هذا الميل المبكر لإظهار الحياد عن سياسة المحاور، ما زال عرضة لتجاذبات وضغوط داخلية وخارجية من غير المستبعد أن تفرض عليه الجنوح إلى هذا الطرف أو ذاك وفقاً للمصالح الآنية للسياسة السورية، بخاصة في ظل افتقار البلاد إلى مقومات التعافي بعد 14 عاماً من الحرب.
سوريا أحمد الشرع إلى المملكة العربية السعودية، الأحد، في أوّل زيارة رئاسية له للخارج، وذلك بعد يومين من استقباله أمير دولة قطر تميم بن حمد آل ثاني في دمشق وهي الزيارة الأولى لزعيم عربي بعد تكليف الشرع رئاسة الجمهورية من فصائل “مؤتمر النصر”.
لم يغب طيف تركيا عن هذه الأجواء، إذ تم الإعلان عن زيارة سيقوم بها الشرع اليوم الثلاثاء إلى أنقرة للقاء الرئيس رجب طيب أردوغان.
وتحاول خريطة تحركات الشرع في أيامه الأولى في الحكم -على ما يبدو- خلق نقطة توازن تقف عليها دمشق كي لا تحسب على طرف دون آخر. غير أنّ هذا الميل المبكر لإظهار الحياد عن سياسة المحاور، لا يزال عرضة لتجاذبات وضغوط داخلية وخارجية من غير المستبعد أن تفرض عليه الجنوح إلى هذا الطرف أو ذاك وفقاً للمصالح الآنية للسياسة السورية، بخاصة في ظل افتقار البلاد إلى مقومات التعافي بعد 14 عاماً من الحرب.
وفي ظلّ وجود تحديات جسيمة لا تزال تعاني منها البلاد، لا سيما بعض الملفات ذات الامتداد الخارجي، مثل ملف “قوات سوريا الديموقراطية” والمناطق التي تسيطر عليها، وكذلك ملف التوغل الإسرائيلي في القنيطرة، إلى جانب ملف السلم الأهلي الهشّ والقابل للانفجار في أي وقت، والانهيار الاقتصادي الذي فاقمه تجميد عمل معظم مؤسسات الدولة السورية، فإن من غير المتوقع أن يكون ثمة خيار لحاكم سوريا الموقت برسم بعض السياسات، بل الأرجح أن دوره سوف يقتصر في العديد منها على إدارة تداعيات هذه الملفات بما يقنع الدول المعنية بكل ملف أن مصالحها مرعية.
وقد يكون العامل الذي يطغى على تحديد صورة التحرك وتوصيفه هو العامل الداخلي وليس الخارجي، إذ إن معظم الدوافع التي تحرك الإدارة الجديدة إنما تنطلق من واقع الاحتياجات التي لا بد للإدارة من تأمينها كي تستطيع الاستمرار في الحكم، لذلك يبدو أن إحياء “الخيار السعودي” الذي طالما وجّه بوصلة دمشق نحو الرياض تاريخياً، أصبح بحكم الضرورة في هذا التوقيت، وذلك لسبين: حاجة دمشق إلى إنعاش اقتصادي ملحّ لدفع الرواتب وتأمين الحد الأدنى من الخدمات. والثاني تأمين غطاء عربي لعملية الانتقال السياسي المفتوحة على أجل غير محدد وسط إحساس الإدارة الجديدة بمدى خضوع هذه العملية لرقابة شديدة من بعض الدول لأسباب ومصالح مختلفة.
وإلى جانب الإنعاش الاقتصادي وتوفير مظلة للمرحلة الانتقالية، قد تكون لدى الشرع أهداف أخرى معلنة وغير معلنة من وراء اختيار الرياض لتكون محطته الخارجية الأولى.
ومن بين الأهداف المسكوت عنها يبرز التعقيد الذي سوف يواجه إدارته في حال لم تنجح المساعي السياسية والمفاوضات في حل استعصاء “قسد”، لأن حليفه التركي يضغط باتجاه حلّ المسألة عسكرياً، وهو ما يضع الشرع أمام تحديات داخلية خطيرة، خاصة بعد قرار حلّ الفصائل المسلحة في “مؤتمر النصر”، ما يعني أن الشرع بصفته القائد العام للجيش الجديد سيكون هو المسؤول عن قرار السلم والحرب، وليس فصائل مسلحة تعمل بأمر من تركيا.
ومع اتخاذ قيادة “قسد” موقفاً رافضاً لمقررات “مؤتمر النصر” الذي كلف الشرع رئاسة البلاد وشكل الجيش الجديد، سيعني إخفاق المفاوضات انزلاق البلاد نحو خيار التقسيم.
ونتيجة غموض الموقف التركي من هذا الخيار، رغم تصريحات المسؤولين الأتراك بشأن الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، تتجلى مدى حاجة الشرع إلى قوة إقليمية عربية يمكنها كبح جماح حليفه التركي في حال قرر الذهاب بعيداً في مواجهة “قسد”.
ومن بين هذه الأهداف أيضاً تأتي مسألة رفع العقوبات المفروضة على سوريا كبلد أولاً، وعلى “هيئة تحرير الشام” كتنظيم ثانياً، وعلى الشرع كشخص ثالثاً. وبسبب العلاقة المتينة بين الرياض وإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يصبح من غير المنطقي ألا تحاول دمشق الاستعانة بها للتوسط لدى واشنطن من أجل قضايا كثيرة من أهمها موضوع الانسحاب الأميركي وتأثيره على شرق الفرات، وكذلك في مسألة تخفيف العقوبات المفروضة على سوريا بما يمكنها من تأمين مستلزمات إدارة المرحلة الانتقالية، وتوفير ما يمكنها من سد نفقات الخدمات الضرورية للبلاد والمواطنين.
وليس بين يدي سوريا حالياً أي أوراق قوة تخوّلها التأثير في سياسات الدول إزاءها. وقد تكون المفارقة أن خشية بعض الدول من عودة المشهد السوري إلى التدهور، هي ورقة دمشق الرابحة الوحيدة، لكن اللعب بهذه الورقة أو التلويح بها قد ينقلب في أي لحظة بما يجعله ينعكس بشكل مباشر على وحدة وتماسك الأراضي السورية تحت وطأة أجندات داخلية وخارجية لدول عدة تنظر إلى التقسيم كخيار احتياطي في حال أخفقت خياراتها الأخرى لتحقيق مصالحها.