عندما سمعتُ نائب رئيس مجلس الوزراء الجديد، طارق متري، يتحدّث في مقابلة تلفزيونيّة، بُعيْد تشكيل الحكومة بساعات، أدركتُ فعلاً أن تغييراً ما ظاهراً للعيان قد حصل في الحياة السياسيّة اللبنانيّة.
لم يعدْ هناك عرضُ عضلات وممارسةُ استقواء وتشاطرٌ بهلوانيّ في مقاربة الأمور الشائكة التي خنقتْ وتخنق الوطن من أقصاه إلى أقصاه. وما حلّ مكانَها هو عقلانيّة هادئة تنظر إلى الأمور بواقعيّة مباشرة لا تعترف بالأوهام الزائفة، ومن دون الاستسلام للآمال الفارغة، ومن غيرِ إطلاق وعود سرابيّة هشّة عشنا على إيقاعها عقوداً طويلة من العذاب والتمزّق وانتهت بنا إلى الهاوية.
كلُّ القضايا الدقيقة والحسّاسة التي أثارها الإعلامي المحترف في خلال المقابلة، أجاب عليها طارق متري بدقّة هادئة وواقعيّة، فلمْ يتحايلْ على أيّ سؤال، ولم يلتفْ على أي لغم أو فَخ. على العكس، قال رأيه بتهذيبٍ راقٍ، من دون تجريحِ أو تهجّم، ولكن أيضاً من دون مسايرة أو محاولة استرضاء.
أعتقدُ أنّ هذا النهج هو ما نحتاجه اليوم في وطننا، بعد كلِّ ما حدث من ويلات وانهيارات قول الحقيقة من دون تجريح أو مواربة. ومجرّد إعلان الحقيقة هو نصف الطريق، إنْ لم يكن أكثر، للوصول إلى العلاج. وطارق متري، في باكورة مقابلات ما بعد التشكيل، ظهّر المعادلة التأسيسيّة التي أراد رئيس الحكومة، نوّاف سلام، العمل على هدْيها من خلال التشكيل الصعب الذي لم يكن من الممكن عبوره، لولا العقلانيّة الهادئة نفسها التي نرجو أن تنسحب على كل مواقف الوزراء الجدد وقراراتهم.
بطبيعة الحال يظلّ التفاؤل أفضل بكثير من اللامبالاة والتشاؤم اللذيْن تفشّتْ عدواهما بين اللبنانيين جميعاً بسبب أعمال معظم الحكومات السابقة. ويبقى لنا أن نحكمَ، من خلال أعمال الحكومة الجديدة وقراراتها، ما إذا كان التفاؤل في محلّه… وإلا فالارتماء مجدّداً في وحول التشاؤم يصبح الرياضة الوحيدة المُتاحة في المدينة…
لستُ أدري، وأنا أتابعُ المقابلة التلفزيونيّة المذكورة، كيف قفز بي الزمنُ إلى الوراء، ستين سنة أو أكثر قليلاً، فرأيتُ رفيقي على مقاعد الدراسة في معهد الفرير- طرابلس- طارق متري (ما غيره) يتدخّل لحلّ إشكال بين التلامذة، ونحن بعدُ فتيةٌ يافعون. يومها كنّا نلعبُ في استراحة الساعة العاشرة، لعبة الـ drapeau، وقوامها أن نضع منديلاً على عصا خشبيّة وسط الملعب. تلميذ من الفريق الأول يختطف المنديل، وعلى تلميذ من الفريق المنافس أن يلمس الخاطف قبل أن يتمكّن من الوصول إلى “مضارب” فريقه. وعندما استشرى الخلاف بين الفريقيْن، انبرى طارق للتهدئة والتحكيم، مقترحاً الحل المناسب لتستقيم معادلة اللعبة من جديد وتنتظم.
إنها بذور” العقلانيّة الهادئة” التي أيْنعتْ، بعد أكثر من ستين سنة، نائباً لرئيس مجلس الوزراء اسمه… طارق متري!