غالبا ما يعلو صوت الدعوات إلى التغيير على صوت الأسئلة عن وجهة التغيير ومضمونه وفي مصلحة أي طرف ينتهي. اليوم، رياح التغيير تهب في الشرق الأوسط نحو السلام.
وبعد عقود من محاولات بناء موازين قوى تعتمد العنف بقدر اعتمادها على الرطانة، من أجل تحرير فلسطين واستعادة الحقوق والدفاع عن لبنان وتحرير الجولان وغير ذلك من الأهداف، بدا أن فجر عصر جديد يبزغ في الأفق.
محاولات التوصل إلى سلام عربي-إسرائيلي التي أطلقها أنور السادات بعد التأكد من الحدود التي يمكن أن تصل إليها الجيوش العربية في حرب 1973، وقوبلت المحاولات تلك بما يشبه الإجماع العربي الرافض لها، تجددت في أوائل التسعينات بعد حرب الخليج الأولى، بعد اكتشاف آخر لحدود القوة العربية التي مثلها صدام حسين بمغامرته بغزو الكويت. وغاب عن انتباه كثر في تلك المرحلة أن مفاوضات مدريد والعملية التي تلتها، حملت ضمنا إشارة إلى حدود جديدة هي تلك التي يمكن أن تبلغها الانتفاضة الشعبية ضد الاحتلال الإسرائيلي على ما بينته نتائج الانتفاضة الأولى التي تجنبت طريق العنف المسلح واستندت إلى الحراك الشعبي الفلسطيني، لكنها قوبلت بالقمع الإسرائيلي الدموي وأفضت إلى إرسال وفد فلسطيني مشترك مع الأردن إلى مدريد.
الانتفاضة الثانية بين 2000 و2004 ارتكبت خطأ استراتيجيا باستسهال اللجوء إلى العنف والعمليات الانتحارية ضد إسرائيل ما أدى إلى إعادة احتلال الضفة الغربية بكاملها والقضاء على صدقية السلطة الوطنية وتوريطها في صراعات داخلية. إضافة إلى الانقسام الذي اتخذ شكل اقتتال بين “حماس” و”فتح” والذي لا تزال نتائجه ماثلة أمام الجميع في كارثة غزة وافتقار السلطة في رام الله إلى أي دور يُذكر في المأساة الحالية.
أما الاحتلال الأميركي للعراق فقد فتح الطريق أمام إيران لبناء مناطق عازلة تهدف إلى الحيلولة دون تكرار ما شهدته الحرب العراقية–الإيرانية من تهديد للعمق الإيراني، ما جعل بؤرة النفوذ الإيراني في لبنان تنتشر إلى العراق واليمن وتضم بشار الأسد الباحث عن حلفاء لنظامه.
الحرب الأهلية الطائفية في العراق بين 2006 و2008، ثم ظهور بواكير “داعش” وتصاعد الحاجة الإيرانية إلى حماية المشروع النووي وشعور طهران بقدرتها على التمدد في المنطقة من دون كوابح، قادت كلها إلى ظهور دويلات داخل الدول في لبنان والعراق واليمن.
وشكّلت العوامل هذه مجتمعة، عودة إلى خيار “الكفاح المسلح” و”الزحف حتى القدس” تحت مقولة إن “العالم لا يفهم غير لغة القوة” وأن ما يجري في المنطقة هو بناء توازن جديد يُرغم إسرائيل على السير في مسار السلام، بل يفضي إلى انهيار “الكيان”.
تتجاهل العودة هذه أن الظروف التي انطلق فيها العمل المسلح الفلسطيني في 1965 كانت شديدة الاختلاف وتأسست على مناخات الحرب الباردة وثورات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا والثورة الكوبية وحرب فيتنام ثم جاءت هزيمة 1967 لتزود الفصائل الفلسطينية بذريعة جديدة عن إفلاس الأنظمة العربية التقليدية ومقاربتها للقضية الفلسطينية ككل.
ليست الولايات المتحدة وإسرائيل وحدهما من يريد السلام. بل إن الكثير من الدول العربية تسير في هذا الاتجاه بفعل ديناميات أوجدها عجزها وفشلها الذاتيان الواضحان لكل من له عين ترى
انتهت التجربة المسلحة الثانية التي قادها “محور المقاومة” إلى الكارثة الحالية الممتدة من غزة إلى اليمن مرورا بلبنان. ويبدو أن نوعا من السلام يفرد جناحيه على الشرق الأوسط من دون أن يكون مشروعه واضحا باستثناء بعض العلامات التي يبديها الحكم الجديد في سوريا أو جهات في الدولة اللبنانية عن استعداد للمضي في هذا الطريق الذي لم يعد هناك مفر من السير فيه بعد ما جرى في الأعوام القليلة الماضية، وأظهر- ليس فقط تهافت قوى “المقاومة”، ممارسةً وخطابا، وتحولها إلى مشاريع للحروب الأهلية والطائفية الدائمة واستنزافا لا قعر له لمواردها وإمكانات نموها- بل أيضا وخصوصا أن المجتمعات العربية المعنية مباشرة بالصراع مع إسرائيل والتي تشكل المواجهة معها جزءا من حياة تلك المجتمعات اليومية، باتت في حاجة إلى “وقفة تعبوية” على ما يقال في اللغة العسكرية.
الحروب والاجتياحات والاغتيالات والتدمير المتواصل على مدى أعوام والذي يتضاعف أثره في غياب حد أدنى من التماسك والمشروع الوطنيين، في فلسطين ولبنان على سبيل المثال، والانكشاف الكامل الأمني والعسكري أمام إسرائيل، كما في سوريا، والخشية من التعرض إلى ضربة قاصمة تُفقد التحالف الحاكم في العراق امتيازاته والثروات التي يتنعم بها، تدفع كلها في اتجاه “سلام ما”. وما من توصيف لمضمون السلام هذا ولا لفرصه الاقتصادية أو التنموية أو كيف سينعكس على مستوى معيشة شعوب المنطقة ومن سيجني ثماره. لكن الجميع يعلم أن رفض السير نحو سلام هذه صفاته يعني البقاء في خانة الاقتتال الداخلي والحرب مع إسرائيل في آن واحد.
ليست الولايات المتحدة وإسرائيل وحدهما من يريد السلام هذا. ولا حتى بعض المتحمسين العرب لطي صفحة صراع استمر أكثر مما يُحتمل ولم يجن ضحاياه حتى حلما باستعادة الحقوق والتحرر، بل إن الكثير من الدول العربية تسير في هذا الاتجاه بفعل ديناميات أوجدها عجزها وفشلها الذاتيان الواضحان لكل من له عين ترى.
+ / –
font change
حفظ
شارك
استمع
06:45