علينا أن نتعلم كيف نحب الحياة كثيراً كي نتفادى الحروب قليلاً
الحرب صوت الجنون البشري المطلق، كلما خرج الإنسان إلى الحرب فهو بشكل غير واعٍ يبحث عن استعادة وحشيته وحيوانيته المفقودة في غابة التاريخ المتراكم.
هذا الإنسان الغريب لم يتمكن العقل حتى الآن من تعقيله، فهو يعيش حياته باحثاً عن التخلص من التوحش الذي يتجلى في الحروب وفنون القتل، لكنه في الوقت نفسه يعيش في حال استعداد متواصلة للقتال والموت.
كلما تأملنا في الذي يحدث من حولنا هذه الأيام، في غزة والسودان وأوكرانيا وبعض دول أفريقيا، من دمار وقتل وبكاء ودم وعنف وتعذيب وخوف وترويع تحت تسميات مختلفة، سياسية ودينية وأخلاقية ووطنية وجغرافية، استعدنا مقولة الفيلسوف نيتشه لنقلبها على وجوهها “خلق الإنسان في جوهره للحرب، أما السلام فهو حال عرضية”.
ما تقدمه شاشات التلفزيونات وسائل التواصل ووكالات الأنباء على اختلاف حساسياتها، تؤكد بأن الحال الطبيعية في الإنسان هي “الحرب”، أي كأنما الإنسان خلق لمهمة واحدة هي الحرب، يعيش من أجل أن يحارب، أما السلام فهو حال ثقافية مكتسبة، والسلام الذي كثيراً ما ندافع عنه وننشئ له خطابات في الجامعة والكنيسة والمسجد والكنيس وبيوت العبادات الأخرى فيبدو وكأنه ليس أكثر من هدنة بين حربين، واحدة تدفن قتلاها والأخرى تحضر قافلة أخرى لموت آخر في الأفق.
حين نتأمل الموت الذي هو في شكل قتل وتقتيل نتساءل، هل للدموع جنسية؟ لا جنسية للدمعة، لا لغة لها، هي فصيحة من دون لغة، لا دين لها ولا وطن.
نتساءل أمام فداحة ما يجري من خراب ودماء وتقتيل من حولنا وفينا، ما العلاقة بين ملح دمع القتيل وملح عرق القاتل؟ هذا الملح هو صنيع ضياعنا الوجودي.
يومياً نتأمل صور مئات الموتى، القتلى بالأحرى، على شاشاتنا الذكية المتآمرة، الموتى في أكفانهم أو في توابيتهم أو نتخيلهم تحت الأنقاض، فندرك بأن الموت قد فقد هالته ورهبته وشعريته وغموضه العميق.
اختفى الموت الذي هو حق، وكثر القتل الذي بغير حق.
أصبحنا نشتاق لموت طبيعي فيه تأمل وصلاة ووداع وحزن من دون حقد، ولم نعد نسأل عن الميت أو القتيل ولا عن قاتله ولا عن سبب قتله ولا عن عمر الميت ولا عن جنسه ولا عن فجيعة أهله، أصبحنا نسأل عن عدد القتلى، عدد الموتى الذين نكفنهم ونقلق لعدم تمكننا من العثور على جثث أموات آخرين محاصرين تحت الأنقاض.
ماذا يمكننا أن نقول حيال هذا العالم المجنون واللاهث وراء شهوة التقتيل؟ الثقافة الوحيدة التي يجب ألا يتعلمها الإنسان بل عليه أن يعاديها ويحاربها هي ثقافة الكراهية، والحروب مدرسة الكراهية بامتياز.
علينا أن نتعلم كيف نحب الحياة كثيراً كي نتفادى الحروب قليلاً، وحين تحاصرنا الصور العنيفة للقتل المباشر تحت يافطة الشجاعة من على شاشات التلفزيونات الملونة بدقة متناهية، صور تلتقطها بذكاء خبيث الأقمار الاصطناعية، نشعر بعمق تلك المواجهة ما بين النداء الإنساني الخافت من جهة والصمت اللامعقول والعبثي في هذا العالم المتوحش من جهة أخرى.
غريب ومؤلم أن تفتخر أمة بعدد موتاها الذي سقطوا في الحروب، وهو الذي يحدث، في حين أن الافتخار يجب أن يكون بالذين عادوا من هذه الحروب للحياة ولن يذهبوا إلى حرب أخرى.
حين نغني أو نرقص للحروب بكل فظاعتها فنحن قد فقدنا الأمل بالحياة وجعلنا من الموت موطناً وعقيدة، وإذا كان هناك من يرى في الموت تضحية فبعضهم يرى فيه الفقد، والإنسان الذي يفكر في الموت والمهووس به لا يمكنه أن يفكر بإيجابية في السلام ولا في الحياة كسعادة كبيرة.
كلما فكر الإنسان في الآخرة بديلاً وملجأً له كان أقرب إلى قبول فكرة الموت تحت تسميات مختلفة، وذهب إليه بإيمانات مختلفة، وكلما قبل بالموت كان على استعداد للتصالح مع الحرب بكل أشكالها.
إن صناعة السلام بين البشر أصعب بكثير من صناعة الحرب بينهم، فلغة السلام الواضحة أعقد فهماً على البشر من لغة الحرب المباشرة المسطحة.
لقد أصبح الإنسان يعرف أنواع الأسلحة الفتاكة والطائرات النفاثة والقنابل العنقودية والفسفورية والمسدسات والبنادق الأوتوماتيكية والبواخر الحاملة للطائرات والطائرات المسيرة “المقنبلة” والغواصات النووية، ويجهل أنواع الأزهار وأصناف الأشجار وسلالات العصافير وأسماء الأسماك الملونة.
إن أخطر شيء على الإنسان هو أن يعتاد مشاهدة مناظر الموت، فعادة العيش مع صور الموت موت آخر أو استعداد له، وعلى الإنسان ألا يتصالح مع أخبار الموت، والتصالح الوحيد الذي يجب أن يكون هو مع فتنة الحياة.
كلما دخلت أخبار الموت إلى مربع الروتين فقد البشر حاستهم الإنسانية واقتربوا من الغابة بكل رمزية التوحش التي تحيل عليها، وفي الوقت نفسه فقد الموت هالته وغموضه وشعريته وصلاته.
وكلما تصالحت البشرية مع الموت والقتل والحرب، مات الشعر ومات الفن الراقي، وعمّر “الفن المنحط” وارتفع رأسمال الشر وتراجع منسوب الخير في الفرد وفي الجماعة.
هذه ساعة “النفير” الآخر، ليس نفير الحرب ولكن نفير الخير والحياة، إذ إن الحياة برمتها في خطر ببشرها وطيرها وشجرها، وكلما استيقظ ضمير فتراجع جراء ذلك مجند في حرب عن إطلاق رصاصة على طفل أو امرأة أو شيخ أو شجرة أو قطة ضائعة يكون قد كتب بيتاً في قصيدة السلام الكبرى، يكون قد خطا خطوة من طريق بناء السعادة البشرية.
تتذاكى التكنولوجيا بسرعة جنونية ويزحف العقل الصناعي بتوحش على يومياتنا، وفي المقابل يتغابى الإنسان وتزداد لديه شهوة القتل وحب السلطة والتملك.
يبتكر الإنسان عقاراً لمرض خطر، وفي الوقت نفسه يبتكر آلة فتاكة في فن القتل بالجمع، ومن جهة يحارب الموت الذي يكون في شكل أمراض وجوائح وأوبئة، ومن جهة أخرى يزرع القتل الجماعي في صورة الحروب المدمرة العمياء.