تقدّم مدوّنة “ديوان” الصادرة عن مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط وبرنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي تحليلات معمّقة حول منطقة الشرق الأوسط، تسندها إلى تجارب كوكبةٍ من خبراء كارنيغي في بيروت وواشنطن. وسوف تنقل المدوّنة أيضاً ردود فعل الخبراء تجاه الأخبار العاجلة والأحداث الآنيّة، وتشكّل منبراً لبثّ مقابلات تُجرى مع شخصيّات عامّة وسياسية، كما ستسمح بمواكبة الأبحاث الصادرة عن كارنيغي.

توافد إلى سورية خلال الأسابيع القليلة الماضية أكثر من عشرين دبلوماسيًا ومسؤولًا أجنبيًا رفيع المستوى، من فرنسا وألمانيا وقطر وروسيا والمملكة العربية السعودية وتركيا وأوكرانيا والإمارات العربية المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرها. فالكثير من الدول تودّ الانخراط في عملية إعادة إعمار سورية، لكن المقترحات المختلفة التي قدّمتها قد لا تكون بالضرورة متناغمة ومتجانسة مع بعضها البعض. في غضون ذلك، لا تزال تسود حالةٌ من اللايقين حيال القيادة السورية الجديدة.

شكّل السقوط المفاجئ لنظام بشار الأسد، بعد امتناع إيران وروسيا عن إنقاذه، الحدث الأقلّ توقّعًا ضمن سلسلة الأحداث التي غيّرت قواعد اللعبة في الشرق الأوسط مؤخّرًا. وبعد تولّي قائد هيئة تحرير الشام أحمد الشرع، المعروف سابقًا بلقب أبو محمد الجولاني، سُدة الحكم في سورية، صدر عن البلاد سيلٌ من الرسائل والتصريحات التي هدفت إلى طمأنة الشركاء الأجانب، واستعادة العلاقات الطبيعية مع الدول. يملك الشرع سجلًا حافلًا بأعمال العنف أثناء تزعّمه تحالفًا من الفصائل المسلّحة، وقد نصّب نفسه الأسبوع الفائت رئيسًا لسورية في المرحلة الانتقالية. ونتيجةً لذلك، راودت الحكومات الغربية آمالٌ وشكوكٌ في آنٍ.

بعد نصف قرنٍ ونيّفٍ من حكم آل الأسد، أتاح الواقع الجديد فرصًا أمام الدول الإقليمية والغربية. فسارعت إسرائيل إلى تدمير ما تبقّى من الدفاعات الجوية والقدرات الصاروخية للجيش السوري، عبر شنّ سلسلةٍ من الضربات الاستباقية في مطلع كانون الأول/ديسمبر الماضي. وهرعت تركيا بدورها إلى زيادة هجماتها ضدّ القوات الكردية في شمال سورية، وأوفدت مسؤوليها إلى دمشق لإيضاح أولوياتها. كذلك، تُبدي دول الخليج حرصًا على المساعدة في إعادة إعمار سورية والتخلّص من النفوذ الإيراني.

في خضمّ هذه الزيارات، تحرّك الاتحاد الأوروبي أيضًا على جناح السرعة نسبيًا. فشاركت الممثّلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، كايا كالاس، في اجتماعات العقبة بشأن سورية يوم 14 كانون الأول/ديسمبر؛ وأجرى وزيرا خارجية فرنسا وألمانيا زيارة مشتركة إلى دمشق في 3 كانون الثاني/يناير، أعقبتها زيارة وزير الخارجية الإيطالي في العاشر من الشهر نفسه. كذلك، وصلت مفوضة الاتحاد الأوروبي لشؤون المساواة والاستعداد وإدارة الأزمات، حجة لحبيب، إلى سورية في 24 كانون الثاني/يناير، حيث أعلنت عن تقديم حزمة مساعدات إنسانية بقيمة 235 مليون يورو (حوالى 241 مليون دولار)، وناقشت رفع العقوبات عن سورية من أجل “تشجيع السلطات الجديدة على بناء دولة شاملة للجميع تحتضن جميع مواطنيها ومكوّناتها المتنوّعة […]. ويجب احترام حكم القانون وحقوق الإنسان وحقوق المرأة”.

نتيجةً لهذه الاجتماعات وغيرها من المحادثات الدبلوماسية، تمكّنت كالاس من التوصّل إلى اتفاقٍ مبدئيّ خلال اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الذي عُقد في 27 كانون الثاني/يناير، يقضي بتخفيف العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على سورية، كبادرة حسن نيّة، على افتراض أن تتّخذ دمشق إجراءات إيجابية في المقابل. وما زالت الترتيبات المفصّلة قيد النقاش، بانتظار المصادقة عليها في 24 شباط/فبراير الجاري.

مع ذلك، يشكّل تعدّد الأولويات عبءًا على المساعي الجارية. فبعض حكومات الاتحاد الأوروبي ركّزت على قلقها من عودة نفوذ تنظيم الدولة الإسلامية، في حال انحسر دور القوّات الكردية السورية في الشرق السوري، أو قرّرت واشنطن الإسراع في سحب قوّاتها المنتشرة في هذه المنطقة. ووجّهت حكوماتٌ أخرى أنظارها نحو حقوق التنقيب عن النفط والغاز في شرق البحر المتوسط. هذا وتشدّد حكوماتٌ كثيرة على ضرورة أن تستعيد دمشق سيطرتها على كامل الأراضي السورية، فيما يساور معظمها القلق من أن يتكفّل الاتحاد الأوروبي بتمويل إعادة إعمار سورية، من دون أن يكون له رأي في القضايا السورية الأساسية.

أما خارج الاتحاد الأوروبي، فلدى دولٍ مثل إسرائيل وتركيا والولايات المتحدة أهدافٌ محدّدة أيضًا. وقد تجلّت الطموحات التركية من خلال سيل الزوار الذين توافدوا إلى دمشق منذ أوائل كانون الأول/ديسمبر 2024 “محاولين استغلال الفرصة السانحة”، ومن ضمنهم رئيس جهاز الاستخبارات التركية، وعدد من الوزراء بمن فيهم وزير الخارجية، إضافةً إلى وفدٍ عسكري رفيع المستوى. تريد أنقرة القضاء على وحدات حماية الشعب الكردية، وإقناع اللاجئين السوريين في تركيا بالعودة إلى وطنهم، وتأمل بانسحاب القوات الخاصة الغربية من شرق سورية. وتودّ أنقرة أيضًا مساعدة السلطات السورية في إعادة تنظيم الوحدات العسكرية لإنشاء جيش وطني سوري موحّد وتزويده بأسلحة تركية. وترغب أيضًا في أن يتولّى قطاع البناء التركي مشروع إعادة إعمار المساكن والبنية التحتية السورية المتضرّرة بتمويل أجنبي. كذلك، تشمل طموحات تركيا ربما إبرام اتفاقيةٍ بشأن حقوق التنقيب عن الموارد الطبيعية في المناطق البحرية المجاورة. وستلقي هذه الأهداف بظلالها على الاتحاد الأوروبي.

في نهاية المطاف، ستتّخذ قيادة سورية الجديدة القرارات السياسية الرئيسة في دمشق، وتنتظرها مهمّة جسيمة. فهم بحاجة إلى إعادة إحياء مؤسسات الدولة واستئناف العمل فيها، وضمان تمثيلها التنوّع السوري. كذلك، على القيادة السورية توفير الغذاء إلى السكان المحتاجين، وإعادة إعمار المساكن والبنى التحتية، وإصلاح قطاع الأمن، وتبنّي موقفٍ واضح ضدّ الإرهاب، واستعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية، فضلًا عن إطلاق عملية العدالة الانتقالية، وتحقيق توازنٍ بين طموحات شركاء سورية الدوليين.

في هذا السياق، تُعدّ مهمّة دول الاتحاد الأوروبي دقيقةً للغاية، بعد غيابها الطويل عن النقاش السياسي والأمني حول سورية. لكنها اتّخذت الآن زمام المبادرة الأولية وأوضحت رؤيتها حيال العلاقات المقبلة مع البلاد. وتشمل أبرز الإجراءات الأوروبية زيادة المساعدات الإنسانية وتعليق العقوبات المفروضة على قطاعات أساسية في سورية. كذلك، ثمّة سُبلٌ أخرى يمكن للاتحاد الأوروبي من خلالها دعم قيادة سورية وشعبها.

تتمثّل إحدى هذه الخطوات في الاعتراف بمعاناة المواطنين السوريين على يد نظام الأسد طوال السنوات الأربعة عشرة الماضية، وتقديم الدعم لهم من خلال وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية المتخصّصة، من أجل توثيق هذه المأساة وربما إطلاق عملية ترمي إلى تضميد الجراح على المستوى الوطني. ومن الضروري أيضًا لمستقبل سورية والسوريين فتح تحقيقٍ كامل بهدف ضمان المساءلة عن جرائم التعذيب والقتل التي ارتُكبت خلال فصول الصراع السوري. ومن التدابير المهمّة الأخرى التي ينبغي على الاتحاد الأوروبي أو بعض الدول الأعضاء فيه اتّخاذها على الصعيد الأمني، إرساء آلية تعاون مع القيادة السورية الجديدة من أجل توثيق المعلومات المتعلّقة بالإرهابيين المعروفين ومراقبة تحرّكاتهم، ولا سيما أولئك الذين يحملون جنسيةً أوروبية والمحتجزين راهنًا في شرق سورية.

لا يزال الوضع في سورية شديد التعقيد. لكن الأمر الجديد من المنظور الأوروبي هو أن القيادة السورية الجديدة أعربت بوضوحٍ عن التزامها بالحفاظ على التنوّع بناءً على أُسس شاملة للجميع، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتحقيق السلم الأهلي. من الناحية النظرية، تبدو هذه النوايا منسجمة مع مبادئ الاتحاد الأوروبي، وبالتالي يمكن أن توفّر ركيزةً لإعادة بناء العلاقات بين سورية وأوروبا.

سورية
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.