تمنّى الرئيس نواف سلام أن تكون حكومته “حكومة الإصلاح والإنقاذ”. وإذ أتفهم أن المرحلة تتطلّب إنقاذاً من الانهيار الحاصل على المستويات كافة، فإنني كنت أفضّل أن تسمّى “حكومة السيادة والإصلاح” أو “حكومة السيادة والإصلاح من أجل الإنقاذ”، على اعتبار أن الإنقاذ هو الهدف في حين أن السيادة والإصلاح هما المهمتان الأساسيتان للحكومة المفترض أن تؤديا إلى الإنقاذ.
لا تهمّ التسميات بقدر ما تهم الأفعال. الرأي العام اللبناني، وفق ما أعتقد، يتطلّع إلى السيادة والإصلاح، وهو رأى في عون وسلام الشخصيّتين الملائمتين لتحقيق ذلك. وأعتقد أيضاً أنّ العهد وحكومته الأولى لا يختلفان على أن الأولوية اليوم هي لبسط السيادة وإطلاق عملية الإصلاح. سيادة عون وبندقيته تحتاجان إلى إصلاح سلام وكتبه، وإصلاح سلام وحكومته يحتاجان إلى سيادة عون وجيشه.
العلاقة في هذه المرحلة التاريخية بين السيادة والإصلاح علاقة وثيقة، لدرجة الترابط العضوي. فلا إمكانية لإصلاح من دون سيادة، ولا سيادة فعليّة من دون إصلاح سياسي – اقتصادي – اجتماعي.
لكن السيادة لا تعني فقط بسط سلطة الدولة على كامل التراب اللبناني وحصرية السلاح بيد الدولة، وهما شرطان لقيام الدولة، ومن أبرز التحديات التي تواجه الحكومة. فالسيادة الوطنية مفهوم يشير إلى مَنح سيادة مُطلقة للشعب، أي أنّ السلطة هي بيد المواطنين الذين من شأنهم القيام بجعل الدستور يمنح السلطة لهم بشكل ثابت. يرتبط مفهوم السيادة الوطنية بشكل رئيسيّ بالمواطن الخاضع لحقوق الإنسان في المساواة في الحقوق مع غيره من أفراد الأمة، وليس المواطن الخاضع والمذعن في الانتماء إلى كيان سياسيّ يُفرض عليه بشكل إلزاميّ.
الإصلاح هو عمل سيادي لأنه يسيّد الشعب على شؤونه الحياتية كما |أن الإصلاح يضعف بدوره من الحاجة إلى أحزاب التبعية للخارج، ويدعّم بالتالي أسس السيادة الوطنية.
بهذا المعنى، جميع الوزارات هي سياديّة، طالما أنها تقدّم خدمات إلى الشعب، وللشعب حكماً سيادة عليها. وفي هذا السياق، إن أيّ إصلاح سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي لا يترجم سيادة الشعب ومصالحه ليس إصلاحاً يعوّل عليه، وهو إصلاح يتناقض مع مفهوم سيادة الشعب.
أقول ذلك، وأنا أراجع السير الذاتيّة للوزراء الجدد. فإذا كانت الخلفيات العلميّة لمعظمهم تدعو إلى الاطمئنان، لكن السير المهنيّة للبعض تدعو إلى الحذر.
لديّ ارتياح بشكل عام بما يتعلّق بالوزراء الذين تولّوا وزارات لها علاقة مباشرة بالحريّة: وزارات التربيّة والثقافة والعدل والإصلاح. لكنني بالمقابل حذر بالنسبة إلى وزارات الماليّة والصناعة والاقتصاد والعمل والطاقة والاتصالات والصحّة.
لا أذهب، كما يفعل غيري، إلى حدّ اتّهام المعنيين بهذه الوزارات بأنهم جميعهم أصحاب نزعة نيوليبراليّة، نظراً إلى سوابقهم المهنية. لكنني لم ألمس بعد – وقد أكون مخطئاً – في تاريخهم وسيرهم حرصاً على العدالة الاجتماعية، التي يجب أن ترافق أيّ عملية إصلاح في هذه الوزارات وفي سياساتها.
أتفهّم تماماً، في ظلّ الانهيار المالي الحالي، الحاجة إلى الشراكة بين القطاعين الخاص والعام، كما أنني لا أجد بديلاً حالياً من الاتفاق مع صندوق النقد الدولي ومع البنك الدولي؛ وذلك بالتوازي مع السعي الجدّي، وبأسرع وقت، للتنقيب عن ثروتنا المائية في مجالَي الغاز والبترول.
أعوّل على رئيس الحكومة وعلى نائب الرئيس الصديق الدكتور طارق متري لأخذ معايير العدالة الاجتماعيّة بالحسبان، في عمليّة الإصلاح المالي والاقتصادي والاجتماعي. وهذا يفترض إقرار مقاربة شاملة، لا قطاعيّة فقط، لمعالجة المشكلات. وربما كان من الأفضل البدء بإقرار “خطّة التعافي” التي طال انتظارها، والتي عليها أن تنصف حقوق المودعين، وترسم ملامح رؤية اقتصادية للمستقبل. كل ذلك في سياق العمل الجديّ على إقرار اللامركزية الإدارية الموسّعة، بأبعادها الإصلاحية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لا يمكن تأمين الترابط بين السيادة والإصلاح، بمعنى سيادة الشعب والإصلاح لمصلحة الشعب، إلاّ عن طريق إشراك ممثلي هذا الشعب في الأحزاب والنقابات والجمعيات، في عمليّة الإصلاح ورسم السياسات.
وإذا كانت مشاركة الأحزاب تتم عبر الحكومة والمجلس النيابي، فإن مشاركة النقابات والجمعيات تحصل عادة في إطار مؤسسات الحوار الاجتماعي، من مثل المجلس الاقتصادي والاجتماعي، لجنة المؤشر، مؤسسة الضمان الاجتماعي، المؤسسة الوطنية للاستخدام والمؤسسة الوطنيّة للتدريب المهنيّ.
ولمّا كان الحوار الاجتماعي في معظم هذه المؤسسات شبه معطّل أو يمارس شكليًّا من دون نتائج ملموسة، فإن مهمة الحكومة الملحّة هي تفعيل هذه المؤسسات، مع ضرورة الاحتياط إلى مسألتين. الأولى أن الاتحاد العمّالي العام ومعظم النقابات واقعة تحت الهيمنة الحزبيّة، وهي ذات صفة تمثيليّة ضعيفة جدًّا، مما يفترض إعطاء أهميّة للحريات النقابيّة وللاستقلاليّة النقابيّة من جهة، والعمل على حمايتها قانوناً وعلى الأرض من جهة ثانية. أمّا المسألة الثانية المرتبطة بالأولى، فهي ضرورة ابتكار أطر جديدة للحوار الاجتماعي تشرك نقابات وجمعيات مستقلّة، غير ممثّلة في المؤسسات الحالية، أو على الأقلّ العمل على إشراك هذه النقابات والجمعيات في هذه المؤسّسات.
إن الترابط الوثيق بين السيادة والإصلاح ليس نتيجة لتقاطع معاني المفهومين وتكامل ممارساتهما فحسب، بل لأنهما يعتمدان أيضاً -للأسف- على طرف واحد في مجال تطبيقهما، وهو الطرف الأميركي. فهو يتحكّم بالدعم العسكري وبالقدرة على تسهيل أو عرقلة تنفيذ الـ١٧٠١ وجميع مندرجاته، عبر رئاسة اللجنة الخماسية لمراقبة وقف إطلاق النار، كما يتحكم بالدعم المالي عبر المؤسسات المالية الدولية. هذا الواقع يلقي مسؤولية كبيرة على عاتق رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ومعهما وزراء الخارجية والداخلية والدفاع والمالية، أي وزراء ما يُسمّى بالحقائب السيادية. وفي صلب هذه المسؤولية الاتفاق على مقاربة وطنية للتعامل مع مسألة تطال استقلالية الدولة اللبنانية. تنوّع هؤلاء الوزراء على المستوى الطائفي والسياسي يجعل من مسؤوليتهم ذات بعد وطني تكويني.
إن نجاح الحكومة في بسط السيادة وفي إتمام الإصلاحات الضرورية لا يعتمد على مجهوداتها فقط. فسيادة عون وإصلاح سلام يحتاجان معاً إلى تحالف سياسي واسع “من أجل السيادة والإصلاح”، يضمّ ويوسّع وينظّم تجمّعات من مثل إعلان بيروت ٢٥ والمنبر الوطني للإنقاذ وغيرهما.
تحالف يتعامل مع السلطة كسلطة، لا يدعمها ولا يعارضها بالمطلق، بل يدعم أو يعارض سياساتها وفقاً لمعياري السيادة والإصلاح. وفي جميع الحالات، يشكل حاضنة شعبية ورافعة سياسية لبناء الدولة على مبادىء السيادة والإصلاح.