السؤالَ، في صيغته هذه، إنّما يوجّهُ إلى طارحيهِ أيضاً! يصِحُّ هذا ـ على التخصيصِ ـ إذا كان المُرادُ بِطرحِ السؤالِ وضْعُ المشكلةِ المطروحةِ على كاهلِ جهةٍ مُتَخَيَّلةٍ ورفعُها عن كاهل جهةٍ ضالعةٍ في إنشائها أصلاً.
كاتب لبناني