الفراغ الأيديولوجي لم يُملأ بمشروع عقلاني أو مشروع مستقل بل استُغِلَّ في بعض المناطق من قبل التيارات الدينية المتشددة، خاصة مع الدعم الاستخباراتي الأميركي لهذه الجماعات لمحاربة الشيوعية.
الأربعاء 2025/02/05
TeilenWhatsAppTwitterFacebook
النزعات الأيديولوجية تتغذى على الحروب والصراعات
يقول البعض بلغة متفائلة وإيجابية إنه تم توجيه ضربات قاضية للأيديولوجيا القومية والدينية في الشرق الأوسط مع تعرضها لخسائر كبيرة خلال الحروب المتتالية. ولكن يبقى السؤال: هل اضمحلت الأيديولوجيات القومية والدينية في المنطقة؟
من الممكن أن تمويل هذه الحركات توقف، وهيكلية الأحزاب العسكرية والمادية تعرضت للانهيار، لكن فكريا وثقافيا مازالت نشطة ومتواجدة.
هذه الأيديولوجيات لم تختفِ بشكل كامل بعد، بل لا تزال حاضرة في الكثير من المجتمعات، حتى وإن كانت قد تقلصت في بعض الأماكن أو تغيرت في شكلها.
على سبيل المثال، نجد أن القومية والدين لا يزالان يمثلان مصادر هوية قوية في العديد من الدول، وبعض الحركات، سواء كانت دينية أو قومية، لا تزال تجد تأييدًا من قطاعات واسعة في بعض البلدان، خصوصًا في ظل الأزمات السياسية أو الاقتصادية، حيث تصبح هذه الأفكار ملاذًا للمواطنين الذين يشعرون بالتهديد أو الظلم. تبقى هذه الأفكار حاضرة، حتى وإن كانت تأخذ أشكالًا جديدة أو تتحول إلى خطاب شعبوي في بعض الحالات.
◄ مع تبني أسلوب حياة يعتمد على العقلانية والعلم في اتخاذ القرارات، يتزايد التطور العلمي والتكنولوجي، ويمكن للعقلانية أن تكون ركيزة أساسية لبناء مجتمعات قادرة على التكيف مع المستقبل
الواقع أن التمويل والمصالح السياسية يمكن أن يكونا من العوامل التي تحد من تأثير هذه التيارات الفكرية، لكن لا يجب إغفال حقيقة أن الفكر القومي والديني مازال يعيش في بعض المجتمعات بطريقة ما، سواء في شكل خطاب جماهيري أو عبر حركات وأحزاب سياسية.
فهذه الأيديولوجيات لا تزال تمثل بنية فكرية وثقافية للمجتمعات، حيث تم بناؤها على مدار عقود طويلة، فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي فقدت الكثير من الدول العربية الحليفة له مرجعيتها الفكرية والسياسية، ما دفع بعضها للجوء إلى الأيديولوجيات القومية أو الدينية كبديل.
هذا الفراغ الأيديولوجي لم يُملأ بمشروع عقلاني حديث أو مشروع مستقل، بل استُغِلَّ في بعض المناطق من قبل التيارات الدينية المتشددة، خاصة مع الدعم الاستخباراتي الأميركي لهذه الجماعات لمحاربة الشيوعية. واليوم نرى آثار هذا الصراع لا تزال قائمة في الشرق الأوسط، حيث تعاني بعض الدول من غياب رؤية فكرية مستقلة حديثة قادرة على مواكبة العصر.
إن الملفات في هذه الدول مازالت مفتوحة، لأنه لم يتم توفير أي بديل فكري ثقافي قوي للجماهير في هذه المناطق. فمجرد ادّعاء عدم وجود الجثة لا ينفي حقيقة وجودها وتعفنها مع الزمن. ومجرد محاولة الادعاء بأن الفيل ليس في الغرفة لا يعني أنه ليس هناك ولا يعني أنه لن يتضخم وينفجر من جديد مع أول فرصة تسنح له.
إذًا هل هناك إمكانية لتغيير جذري في المنطقة، وهل هناك فرص حقيقية لتجاوز هذه الأيديولوجيات، أو إحياء بدائل جديدة تساعد في بناء شرق أوسط مختلف؟ أم أن التحديات الثقافية والسياسية الحالية تجعل هذا الأمر أكثر تعقيدًا؟
ربما العودة إلى مسار التنوع الفكري والعلمي في ظل دولة حديثة ومتقدمة، تساعد في بناء مجتمع قادر على التقدم من خلال العلم والعقلانية، بعيدًا عن الهيمنة الدينية أو الأيديولوجية المتطرفة، وقد تكون مدخلا وبداية لتغيير جذري في المنطقة.
من المهم وضع أسس لبناء دولة قانونية تُركز على حقوق الإنسان والحريات الشخصية والتطور الاقتصادي والاجتماعي، بعيدًا عن تسخير السلطة الدينية لخدمة أجندات سياسية، ووضع الدين في إطار شخصي وحماية حقوق الأفراد في ممارسة معتقداتهم بحرية دون فرضها على باقي المجتمع.
◄ التركيز على بنية تعليمية قويةٍ يُعتبر نقطةً أساسية، فالتعليم هو الأساس في تشكيل مستقبل أي مجتمع
مع تبني أسلوب حياة يعتمد على العقلانية والعلم في اتخاذ القرارات، يتزايد التطور العلمي والتكنولوجي، ويمكن للعقلانية أن تكون ركيزة أساسية لبناء مجتمعات قادرة على التكيف مع المستقبل، ما قد يفتح المجال للاختلافات الفكرية ويتيح للمجتمع فرصة الازدهار دون أن يعيق تطوره مفهوم ديني أو قومي مُغلق.
إذًا، العودة إلى العقلانية والعلم تعني التوجه نحو التفكير النقدي وتعزيز الوعي العلمي؛ لأنه في عالمنا المعاصر العلم هو القوة المحركة للتقدم، سواء في مجال التكنولوجيا أو الاقتصاد أو حتى العلاقات الدولية.
لذا من المهم إعادة بناء المناهج التعليمية لتعزيز التفكير النقدي والبحث العلمي ليُمكن الأفراد من اتخاذ قرارات مدروسة، وتفكيك الكثير من الهياكل الفكرية القديمة التي تعتمد على أسس غير علمية.
ولذلك يُعتبر التركيز على بنية تعليمية قويةٍ نقطةً أساسية، فالتعليم هو الأساس في تشكيل مستقبل أي مجتمع. وتطوير أنظمة التعليم التي تركز على الفهم النقدي والفلسفة والعلوم والفنون سيتيح للأجيال القادمة قدرة على التفكير بطرق مبتكرة وغير تقليدية.
ربما يتيح لهم المجال لإيجاد حلول حقيقية وواقعية لأزماتهم المتراكمة؛ فإذا كان التعليم يرتكز على تأسيس عقلية تحليلية ونقدية، فإنه سيمكّن الأفراد من مواجهة التحديات الفكرية والثقافية التي قد تطرأ في المستقبل.
◄ التمويل والمصالح السياسية يمكن أن يكونا من العوامل التي تحد من تأثير هذه التيارات الفكرية، لكن لا يجب إغفال حقيقة أن الفكر القومي والديني مازال يعيش في بعض المجتمعات بطريقة ما
أما دور المؤسسات الدينية فيجب أن يكون تقويميا وروحانيا وتهذيبيا. ولكن التقليل من نفوذ هذه المؤسسات في السياسة والمجتمع سيمكن الأفراد من بناء مجتمعات مدنية مبنية على العدالة والمساواة.
يبقى طبعا السؤال الأهم: هل المجتمعات العربية والإسلامية في الوقت الحالي مستعدة للتعامل مع هذه الأفكار بشكل جاد؟ أم أن هناك مقاومة ثقافية وفكرية قد تعيق تطبيقها؟
الانتقال نحو هذه الأفكار ليس سهلًا بالطبع. وسيصطدم بتيارات رافضة لمثل هذه الخطوات. خاصة في الكثير من الدول المنهارة في بنيتها المادية والعسكرية والأمنية، بسبب ما لحق بها من دمار عبر سنوات طويلة وما طالها من خراب بسبب الحروب الأخيرة. فالمجتمعات التي ترسخت فيها القيم الدينية والقومية لفترات طويلة قد تجد مقاومة في تطبيق أي توجهات مغايرة.
لكن في الوقت ذاته، عاجلا أم آجلا، هناك حاجة ملحة لإعادة التفكير في الأسس التي بنيت عليها هذه المجتمعات، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجهها.
ولا بد من إيجاد بديل ثقافي فكري، وإلّا ستبقى هذه المجتمعات أسيرة حلقة مفرغة من الفكر ذاته الذي ما عاد يصلح للعصر الحديث. ولم ينجح هذا التفكير في إنقاذ أهالي المنطقة من حروب مستنزفة، ولم يساعدها في المضي شبرا واحدا بعيدا عن مأساتها.
TeilenWhatsAppTwitterFacebook
ربى عياش