1. اقتبستُ التفريق بين أنواع أخلاق العمل من: J.A.M. van Wezel, Arbeidsmarkt beleid in de verzorgingsstaat, in: Arbeid, beroep en samenleving, 1980.
إتيكه فيدا (Iteke Weeda) (1943)، عالمة اجتماع هولندية، وبروفيسورة (سابقة) في مسائل تحرر النساء في جامعة خرونينغن. كتبت قرابة العشرين كتابًا، من بينها على ذِكر الحب (1986) الذي اقتطفنا منه هذه المقالة، وتمت ترجمتها عن اللغة الهولندية.
*****
لم يصبَّ علماء الاجتماع اهتمامهم على مسألة فروق السُلطة بين النساء والرجال، أي البنية الإيديولوجية للرجولة والأنوثة، والبناء الاجتماعي لعالَمَين أحدهُما للرجال والآخر للنساء. هذا التقصير مثير للاهتمام، لأن الأمر يخصّ مبدأً تنظيميًا للمجتمع في غاية الأهمية. ولكنه تقصير مفهوم في حال تذكرنا أن أغلبية علماء الاجتماع كانوا حتى الآن رجالًا، بحيث تمّت دراسة المجتمع من خلال خبرتهم الحياتية حصريًا. كما أن ثمة مصالح جوهرية تعمل على استمرار هذه اللامساواة بين الجنسين.
في الدوائر النِسوية، وبخاصة تلك المهتمّة بممارسة العلم، تمّ الاتفاق على أن المعاني الحالية للرجولة والأنوثة لا تتعلق بفروق طبيعية، وإنما ببنى زمانية ومكانية. كذلك اجتمعت النِسويات على أنه رغم المساواة الإيديولوجية بين الرجال والنساء في القرن العشرين، ما زالت الرجولة تتمتع بمرتبة أعلى من الأنوثة، مما ينعكس على السُلطة الاجتماعية والمكانة الاقتصادية. ولا أحد يجادل أننا بحاجة إلى تغيير اللّامساواة الحالية في السُلطة بين الجنسين، وهذا ما يُسمَّى بالمنظور النِسوي. وتكمن الفروق بين الرؤى النِسوية في الهدف النهائي المنشود، وسأتطرّق إلى ذلك لاحقًا.
فرضيتي التي أطمح إلى إثباتها في هذه المقالة هي أن الفروق في السُلطة بين الرجال والنساء تترسّخ من خلال أخلاق الحب التقليدية المنوطة بالنساء، والتي انتشرت إبان القرن العشرين في شرائح عريضة من المجتمع.
نشوء وتطبيق أخلاق الحب التقليدية المنوطة بالنساء
في القرون الماضية كانت منظومة الأفكار حول العلاقة بين الجنسين صريحة في انطلاقها من تفوّق الرجل على المرأة. وقد استمرّت هذه الإيديولوجيا زمنًا طويلًا، ورغم أنها غدت إيديولوجيا مُتخلِّفة، إلا أنها ما زالت مُستدمَجة وتمارس تأثيرها الهام. دونية النساء هي إحدى أطر الفهم المتجذّرة التي من خلالها يتم اختبار الواقع من قبل النساء والرجال.
من خلال الأبوية، التي تعني سيادة الأب الفعلية والرمزية على النساء والأطفال، حمل الأب المسؤولية المركزية. هو لا يستطيع التملّص من الواجبات المترافقة مع حقوق السيّد، فالمصالح والدوافع الاقتصادية في غاية الأهمية أثناء معركته مع قلق الوجود. ليس من خلال مبدأ «السُلطة والقوّة»، بل من خلال أساليب أكثر دقة تظلُّ النساء غير مستقلات اقتصاديًا وأخلاقيًا عن الرجال.
وقد تغيّرَ الأمر في القرن العشرين جرّاء تحسّن ظروف العيش، واستقلالية الأسرة، والفصل الاجتماعي بين السكن والعمل. مما ساعد على انتشار إيديولوجيا جديدة: الرجل والمرأة متساويان بالقيمة، ولكنهما مختلفان. لا يوجد أحدٌ أحسن من الآخر، أي انتهى التفوّق. وثمة صفات خلقية للنساء والرجال. الـ«رجولة» رمز العقلانية والإبداع والإرادة والعمل والنشاطية والغزو؛ والـ«الأنوثة» رمز الفطرة والعاطفة والعناية والتلقي والانتظار و الرابطة الأزلية مع الطبيعة. الرجل والمرأة مُكمّلان لبعضهما بعضًا، وأحدهما يحتاج إلى الآخر. ورغم أن إيديولوجيا تكامل الرجل والمرأة تُفضي إلى عدم مساواة نفسية وعلائقية ومجتمعية، إلا أنه يمكن فهم جاذبيتها من خلال التطورات الاجتماعية الجديدة في العلاقة مع التاريخ الطويل للتفوّق الذكوري. ذلك أنه لن يتمّ التخلّي بسهولة عن تقاليد اللّامساواة المتجذّرة والسُلطة غير المتكافئة. لذلك صرنا بحاجة إلى شبكة دقيقة من التعاليم المعيارية التي تحافظ على المساواة الإيديولوجية إلى جانب اللّامساواة الفعلية بين الرجال والنساء.
والتطوّر الذي جاء بعد ذلك هو الفصل الجديد في العالم الصناعي، أي الفصل بين الحياة «الأولية» والحياة «الثانوية»: حياة الأسرة مقابل العمل، والخاصّ مقابل العام، والأمان مقابل الرسمي. ويتماشى هذا الفصل مع الفصل بين «الأنوثة» و«الرجولة». وفي عملية تطورٍ متوازية، نمت المنظومتان الفكريتان جنبًا إلى جنب. الرجل يستمد هوّيته بالدرجة الأولى من العمل، أما المرأة فمن الحياة الأُسرية. وقد اشتغلَ علماء الاجتماع بالبحث في أسباب نشوء الرأسمالية ومجال العمل المأجور، وميّزوا أخلاق العمل التقليدية 1 التي تدعم طموح الرأسمالية إلى الربح وترتكز على البروتستانتية الكالفينية. وتنطوي أخلاق العمل على موقف ضميري من العمل المهني. والواجب المهني هو القاعدة الحياتية الجوهرية بالنسبة للثقافة الرأسمالية. ينبغي على الفرد أن يشعر أن العمل واجبٌ عليه من دون التوقف عند مَعناه لحياته الشخصية. كما يتمّ تقييم العطالة بطريقة سلبية جدًا، وعلى الفرد أن يفعل ما بوسعه كي يتجنب ذلك. ورغم الحديث عن «الفرد»، ورغم أن مفهوم أخلاق العمل حيادي، فمن الواضح أن أخلاق العمل المُتعارَف عليها في القرن العشرين تخصُّ الرجال. إذ يُعتبَر واجب العمل من الأمور البدهية للرجال، ولكنه كلمة «قذرة» بالنسبة للنساء. وإن لم يكن الأمر كذلك، فهذا يعني أن التقسيم بين «الرجولة» و«الأنوثة» لم يؤدِّ وظيفته. ولا بدّ أن يكون لواجب العمل المنوط بالرجال مقابلٌ منطقي: واجب الحب، أو أخلاق الحب للنساء كمقابلٍ لأخلاق العمل للرجال.
وبدورها تَدعمُ أخلاقُ الحب التقليدية الطموحَ إلى الربح والمَصالح الاقتصادية. فإذا كانت تتغذى على على الكالفينية أيضًا، فلا بد أن أفكار كالفين قد ساهمت في استمرار امتهان ظاهرة المرأة وكل شيء يتعلّق بحياتها. ونجد كذلك أرضية خصبة لأخلاق الحبّ التقليدية عند روسو، ذلك المفكّر الذي لا يشتهر بتقديره للنساء. ففي القرن الثامن عشر، رَوّجَ للأمومة على أنها القَدَر الطبيعي للمرأة، واعتَبرَ حُبَّ الأم من الأمور البدهية. ذلك أن الشيء الوحيد الذي تُقدَّر عليه النساء، في رأيه، هو بذل الذات في حبّ الرجل وخدمته. بالإضافة إلى أخلاق العمل الكالفينية، يمكننا التحدث عن أخلاق الحب الروسووية. فأخلاق الحب هذه تنطوي مثل أخلاق العمل على مفهوم ضميري حول الحب. واجبُ الحب هو القاعدة الحياتية الأخلاقية، وتحت واجب الحب تختفي مصالح اقتصادية جوهرية. ينبغي على المرأة أن تشعر أيضًا بواجب الحب عليها، وليس مهمًا في هذا الصدد أن يَنتُجَ عن ذلك الحب أي معنىً شخصي. كما يُعتبَر فقدان الحب أمراً في غاية السلبية، فالمطلوب أن تُقمَع مشاعر الكره حيال الرجل والطفل، ويتم تجنّب الشجارات. وهكذا أصبح الحفاظ على التناغم من ضمن واجبات الحب الواقعة على عاتق النساء. الفرق مع واجب العمل، هو أن واجب الحب لا يرتبط بجدول زمني معين. ينبغي أن يكون الحب موجودًا دائمًا.
هذه هي أخلاق الحب التقليدية التي تم استدماجُها بشكل كبير. هي صلة الوصل الأساسية في البنية التي تجمع بين إيديولوجيا المساواة التكامُلية بين الرجل والمرأة من ناحية، واللّامساواة الفعلية وفروق السلطة من ناحية ثانية. وبهذه الطريقة تتم تلبية مصالح الرجال الاقتصادية والأخلاقية. ويقوم كلٌّ من واجب العمل وواجب الحب بتكملة أحدهما للآخر. يَمنحُ العملُ حقَّ الأجر ويتطلّبُ التعليمَ في مدرسة. أما الحب، فلا يُقدَّر بثمن ويمكن تَعلُّم عمل الحب الذي اسمه «العناية» من الأم في المنزل. وبينما يرفع الراتب من مكانة الرجل، تستمد المرأة مكانتها من التقدير والتقييم اللّذين يُمنحان لمهام الحب التي تنفذها. وقد بقيت تلك البنية قائمة لزمن طويل، بحيث صارت الأسرة التي تقسّم الأدوار تقليديًا هي حجر زاوية المجتمع. وقد حافظت على متانة بنيتها طالما أن الهدف الأول هو رفع مستوى الازدهار في المجتمع. ولكن حالما بلغ المجتمع مستوى ازدهار غير مسبوق، وقامت الأجيال القادمة بنكث الاتفاق وصاغت أهدافًا جديدة، بدأت تلك البنية بالتآكل.
لا يمكن للعِلم من منظور نِسوي أن يهتم كفاية بمسألة الحفاظ على تشابك المساواة الإيديولوجية واللّامساواة الفعلية بين النساء والرجال. فهذا ما يحدّد النقاش والبدهيات ويُبقي الجنسين في حَبسِهما. لذلك اخترتُ أن أُركزّ على أخلاقيات الحب التقليدية المنوطة بالنساء، كأحد أهم التبريرات لاختلال موازين السُلطة الحالي.
السؤال المهم هو كيف يتماشى واجب الحب على النساء مع أمثولة الحب الرومانسي والمتبادل بين الرجل والمرأة؟ فعبر طريقين مختلفين يصبح محتوى هذه التبادلية مختلفًا بالنسبة للمرأة والرجل. يحصل ذلك أولًا من خلال التوافق البدهي المبني على الممارسة العَلنية لتفوُّق الرجال. الأمر أشبه بالدين. الله هو الحب، هذه بدهية؛ وينبغي على الإنسان أن يحبّ الله، وأن يُثبت حُبَّه يوميًا. والرجل يرمز منذ القدم إلى الإلهي والخلّاق والمتعالي؛ والمرأة ترمز للأرضي والطبيعي. وعلمانيًا، الرجل كرمز لـ«الإلهي» هو الحب (بدَهِية)، بينما ينبغي على المرأة أن تمنح الحب يوميًا وتقدم الدلائل على حبها. وهكذا يصبح ممكنًا أن تُعلن الإيديولوجيا عن التبادلية في الحب بين الرجل والمرأة، بينما يقع واجب الحب على النساء. فضلًا عن أن الرجل يثبت حبه بطريقة مادية من خلال واجبه الأول: كسب قوت العيش من أجل الأسرة.
وهناك وسيلة ثانية تُشرعِنُ اللّامساواة في الحب بين الرجل والمرأة، وتحافظ على الفروق في السلطة. يحصل ذلك حين نعتبر الحب لغزًا، فيصبح جوهره أنه غير عقلاني، وغير قابل للتسمية. ويغدو إحساسًا موجهًا إلى ذلك المحبوب الفريد، فيحل المشاكلَ تلقائيًا، الحب الحقيقي يدوم «أبدًا». في حقيقة الأمر، مَأسسةُ ضبابيةِ الحب هي التي جعلته عُرضةً لممارسة السُلطة. باسم الحب تُطالَب المرأة بالكثير، ذلك أن الحب هو هدف حياتها. الحب لغزٌ بتعاليم واضحة، ويُفضي إلى تفاعل عاطفي وجنسي طيلة الحياة مع شخص واحد حصريًا. هذه اللُّغزية والمأسسة هي التي جعلته غير حر.
وبالطريقة نفسها يتمّ الحفاظ على تقليد قديم آخر، حيث يُبجَّل الحبُ اللغزُ ويُحتَقَر في آن. هذا التقسيم أثّرَ على النساء على عدة أصعدة. ففي الفنون الجميلة على سبيل المثال، يتم تكريم المرأة، بل عبادتها (القديسة)، ولكن من ناحية ثانية يتم ربطها بالسيىء والفاسد والشيطاني (الساحرة). وقد كان لهذا التقسيم أثره على الحب أيضًا. العالم يدور حول الحب، غير أن المجال العام والاقتصاد يجب ألّا ينشغلا بشيء غير عقلاني كهذا. وهكذا تتحول مهام الحب إلى مَملكة النساء.
وقد اتفق علماء الاجتماع الأُسري والمؤرخون إلى حدٍ كبير على أن العاطفة ضمن الأسرة حازت في القرون الأخيرة على حيزٍ أوسع. إيديولوجيا الأمومة وإيديولوجيا الحب بين الرجل والمرأة هما الأساس الذي تمّ البناء عليه. كما أن شروط تلك العاطفة يُحددها الحب الأمومي. ويمكن وصف الحب الأمومي في هذا المضمار بأنه ذلك الاهتمام غير المشروط والشامل الذي تمنحه الأم لطفلها الذي وَلدته بنفسها. إن الإيديولوجيا، والتطبيق غير المكتمل من حيث المبدأ للعلاقة الحصرية والحميمية جدًا وغير القابلة للزوال بين الأم وطفلها، يؤسِّسان للحاجة العميقة إلى الطمأنينة لدى شريك واحد مدى الحياة. وفي الحالتين يتمّ التركيز على الأمان والثقة والطمأنينة. وبما أن الإيديولوجيا السائدة تُلوِّنُ التجارب الشخصية، فليس نادرًا أن يضع الأشخاص الذين افتقدوا الحب الأمومي جُلّ طاقتهم في البحث عن الطمأنينة الشاملة. وقد بيّنت النظريات التحليلنفسية من منظور نِسوي كيف أن تلك العلاقة مع الأم تختلف بالنسبة للبنات مقارنة مع الصبيان. إذ لا تحتاج البنت مثل الصبي أن تقطع نهائيًا مع العلاقة الانصهارية التي تربطها بالأم، فتحتفظ بمقدرتها على إنشاء علاقات عاطفية. فضلًا عن أن التأثيرات المجتمعية موجهة بهدف إحالة العاطفة إلى النساء حصريًا.
والمهم في هذا السياق أن الإيديولوجيا السائدة تُعلّم البنات منذ ولادتهنّ أن من واجبهنّ منح الحب حالما يكبرنَ، في حين يستدمِجُ الصبيان حقهم بتلقي الحب. تتعلم البنت أن الاستسلام لحبّ الأم أمر جيد، بينما يتعلم الولد أن يحذر من هذا الاستسلام، لأن عملًا مختلفًا عن الحب ينتظره في آخر المطاف. وفي حالات العشق، والحب الذي يليه، يحق للفتاة اليافعة أن تستعرض تسليمها بشكل كامل. أما بالنسبة للولد، فالإيديولوجيا السائدة تُملي عليه أن العملَ أهمُّ من الحبيبة. وبينما نُبجّل مقولة من قبيل «نساء عاشقات»، نعجز عن تصور «رجال عشّاق». كما نرى أن «روايات عبير»، التي لا تُؤخذ على محمل الجد، مخصصة للبنات. والصبيان لديهم مجلاتهم الإباحية. الرجل العاشق يطمح إلى الإثارة الجنسية بالدرجة الأولى وإلى إمكانية تلقي الحب، أي أن يكون الشخص المُختار لامرأة واحدة.
وبينما كان حبّ المقرّبين يتمتع قبلًا بقيمة كبيرة ذات مكون اقتصادي (العناية بالمرضى والفقراء)، صار الآن ذا قيمة صغرى. نتكلم هنا عن نَفسَنة الحب. غير أن الحب بين الأم والطفل، وبين الرجل والمرأة، الذي لا يمكن التعبير عنه اقتصاديًا بحسب الإيديولوجيا القائلة باللاعقلانية واللغزية، يحمل في حقيقة الأمر معانٍ اقتصادية كبيرة. كما أن أحد أسباب فشل النظريات الاقتصادية هو عدم أشكلة الحب. نحن لا ندرك السمات العقلانية والمهارات المرتبطة بالعمل المبذول. ومن هنا تأتي المكانة المركزية للخبرة المكتسبة من خلال التعليم، وإهمال أهمية الخبرة المكتسبة من خلال التربية.
ويظهر المعنى الاقتصادي للحب الضبابي المُنفسَن بين المرأة والرجل، الذي يُحيل واجبَ الحب إلى النساء، بشكل مباشر من خلال العمل المرتبط به. إنه واجب الحب على الأم وربة المنزل في حيّز البيت المعزول. يُمنَح كحب، وهو لذلك غير مأجور. تمنحه النساء على شكل عناية وإحساس بالبيتوتية. ليس عملُ الحب مُدرَجًا كفاية في النظريات الاقتصادية، بحيث لا يأخذ التفاعل بين القطاع المأجور وغير المأجور حقه.
ويمكن تفسير مكانة المرأة السيئة في سوق العمل جزئيًا من خلال واجب الحب المُستدمَج لديها. وهكذا تكون «متواطئة» بشكل من الأشكال مع العملية ككل. ترضى النساء بمال وضمانات أقل، أو بالأحرى لا يعترضنَ كثيرًا على ذلك. كما يبحثنَ عن القطاع «الناعم» الأقلّ أجرًا، والذي يتناسب مع «أنوثتهنّ»، أو يسمحنَ بدفعهنّ في ذلك الاتجاه. كما يقبلنَ بضعف جودة العمل، أو لا يُكافحنَ كفاية من أجل جودة أفضل. ذلك أن هذا العمل المأجور ليس هدفهنّ الأول في الحياة، بل إنه الحب ومهام الحب.
ويتعلق واجب الحب المنوط بالنساء، وبنية الحب في المجال الخاص، بشكل مباشر بفقر النساء. ثمة فقر «ذاتي»، لأن المال الذي تستخدمه المرأة لا تملكه بنفسها، مما يؤثر بطريقة غير واعية على تقديرها لنفسها وتَعامُلها مع المال. يبقى الأمر مُستتِرًا، لأن إيديولوجيا الحب المتبادل تزعم بأن مال الرجل هو مال المرأة. ولكنه يظهر حالما تُقصّر المرأة في واجب الحب، لأن كثيرًا من الرجال لن ينسوا التذكير بأنهم هم الذين يكسبون المال. ويصبح الأمر واضحًا حين تُنهي المرأة واجب الحب. لأنها بعد الطلاق سرعان ما ستقع في فقر موضوعي بسبب اضطرارها إلى العناية بالأطفال بمفردها. وتستمر الزيجات السيئة خوفًا من الفقر، فتُواصل المرأة سعيها في تنفيذ واجب الحب، مما يُفضي إلى ترسيخ الأدوار المكمِّلة بين الجنسين. أما إذا أرادت درجة أكبر من الحرية، فستضطر إلى دفع الثمن بعيشة فقيرة.
وفي هذا السياق نتحدّث عن تأنيث الفقر. المصطلح بحد ذاته ليس موفقًا، فهو يمنح الأنوثة وقعًا سلبيًا، بينما النِسوية معنية بالكفاح من أجل مكانة مادية أفضل للنساء. تأنيث الثقافة لا تعني مزيدًا من النساء، وإنما مزيدًا من «الأنوثة»، حتى بين الرجال. لذلك يُفضَّل ألَّا نتحدّثَ عن تأنيث الفقر، بل عن فقر الأمهات، لأننا بذلك نُسائل العلاقة الوثيقة بين الفقر ومفهوم الأمومة الرائج في القرن العشرين.
وهنا يطرح مصطلح «دولة الرفاه» نفسه ضمن تشابك كامل بين الرفاه وأخلاق العمل المنوطة بالرجال وأخلاق الحب المنوطة بالنساء. إنه شكلٌ من أشكال الحكم الذي يضمن رفاه المواطنين عبر منظومة واسعة من الخدمات والقوانين الاجتماعية. إلا أن الكلمة تَشي عن غير قصد بكيفية تنظيم العالم في الواقع، ذلك أن ما يُسمّى بدولة الرفاه يعتمد بشكل أساسي على النساء اللواتي يقدّمنَ الرعاية النابعةَ عن واجب الحب غير المأجور. تلك الرعاية ليست في يد الدولة الأب، وإنما في يد المرأة الأم. وهكذا يُحوِّلُ كلٌّ من الاستدماج والبدَهيات، جنبًا إلى جنب مع القوانين المجتمع-اقتصادية، واجبَ العناية والحب المنوط بالنساء إلى «قانون اجتماعي».
وهكذا تُوزَّع المهام الاجتماعية والمنزلية والدخل المادي والسلطة عبر أخلاق العمل التقليدية المنوطة بالرجال وأخلاق الحب التقليدية المنوطة بالنساء. ولكن واجب العمل على الرجال لا يعني أن النساء يعملنَ بلا أجر. هنّ يفعلن ذلك، ولكن هذه ليست مهمتهنّ الأولى. حيث أنهن يستمددنَ هويتهن من واجب الحب وعمل الحب اللّذين ينبغي ألا يتأثرا سلبًا بمهنة يُزاولنها. كما أن واجب الحب على النساء لا يعني أن الرجال لا يقومون بعمل الحب في الواقع. هم قادرون على ذلك، إلا أنهم يستمدّون هويتهم الأولى من العمل المأجور. فضلًا عن اختلاف الشروط المفروضة على تعبيرات الرجال عن الحب، إذ لا يتم التركيز على التضحية في الحب.
ليست البشرية مجرد تقسيم بين نساء ورجال، وإنما هي تعددية على أساس القومية والمَيل الجنسي والسن والطبقة والمنطقة والقناعات الفكرية وما شابه. هناك اختلاف كبير فيما بين النساء أنفسهنّ، وهذه الاختلافات تحدد أيضًا طبيعة موازين السلطة والآليات التي تدعمها. لذلك قد تختلف استراتيجيات التغيير بين مجموعات النساء. من المهم الإضاءة على هذه الاختلافات وفحصها، ولكن في الوقت نفسه من الضروري البحث في الأمور التي تُوحِّد النساء. هل ينطبق واجب الحب إيديولوجيًا على جميع النساء اللواتي تم تأهيلهنّ الاجتماعي ضمن ثقافتنا الغربية الصناعية؟ للإجابة على هذا السؤال بحثتُ عن تعريف لواجب العمل، ووجدت ما افترضه فان زوتِم في كتابه الناس والسلطة في الحياة الاقتصادية (1984): «تُملي أخلاقُ العمل أن الناس (أو بالأحرى الرجال [الكاتبة]) يحتاجون أن يعملوا من أجل قوت عيشهم (على افتراض أن العمل موجود)». هذا يعني أن واجبَ العمل لا يسقط عن الرجال إلّا في حال المرض أو عدم وجود العمل. وبالتوازي يُمكننا الافتراض أن واجب الحب لا يسقط عن النساء جزئيًا أو كليًا إلا في حال الاعتماد الكامل على الآخرين أو العجز أو غياب الزوج والأطفال. ولكن في هذه الحالة سيبقى هناك الضغط الاجتماعي على المرأة كي تبحث عن شريك، كما سيكون هناك ضغط على الرجل العاطل عن العمل أن يبحث بجدية عن عمل. وواجب الحب لا يزول في العلاقات المثلية بين النساء، إلا أن مفعوله مختلف جرّاء التبادُلية.
ورغم أن وعي النساء يرتفع، ورغم أن أخلاقًا جديدة للحب تتطور (سأتطرق إلى ذلك لاحقًا)، إلا أني أرى أن تأثيرات أخلاق الحب التقليدية ما زالت في أوجها. يلوّنُ واجبُ الحب جميع مهام النساء الأخرى، وما زالت إنجازاتهنّ تُحاكَم على ضوء تنفيذهنّ لواجب الحب.
الوسائل والآليات التي تُكرس أو تُغيّر أخلاق الحب التقليدية
نوّهتُ قبل قليل إلى أن مؤسسة الأمومة تلعب دورًا جوهريًا في الحفاظ على إيديولوجيات مجتمعية هامة. وعبر الأمومة أيضًا تُنقَل القواعد الجامدة بخصوص الحب. ثمة تشابكٌ معقد على عدة مستويات: النفسي والعلائقي والبنيوي. وغالبًا لا يكون هذا التشابك واضحًا كفاية أثناء البحث. وقد صارت النساء ضحايا «راغبة» للهيمنة والظلم من خلال الاستدماج القوي لواجب الحب، والإحساس بالذنب المرافق للتخلي المزعوم عنه، وعدم استقلالهنّ المادي. يُقال إن النساء يتخذنَ خياراتهنّ بحرية على أساس واجب الحب. رغم كل الحراك وارتفاع الوعي لدى النساء، إلا أن واجب الحب يظلّ من الآليات الهامة التي تُبقي على النساء تحت السيطرة. وقد أوضحت البحوث التي تتبنى المنظور النِسوي أن هناك طرقًا مختلفة يتم من خلالها تكريس السلطة (اللامرئية) ضمن العلاقات. على سبيل المثال، لدينا البحث الذي قامت به كومتر (1985): سلطة البداهة. واجبُ الحب، المُبخس قيمته من ناحية، والمُفرط بالثناء عليه من ناحية أخرى، يجعل النساءَ يرفعن من قيمة شركائهنّ الرجال على جميع الأصعدة إلى السماء، بغض النظر عمّا إذا كان الأمر يتعلق بصفات «ذكرية» أو «أنثوية». مما يؤدي إلى الحفاظ على الأحاسيس المتوارثة عن أجدادنا: إحساس الرجال بالعظمة وإحساس النساء بالدونية.
يُستسهل استخدام مفهوم «الحب» كوسيلة للحفاظ على البنى والتصورات الموجودة حول النساء والرجال. ويتم تكريسه إلى حدٍ بعيد حتى في السياسة، فتُهاجَم الاستقلالية الاقتصادية باسم الحب. ويُقال إن ذلك سوف يؤدي إلى انعدام الحب بين الناس وإيذاء مصالح الطفل. كما يتم ربط الأمر بواجب الحب الأمومي مباشرة. هذه أسلحة فتاكة في الصراع ضد التغيير. لا يوجد أسهل من مطالبة المرأة بمزيد من الحب، الأمر يشبه مطالبة الرجل أن يكون قويًا (على الصعيد المجتمعي).
ونلاحظ أن كثيرًا من الوسائل والآليات، التي تُستخدم للحفاظ على فروق السلطة وعلى أخلاق الحب حسب روسو، تسير بالتوازي مع الحدود المُتخيَّلة والمعيارية بين المجال الخاص والمجال العام. حيث يعبّر إنكار تضافر المجالين عن بنية إيديولوجية تمارس سلطة كبيرة. وهكذا يمكننا فهم التشديد على أهمية عدم تجاوز حدود المجال الخاص من قبل الدولة، على أنه محاولة للحفاظ على عدم المساواة بين الرجال والنساء. يتعلق الأمر بفكرة شائعة جدًا – أداة سلطوية بامتياز – وبخدعة لافتة، ولكنها فعّالة جدًا. ذلك أن الدولة تتدخل سلفًا بشتى الطرق في الحياة الأسرية، إما عن طريق العرض أو غياب عروض معينة: بيت الأسرة، توفير الخدمات للمسنّين والمسنّات، قانون الدخل المزدوج للأسرة، مواعيد المدارس، الخدمات الصحية، وإلى آخره. يُقال إن الوالدَين هما المسؤولان الأساسيان عن أطفالهما، بينما يُحدد المجتمع إلزامية التعليم. وينطبق ذلك على فترة الحضانة أيضًا، حيث لا توجد عروض يمكن للوالدين استخدامها طوعًا. الحجة المتواترة التي تبرر عدم وجود الحضانات هي أنه لا ينبغي على الدولة أن تتدخل في مسؤولية الوالدين الأساسية. تُقدَّم هذه الحجة بشكل عقلاني، غير أنها كذبة معقدة تسيطر على حيوات الأمهات، فتبعدهنَّ عن العمل المأجور. وتصبح الأمومة مهمة تستنفذ اليوم بأكمله جرّاء مواعيد مدرسة غير الملائمة، والنقص في الحضانات خارج مواعيد المدرسة، وعدم توفر الدوام الجزئي للآباء. بهذه الطريقة تتدخل الدولة في المجال الخاص.
نتوقع أن تتشكل بوادر أخلاق عمل وأخلاق حب جديدة حالما تتحطم التقسيمات الإيديولوجية بين الخاص والعام. ولا يحتاج الأمر إلى العمل على «اقتصاد الوظيفة العاطفية» فقط (مولينبيلت، 1975)، بل على تحليل «الوظيفة العاطفية للاقتصاد» من منظور نِسوي أيضًا. من الناحية الإيديولوجية تتنافر مصطلحات كالحب والمهارة المهنية، وكذلك مفاهيم كالعاطفة وإدارة الأعمال. وعمليًا ثمة منافسة ضمن العوائل وبين ربات البيوت، وثمة مشاركة عاطفية ولاعقلانية في ميدان العمل. ويستمر ذلك التقسيم الإيديولوجي بتحديد طريقة التفكير، فيوفِّر بذلك ترميزات للسلوك ويُلوِّن الإحساس بالتجارب ويسمّيها.
وتُمثل إعادة إنتاج «الأنوثة» و«الرجولة» عبر الأمومة والتأهيل الاجتماعي عامل الاستقرار. بينما يتشكل عامل الديناميكية من خلال ظواهر «جديدة»، كالطلاق والبطالة عن العمل. غير أن العاملَين مرتبطان فيما بينهما، لأن التركيز الشديد على عاطفة الأم، وعلى العلاقة الاستثنائية بين الطفل وأمه، وعلى أهمية تواجدها الدائم – كما كان شائعًا في الخمسينات – من الأسباب التي أدت إلى ارتفاع نسبة الطلاق في السبعينات والثمانينات. كما أن التوقعات العاطفية من علاقة الشراكة مرتفعة جدًا إلى درجة تجعل خيبة الأمل والانفصال أمرًا مطروحًا. كما يتعلق الطلاق بصعود أخلاق الحب الإنسانوية الجديدة في السبعينات، وبتحسين الخدمات الاجتماعية (للنساء المُطلّقات أيضًا)، المترافق إلى حدِ كبير بأخلاق عمل إنسانوية جديدة.
ويؤدي الصراع داخل العلاقات – توقعات النساء الجديدة بخصوص تبادلية الأحاسيس والمشاعر والاهتمام والتفهم – إلى تغييرات في إيديولوجيا الأمومة وإلى الطلاق. تتخلخل أخلاق الحب التقليدية المَنوطة بالنساء وأخلاق العمل التقليدية المَنوطة بالرجال، فتتفاقم ظاهرتَا البطالة والطلاق. وتتوجه النساء إلى سوق العمل واعيات بقدراتهنّ وغير قانعات بأن يكنّ مجرد قوى احتياطية، فيحتللنَ شواغر العمل. كما يتملّصنَ بالطلاق من واجب حب الرجل. وقد تكشّف كم كان عامل الحب، بمعنى التفهم والاهتمام والحنان، مركزيًا ضمن دوافع الطلاق. مبادرة النساء في الطلاق نابعة في أغلب الأحيان من رفضهنّ الجديد لواجب الحب الأحادي في العلاقة مع الشريك. ولكن الناس لا يتجاوزون الخط المتخيل الفاصل بين الخاص والعام في أثناء الدفاع عن أسباب الطلاق، بل يبحثون عن الحجج داخل العلاقة. فيُلقى الذنب على الآخر وليس على التأثيرات والتطورات المجتمعية.
إن بطالة الرجال والطلاق ظاهرتان تُصدِّعان أخلاق العمل التقليدية المَنوطة بالرجال وأخلاق الحب التقليدية المنوطة بالنساء. لذلك لا عجب أن يتم رفضهما في مجتمع تسود فيه تلك النظم الأخلاقية الحريصة على الحفاظ على عدم المساواة بين النساء والرجال. البطالة والطلاق يشكلان تهديدًا مباشرًا للتوازنات الأبوية. من ناحية يفقد الرجال وظيفة كسب المال، فينقصُ تأثيرهم داخل العلاقة مقارنة مع النساء. فضلًا عن أنهم صاروا أقل قدرة على ربط هويتهم منذ سن مبكرة بمهنة معينة (يمارسونها مستقبلًا). ومن ناحية ثانية تكتشف النساء أنهنَّ قادرات على إدارة الأسرة بمفردهنّ، من دون أن يضطررنَ إلى إرضاء الرجل من خلال خدمته. كما يصبح توجه النساء إلى سوق العمل أكثر سهولة بعد الطلاق، حيث تجد قرابة ثلث النساء وظيفة (بدوام جزئي) خلال سنتين بعد الطلاق، وثلث كنّ يعملنَ أثناء زواجهنّ، وثلث يبقين ربات بيوت أو عاطلات عن العمل. وتتضح اللامساواة بين الرجل والمرأة بعد الطلاق: فقر النساء لأن عملهنّ غير مأجور، وعدم قدرة الرجال على العناية والحميمية. كما يتبين بعد الطلاق أن الرجال يعتبرون عملهم الاقتصادي نوعًا من حب الأسرة، حيث يستمدّون منها حماسهم إلى العمل، وينسحب ذلك بخاصة على الرجال ذوي الوظائف المتدنية. حين تنهار أسرتهم، يقول كثير من الرجال المطلقين: «أنا لِمن أعمل؟» . هكذا يعبّر الرجال بشكل غير واعٍ عن الترابط المعقد بين أخلاق العمل التقليدية المنوطة بالرجال وأخلاق الحب التقليدية المنوطة بالنساء.
رغم الألم بالنسبة للمعنيين، إلا أنه يمكننا النظر إلى ظاهرتَي الطلاق والبطالة عن العمل سوسيولوجيًا كمَدخلين هامَين إلى تغيرات اجتماعية نسوية. حيث يتصدع الفصل بين العمل المأجور وغير المأجور، ومعه أخلاق الحب والعمل التقليدية، سوف تنشأ أشكال جديدة في عملية تحوّل صعبة.
دور العلم الإثباتي
لقد ترافقَ تقلصُّ سلطة الدين ودوره الاجتماعي مع تزايد سلطة العلم ودوره الاجتماعي. وشيئًا فشيئًا استلمَ العلمُ من الدين وظيفة المؤسسة التوجيهية التي تحدد ما هو السلوك الصحيح، وراح يشرعن الواقع العملي. وهكذا انضوت أخلاق الحب المنوطة بالنساء تحت جناح العلم. العلم سلطة، سلطة على الأمهات اللواتي يربين أطفالهنّ، وسلطة على النساء ضمن علاقاتهنّ العاطفية. كما تغيّرَ دور الرقيب الاجتماعي، فعوضًا عن الأوامر السماوية، باتت الأوامر تأتي في جُملٍ من قبيل «أثبت العلم أن…». وصرنا نحدد الانحراف من خلال الأرقام القادرة وحدها على معرفة ما هو «الطبيعي»، مما سيعيقُ التغيُّر. وصار للعلم أثر توجيهي على السياسات والإعلام والعقلية. إلا أنه لم يكن قوة قائمة بذاتها، فالبحوث والاستنتاجات تظلّ تحت تأثير الإيديولوجيات المجتمعية الناشئة والسائدة.
إن دونية المرأة فرضية أساسية مترسخة تُلوِّنُ المشروع العلمي بأسره. ويحصل ذلك، أولًا، من خلال «إبعاد» النساء عن الوظائف العلمية المأجورة. لا يتم ذلك بشكل صريح كما كان سائدًا لدى «سَلَفه» الدين، إلا أن تركيز العلم الكبير على العقلانية يعطي المفعول نفسه. ويحصل ذلك، ثانيًا، من خلال إقصاء النساء و«الأنوثة» عبر اختيار مواضيع البحث والنظريات والتحليلات والتأويلات. لذلك كان العمل من الثيمات المُفضَّلة لدى علماء المجتمع. فهم يدرسون المجتمع، أو بالأحرى ما يُعتبر عالَمَ الرجال. وغالبًا ما يتم التعامل مع العمل بطريقة جنسوية، حيث يُفترَض أن النظريات والتحليلات تتناول البشر بالعموم، إلا أنها تدور بشكل أساسي حول الرجال. وفي حال تمت دراسة العلاقات والأسرة، فلن تؤشكَلَ أخلاقُ الحب التقليدية المَنوطة بالنساء، ولن يتم ربطها باللّامساواة وفروق السلطة بين الرجال والنساء. فعلماءُ المجتمع الذين درسوا فروق السلطة الفعلية بين المتزوجين والمتزوجات في بداية الستينات، استنتجوا أن ثمة مساواة في العلاقات في أميركا. كما استُخدِمت نتائج البحوث الاجتماعية بغرض دعم إيديولوجيا التكامل بين الرجال والنساء. أنا أتكلّمُ عن تجربة، فقد كنتُ أفعل ذلك بنفسي (انظروا بحثي في 1985).
وقد شرعنَ العلم ذلك التركيز الشديد على الحب الأمومي المُضحّي وغير المشروط، أي واجب الحب المنوط بالنساء (بوتس وفرهاين، 1983). فاستنتجَ جميع العلماء بلا استثناء أن الحب الأمومي والاهتمام لا غنى عنهما من أجل نمو الأطفال الجسدي والعقلي والعاطفي. ووصلت هذه الرؤية المدعومة بالعلم إلى مستويات غير مسبوقة في الخمسينات. وكان «المكتشف» روسو قد طرح في القرن الثامن عشر تفسيرًا بيولوجيًا لكون الأمومة هي المصير الطبيعي للمرأة لكي تعيش من أجل أبنائها وزوجها وفي خدمة مصالحهم. كما عليها أن تُعلِّمَ بناتها هذه الأمور. يمكننا اعتبار هذه الرؤية متمركزة حول الرجل، لأنها تمنح مصالح الرجل مكانة خاصة. أما فرويد، فقد رأى لاحقًا أن الأمومة هي التعويض البدهي لفقدان المرأة للعضو الذكري. وهكذا صارت للأمومة وظيفةٌ نفسيةٌ بالنسبة للنساء، وغدت مؤشرًا لتطورٍ ناجح لديهنّ. ونظرًا للتأكيد على مصلحة النساء هنا، يمكننا اعتبار هذه الرؤية متمركزة حول المرأة. وفي بداية الخمسينات طرح بولبي، عالم النفس التطورّي، نظرية التعلُّق. وحسب تلك النظرية، فإن النمو الصحي للطفل مرتبط بنشوء حالة تعلّق مثالية مع الأم، مما يتطلب تواجدها وعنايتها الدائمين. نرى أن الأولوية هنا لمصلحة الطفل، لذلك يمكن اعتبار هذه الرؤية متمركزة حول الطفل. وفي الفترة نفسها افترضَ عالمُ الاجتماع بارسونس أن وظيفة الأم التعبيرية تقوم بحماية استقرار المجتمع. الهمّ الأول هنا هو الحفاظ على النظام المجتمعي، ويمكننا اعتبار هذه الرؤية متمركزة حول المجتمع. وفي النهاية قام عالم التربية سبوك بعرض نظريات التربية المختلفة بشكل مُبسَّط على الجمهور الكبير، وقد تبنى كتابه رؤية متمركزة حول التربية. نحتاج إلى كثير من «شغل النساء» كي نغير نتائج هذه التأثيرات على واجب الحب على النساء حصريًا.
وقد أُحيلت النظريات والبحوث العلمية حول الحب إلى علم النفس وعلم التربية، أي إلى المجالات التي تَدرسُ «المجال الخاص». أما علماء الاجتماع والاقتصاد الذين يعتبرون «المجال العام» ميدانًا لدراستهم، فنادرًا ما كانوا يلتفتون إلى التأثير (المُقيِّد للحرية) لأخلاق الحب المنوطة بالنساء في القرن العشرين. بل راحوا يدرسون مكانة النساء في سوق العمل من منظور العرض والطلب، والاستثمار في الفرد عبر التعليم، ووظائف الدرجة الأولى ووظائف الدرجة الثانية، والنساء كجيش من العاملات الاحتياطيات. وهكذا قُدِّس الفصل بين المجال الخاص والمجال العام، ولم يتطرق أحد إلى واجب الحب. ولم يتم تحليل العلاقة بين الأوضاع والتطورات الاقتصادية من ناحية، والاهتمام المتزايد بالحب الأمومي في الخمسينات من ناحية أخرى. ولم يحصل تغيير جذري في تحليل العمل والزواج والأسرة، إلا بعد أن انطلقت الدراسات النسوية والبحوث التحررية. فبدأ تحليل الغيرية الجنسية والزواج وإيديولوجيا الأمومة من خلال تأثيرها على موازين السلطة بين الجنسين. وقد هدّدت النتائجُ توازنَ إيديولوجيا تدمج بين التكامل والاختلال الفعلي لموازين السلطة. ولا شك أن ذلك التهديد تسبّبَ بسخرية العلم التقليدي من فكرة أن ثمة مناهج بحثية نِسوية. كما تسببت المقاومة المحقة لفكرة المنهج النِسوي المستقل برفض الرؤى النِسوية الجديدة. وهكذا وُجِدت العصا التي ستؤدِّب الكلب العنيد، حيث تمّ التعامل مع الدراسات النسوية بكثير من الاستعلاء. ولم تُدمَج النظريات الجديدة والنتائج البحثية التي قدمتها الدراسات النِسوية – والتي تختلف نوعيًا فيما بينها، كما يحصل عادة في ميدان العلم – في القنوات العلمية الرسمية.
وتُشكِّلُ السُلطة ثيمة مركزية في العلوم الاجتماعية. ومن الغريب أن يُحذّرَ منظرو السلطة في المجتمع بأن نظرياتهم لا تصلح لدراسة موازين السلطة بين الجنسين. ومع ذلك نجحت النٍسويات باستقاء بعض الملاحظات النظرية من عمل هؤلاء الرجال. أن نكتشف أن عمل هؤلاء الرجال يحمل في طياته أمورًا تُفيدنا قد يكون أهم من الفرضية البدهية حول ما الذي جعلهم يصلون إلى ذلك التحذير. وهكذا يغدو ممكنًا أن ندمج العلم التقليدي فعليًا بالعلم النِسوي الناشىء. هذه عملية مهمة لا يمكن إلا أن تجري ببطء.
تطورات أخرى تخصّ أخلاق الحب
في القرون الماضية لعبت الدوافع المادية دورًا كبيرًا في حياة الأسرة والعائلة والحيّ. ففعليًا ثمة واجب عمل على كل بالغ صحيحِ الجسد وفقير نسبيًا، من دون أن يقع على عاتقه واجب الحب. وفي القرن العشرين بدأ التركيز على الحياة العاطفية لأول مرة على نطاق واسع. ولم يعد الحب حِكرًا على نخبة صغيرة وثرية، حتى لو لم يكن رائجًا جدًا بينهم، ولكنه صار في متناول الجميع. لا شك أن ثمة فروقًا بين البيئات المجتمعية الاقتصادية: فحين تضطر النساء على العمل لأسباب مادية، لن يكون واجب الحب بارزًا لديهنّ، وسيبقى هناك واجب العمل. قد يحتاج هذا التحليل التعميمي لأخلاق الحب والعمل المتغيرة إلى مزيد من التمييز، ولكن لا مجال لذلك ضمن هذه المقالة.
شرحتُ آنفًا كيف اختلف معنى الحب بين النساء والرجال. ففي البداية، ظهر أن واجب الحب على النساء كزوجات وأمهات يحافظ على اللامساواة بين الجنسين، ويجعل من الحياة العاطفية مبدأ أساسيًا. كما حصلت تغييرات بخصوص أخلاق العمل، حيث استُبدِلَت أخلاق العمل الكالفينية بأخلاق عمل إنسانوية. ولم يعد العمل واجبًا على الرجال، وإنما حقاً للجميع. واعتبارًا من 1981 تمّ تثبيت هذا الحق الفردي في الدستور. وقد فتحت أخلاق العمل الإنسانوية المجالَ للتركيز على حق الحصول على عمل ذي معنى، وصار المعنى جزءًا من تطوير الذات أيضًا. وطُلِب من الإنسان أن يكون اجتماعيًا ليصبح تقسيم الرواتب عبر القانون الاجتماعي ممكنًا. وبموازاة هذا التطور، نُلاحظ تزايد أهمية أخلاق الحب الإنسانوية. فوِفق هذه الإيديولوجيا الجديدة يرغب كلٌ من الرجل والمرأة في منح الحب. ولا يقع واجب التضحية مدى الحياة على كاهل النساء، بل يغدو منح الحب من قِبل الرجال والنساء جزءًا من إمكانية تطوير الذات. إنها أخلاق حب فردانية، والإنسان كائن اجتماعي يمنح الحب لصالح نفسه والآخرين. لا القواعد الثابتة الجامدة، ولا المكانة العالية لمؤسسة الأسرة، وإنما الأساس هو الشعور الذي يربطنا بالآخر. لذلك نشأت مساحةٌ أكبر للقواعد والاتفاقات الخاصة، وقبولٌ أكبر للطلاق كحلٍ في حال أعاقت العلاقة إمكانات (أحد) الطرفين وتطوره/ما.
غير أن التطبيق في الواقع يختلف. إذ ليس من السهل على الرجال تلبية هذه التوقعات الجديدة بخصوص الحب، لأنهم لم يتلقّوا تأهيلًا اجتماعيًا في واجب الحب. فتزيد أخلاق الحب الإنسانوية من وعي الناس بالمشاكل في علاقاتهم، ولا تتحقّق الأبوة التي تقدم العناية. ويشبه هذا ما يحصل أيضًا في مجال العمل. ذلك أن كثيرًا من النساء غير قادرات على تحقيق واجب العمل بشكل كامل، لأنه لم يسبق لهنّ أن تعلّمنَ واجب العمل، ولأن تأهيلهنّ العلمي محدود في أغلب الأحيان. لا تزال عتبة دخول سوق العمل عالية بالنسبة للكثيرات. وهكذا نبلغ وضعًا يشعر الرجال فيه بالحرج والمراقبة في حال عبّروا عن مشاعرهم، وتشعر النساء فيه بالذنب والمراقبة في حال ظهرنِ في الحياة المجتمعية. هذه هي التأثيرات المتأخرة للهوية الإجبارية عبر الحب والعمل.
وتترافق التغييرات في أخلاق الحب والعمل بنقلةٍ من زواج مغلق إلى حياة زوجية وأسرية منفتحة. وتبدأ إيديولوجيا الشريكان وإيديولوجيا الأمومة بالتغيُّر. ويفقد الرجل والمرأة وظيفتهما المكمّلة للآخر، ويغدو كلٌ منهما فردًا بهوية خاصة. ولا تبقى الأم هي الشخص الوحيد والأفضل التي تلبي حاجة التعلق لدى الطفل في السنوات الأولى من حياته، ويدخل الأب أخيرًا إلى المسرح.
حين يتراجع واجب الحب يتفاقم لدى النساء الأفراد الإحساس بالألم والذنب، ويصاب الرجال بالحالة ذاتها حين يتراجع واجب العمل. وعلى الصعيد المجتمعي والسياسي ينشأ خوف من أن يختفي حافز العمل ودافع الحب، مما سيؤدي إلى الوحدة ونقصٍ في اليد العاملة. هذه هي مشاكل مجتمع يمرّ في مرحلة انتقالية.
أخلاق العمل والحب الإنسانوية لا تحاول التوفيق بين مساواة على المستوى الإيديولوجي بين الرجل والمرأة من ناحية، وبين لامساواة على المستوى العملي من ناحية ثانية. وشيئًا فشيئًا سوف تُستبدل إيديولوجيا التكامل بين الرجل والمرأة بإيديولوجيا التعددية المساواتية الفردية بين البشر. وبهذه الطريقة تنشأ فجوة غير قابلة للردم في البنية المتينة لما يسمى التكامل بين النساء والرجال.
ولكن هذه التطورات ليست كافية للإعلان عن اقتراب النهاية، لأن أخلاق عمل جديدة سوف تنبثق مع مرور الوقت، أو ما يسمى بالتفكير الكلي. ما زال هذا التفكير يطرح نفسه بخجل. ليس الفرد هو المركز، وإنما المنظومة الاجتماعية والمسؤولية الشخصية. لم يعد الإنتاج واجبًا، وارتبط معنى العمل بالمسؤوليات الكبيرة حيال المجتمع بأسره، كالبيئة والسلام والأمان ومكافحة الجوع. وقد تطرقت دراسة كابرا نقطة التحوّل (1982) إلى هذا الموضوع، وكذلك دخل فان ستينبرخن من خلال دراسته في مخبر المجتمع (1983) الميدان نفسه. وسوف نكتشف أن التوجه الفرداني، الذي ما زال بالغ الأهمية حتى اليوم، ليس سوى مرحلة يحتاج المجتمع أن يمر بها كي يبلغ التفكير الكلي. لم يعد الأمر يتعلق بمسؤولية الإنسان المركزية حيال العائلة والحي، وحيال نفسه، وإنما بمسؤوليته الأولى والأساسية حيال الكلّ الأكبر. وحين نواصل التفكير على هذا النحو، سوف نجد أن أخلاق العمل وأخلاق الحب لا يمكن فصلهما عن بعضهما بعضًا بشكل كامل. ذلك أن التضافر بينهما يشكل ما يمكن تسميته بأخلاق العيش. لم يعد الحب مرتبطًا حصريًا بشريك واحد، كما نشأت أنماط معيشية جديدة، حيث تشكل الأسرة نمطًا واحدًا لا يتمتع بأي امتيازات إضافية. كما تكتسب شبكات الصداقة أهمية أكبر. وتنشأ أنواع جديدة من الحب من خلال التعاون المأجور وغير المأجور. ويصبح الناس مستقلين نسبيًا ضمن علاقات الاعتماد والتعاون المتنوعة. وينشأ الحب الذي يجعل الناس يشعرون بالارتباط مع الكلّ الأكبر، مع المجتمع.
وقد يجتمع الإحساس والمعرفة والفهم في تجربة الحب الكلي. حيث يُخلِصُ الناس لرسالة، وليس لشخص بعينه. يشرح فيرجوسن هذا في مؤامرة حوض السمك (1982). وبهذه الطريقة يصبح الحب عبارة عن سياق للتجارب. هو ليس مادة استهلاكية يمكنك امتلاكها أو فقدانها أو التفريط بها، ولا يمكن سرقتها منك. وبينما ينخفض التركيز على الجنس، سوف تزداد أهمية الحميمية. ولكي يكون الحب ناضجًا، ينبغي أن يكون الناس متساوين ونتخلى عن مفهوم «الغزو». لا نبحث عن الدفء لدى شخص واحد، وإنما لدى الجماعة وضمن نشاطات تمنح المعنى.
قليلون هم المنشغلون بالحب والعمل بهذه الطريقة، ولا حتى المجتمع جاهزٌ لذلك. أهمّ ما يحدث حاليًا هو تلك النقلة من واجب الحب أو العمل إلى الحق الفردي للجميع. وتتسبب هذه النقلة بعديد من المشاكل، وبخاصة لأن سرعة التغيير الإيديولوجية والعملية تختلف بين فئات المجتمع إلى حدٍ كبير.
أخلاق الحب مقارنة مع المُثُل العليا للحركة النِسوية
منذ ستينات القرن العشرين، طرحت الحركة النسوية العديد من المُثل المستقبلية التي تتعلق بالجنسين. فمن ناحية اهتمت بما يسمى بالقيم والصفات الأنثوية والذكرية، ومن ناحية أخرى بالمستقبل المنشود بخصوص العلاقة بين الرجال والنساء. وقد سارت تلك النظم المثالية (تاريخيًا) بالتوازي مع أخلاق الحب والعمل التقليدية والإنسانوية والكلية التي تَطرَّقنا إليها آنفًا.
سوف أستخدم فيما يلي مُصطلَحَي «أنثوي» و«ذكري» بالمعنى الثقافي المعروف. حيث يكون «الذكري» معادلًا للعقلانية والإبداع وقوة الإرادة والنشاطية والاستعداد للعمل والغزو، و«الأنثوي» معادلًا للفطرة والعاطفة والرعائية والسلبية والانتظار والعلاقة البدائية مع الطبيعة:
1-في أواخر الستينات كانت هناك ردة فعل على أخلاق العمل المَنوطة بالرجال فقط والمُقصِية للنساء، مما دفع عجلة التحرر بالاتجاه «الذكري». حيث تمّ قبول فكرة تفوّق القيم والصفات «الذكرية»، إلا أنها لم تُعتبر خلقية. كذلك تَعرقَلَ اكتمال المرأة عبر التربية والتأهيل الاجتماعي والتأثيرات الثقافية، ولم تبلغ شكلها الطبيعي. الرجل هو الذي يمثل القوة الخلّاقة، بينما لم تَمنح الأمومةُ المرأةَ هوية اجتماعية أو إمكانات خلّاقة. الفرضية هي أن إمكانات النساء مقموعة على عدة أصعدة. لذلك من الضروري أن يحصلنَ على الفرص ذاتها التي يحصل عليها الرجال ويُحسَبَ حسابهنّ في المجتمع. وانطلاقًا من تلك الرؤية، تَوجّه الطموح إلى أن تحصل النساء على الحوافز والفرص والإمكانات نفسها التي يملكها الرجال، مما سيفتح المجال لإعادة توزيع السلطة والنفوذ المجتمعي.
يمكننا النظر إلى أمثولة التحرر بالاتجاه «الذكري» على أنها ردة فعل منطقية على الاستدماج القوي لتفوق الذكور، والذي انعكس في سيطرتهم القوية على المجتمع. لذلك توجَّبَ أن يصبح ذلك الأسلوب المَعيشي المتفوق في متناول النساء أيضًا. ولا عجب أن شكلت تلك الأمثولة نقطة انطلاق الحركة النِسوية في نهاية الستينات. فقبل عقدين من الزمن، طرحت سيمون دوبوفوار تلك الأفكار بقوة في كتابها الجنس الآخر، غير أن مرحلة البناء التي أعقبت الحرب العالمية الثانية لم تكن قد نضجت بعد لتطبيقها المجتمعي، بل إن إيديولوجيا الاختلاف المتساوي في القيمة بين النساء والرجال بلغت ذروتها في تلك الفترة. بيد أن الازدهار الاقتصادي وارتفاع درجة التعليم وانخفاض عدد الأطفال تَسبَّبَ بتغيير وضع النساء في الستينات. كما شكّل استياء النسويات الأوائل من العزلة المنزلية دافعًا للمطالبة بتحرُّر النساء وحقوق متساوية مع الرجال.
2-وسرعان ما ظهرت في بداية السبعينات ردة فعل على أمثولة التحرّر بالاتجاه «الذكري». ولم تعتمد ردة الفعل تلك على أخلاق العمل التقليدية المَنوطة بالرجال، بل على أخلاق الحب التقليدية المَنوطة بالنساء. فتوجهت أمثولة التحرر نحو «الأنثوي»: النساء غير مضطرات أن يتغيرنَ باتجاه الرجال، بل العكس. كذلك اكتسب الحب مكانة مركزية، وبخاصة الحب الأمومي، وبات ضروريًا أن يتحرر من المجتمع الذي تَعمُّ فيه سلطة الرجال.
وقد قدّمَ فرنش مؤخرًا دراسة موسّعة بعنوان السلطة كعجز (1985)، وافترض فيها أن النساء خاضعات فعلًا، ولكنهن يمثلنَ الجنس الأفضل. كما اعتبر أن «سلطة الذكور» هي الأدنى مرتبة. وعلاقة الحب بين الأم وطفلها هي قلب المجتمع، فيتفوق «الأنثوي». وبفضل الأمومة تترسخ علاقة النساء بالطبيعة وأمور الحياة العادية، فيحتفظنَ بإمكانات التفكير الأسطوري والترابُطي. لذلك يتعين عليهنّ تحطيم السلطة الذكرية عبر رسم توجه جديد للجميع، فيصبح من الضروري أن يتعلم الرجال تلك القيم والمزايا المنسية.
3-ومع الوقت ظهرت أمثولة تدمج بين الأمثولتين السابقتين: تَحرُّر باتجاه الأنثوي والذكري الجديدان والفعليان. ويمكن اعتبار ذلك بأنه ردة فعل متجددة على أخلاق العمل والحب التقليدية. لا يتم الاختيار بين أحد الاتجاهين، بل رسم توجه جديد. فيُنظَر إلى النساء والرجال على أنهم يملكون مهارات خاصة وإمكانات نفسية مختلفة، لا تتقاطع بشكل بدَهي مع ما تنسبه الثقافة إلى كلا الجنسين، بل ينبغي مسح طبقة الغبار الثقافية الكثيفة التي غطتها. ورغم أن ثمة فروقًا بين النساء والرجال، إلا أنه لا يمكن الحديث عن مرتبة أعلى أو أدنى. النساء والرجال مختلفون، ولكن ذلك لا يعني أن أحد الطرفين أفضل أو أسوأ من الآخر. لا ينبغي استخدام تلك الفروق بغرض شرعنة اختلال موازين السلطة. وبغية خلق تقليد جديد، يتم الكشف عن التقليد المهمل بأن ثمة فئات مختلفة للنساء. والهدف النهائي هو أن تحظى الفروق الفعلية بين النساء والرجال بفرص التطوير اللازمة – الرجل «الجديد» والمرأة «الجديدة» – من دون أن يؤدي ذلك إلى توزيع غير متساوٍ للسلطة.
4- ليس كردة فعل على فكرة تَكامُل النساء والرجال التقليدية، بل تماشيًا مع التصورات الجديدة حول العلاقات في نهاية الستينات، تظهر أمثولة التحرر الفردي. وترتبط هذه الأمثولة بشكل واضح مع أخلاق الحب والعمل الإنسانوية للجميع. فلا القيم والصفات «الأنثوية»، ولا القيم والصفات «الذكرية»، يتفوق أحدها على الآخر، بل تتساوى تمامًا فيما بينها من حيث القيمة. ويجب أن يحصل الرجال والنساء على الفرص والإمكانات نفسها من أجل تطوير واستثمار صفاتهم ومهاراتهم الخاصة بهم، يجب أن يصبحوا أناسًا. وبما أن ثمة استدماجًا عميقًا وطويل الأمد للصفات الأنثوية على أنها أدنى مرتبة، فمن الضروري إعادة تقييمها بشكل جذري، حتى بالنسبة للرجال. نحتاج إلى خلق شروط تحرير الخاص في الناس. قد تُعتبر هذه الرؤية فردانية، لأنها تنطلق من فرادة الفرد التامة، بغض النظر عن الجنس. لذلك يُرى أنه من الضروري أن يُطوِّر الناس صفاتهم ومهارتهم بِحرّية ومن دون أحكام اجتماعية مسبقة.
5- وانطلاقًا من أخلاق الحب/العمل الكلية، أو ما يسمى بأخلاق العيش، ظهر مؤخرًا ما يسمى بأمثولة التحرر باتجاه «أنثوي»/ «ذكري» مُدمَج، التي تعتبر أن كلًّا من النساء والرجال مشوهون. الجميع مضطهدون، ولكن بأساليب مختلفة تمامًا، وبعواقب متباينة على موازين القوى. فعبر التقسيم الجنسي يُفصَل العقل عن الإحساس، والمنطق عن الفطرة. يتم بدايةً الاعترافُ بالقطبين الأنثوي والذكري – على أساس التفكير الشرقي مثلًا –، غير أنه ينبغي على النساء والرجال أن يتغيروا، بحيث يندمج القطبان في الإنسان الجديد. وهكذا ينشأ الإنسان الخنثوي الذي يُوحِّد بين «الأنثوي» و«الذكري». لا يمكن استخراج مكامن القوة إلا بعد هذا النوع من التغيير. ومع أن ثمة شبهًا كبيرًا مع أمثولة التحرر الفردانية، وكلا التوجهين يتقاطعان فيما بينهما بسلاسة، إلا أننا لسنا بصدد رؤية فردانية إلى الإنسان الفريد. الإنسان الخنثوي ليس فريدًا بذاته، ولكنه يدمجُ القطبين في داخله. فيتعين عليه وعليها أن يتبعا بوصلة المنطق والفطرة، فيتواءم العقل مع الإحساس. وسوف يفضي اكتشاف النفس لا محالة إلى صحوة الصفات التي يتم ربطها عادة بالجنس الآخر. وسوف يتوجه الطموح نحو الاستقلال والتواصل معًا. وهكذا يصبح «الإنسان الجديد» في خدمة الكل الذي يشكل الإنسان جزءًا منه.
هذه خمس توجهات فكرية حول المستقبل. يحاول التوجه الأول إدخال النساء في عالم الرجال المتفوق؛ ويطلب الثاني من الرجال أن يتبعوا النساء ليصبحوا أناسًا حقيقيين؛ وفي الثالث يتم تطوير الاختلافات بين النساء والرجال؛ وفي الرابع توضع فردية كل إنسان في المقدمة؛ وفي الخامس يتحوّل كلٌّ من الرجل والمرأة إلى الإنسان الخنثوي. أي أن بعض هذه التوجّهات (1،2،3) تستخدم الجنس كمبدأ للتقسيم، وبعضها الآخر (4، 5) لا يفعل ذلك. وفيما يتعلق بتأنيث الثقافة، يمكننا سبر مواقف مختلفة: لا طموح إلى التأنيث (1)؛ طموحٌ إلى تأنيث كامل (2)؛ طموح إلى تأنيث جزئي (3، 4، 5). ورغم أن التوجهات الخمسة تهدف في الأساس إلى تغيير موازين القوى الحالية، إلا أن ثمة تصورات مستقبلية مختلفة حول السلطة: ثمة مساواة في الوصول إلى مصادر القوة المجتمعية (1)؛ أو اختفاء السلطة (2)؛ أو اعتماد متبدل ضمن موازين قوى غير متجذرة بنيويًا (3،4،5).
وطبعًا، هذه التوجهات نحو المستقبل لا تنفصل عن بعضها بعضًا، ولا يُقصي إحداها الآخر. كما أن جميعها تساهم، جنبًا إلى جنب، في إحداث التغيير في موازين القوى الحالية المختلّة بين الجنسين. لذلك حين نرى إلى تطبيقات العلم من منظور نسوي، سوف نكتشف أن الجمع بين هذه التوجهات أفضل من المفاضلة فيما بينها. من المهم ألا نَحيد عن هذه التشاركية، لأنه لطالما استخدمَ مناهضو التحرُّر تكتيكَ ضرب هذه التوجهات بعضها ببعض. هذا ما يحصل في السياسة والحياة اليومية، مما يؤدي إلى سوء فهم وعدم وضوح في الرؤية. في رأيي، لا حاجة لشيطنة بعضنا بعضًا.
الواقع الحالي
ما زالت هذه التطورات هشّة، ومؤقتًا ستظل النساء يشعرنَ، بوعي أو من دون وعي، بواجب حب شخص بالغ واحد وإنجاب طفل أو أكثر من طفل. وسيظل الرجال يشعرون بواجب العمل. ولكن من المؤكد أن ثمة تحرُّكًا في الموضوع، فالترابطات بين البشر تزداد عددًا وتنوعًا. هذا يعني أن ثمة تراجعًا في إمكانيات ممارسة الضغط على حياة الآخرين الشخصية. ولكن لن يحيد واجب الحب على النساء، إلا بعد تعريفه بشكل أقل مراوغة، والتوقف عن جعله حصريًا ومفروضًا مدى الحياة، وبعد السماح للنساء بتقاسُم العناية الأولية بالأطفال أو تركها للآخرين. حتى الآن ما زال التركيز على حصرية العلاقة بين الشريكين، وربطه بعزلة ربة البيت/ الأم، يشكل وسيلة جبارة للحفاظ على موازين القوى القائمة. كما أن وعي الرجال بمنظورهم وتصوراتهم الأحادية ما زال متأخِّرًا مقارنة مع وعي النساء. وهذا أحد أسباب صعوبة إعادة تشكيل البنى المجتمعية التي يقررها «عالم الرجال» إلى حدِ كبير.
يمرّ مجتمعنا بمرحلة ثقافية تختلط فيها «عوالم الرجال» و«عوالم النساء» ببطء شديد. ويوجد قَدْرٌ معين من «التأنيث» كافٍ للرفع من قيمة ما يُسمَّى بالصفات والقِيَم الأنثوية (الفطرة، الحميمية، العاطفية، الصلات الاجتماعية)، ومن أهميتها في تربية الصبيان أيضًا. ولكن دعونا لا نستعجل الحكم بأن بقايا أخلاق الحب التقليدية المنوطة بالنساء قد اختفت، لأن التجربة الشخصية توحي بذلك على سبيل المثال. فمجتمعنا ما زال حتى الآن مشبعًا بإيديولوجيا المساواة التكاملية المرتبطة بعدم عدم المساواة الفعلية بين الرجل والمرأة وبواجب الحب على النساء. تلك الإيديولوجيا التي تُلوِّن تجاربنا وملاحظاتنا إلى حدٍ كبير؛ إنها معضلة هذا العصر بامتياز. ففي أثناء صراعنا مع علاقات الحب تنشط دوافعُ التغيير التي تُحوّل الحبَّ إلى ديناميكية أيضًا، فيتحتم تطور تركيب عن شتى النزعات المتناقضة.
في رأيي، من مهام العِلم النِسوي والإنسانوي أن يجعل هذه التطورات مرئية، ويسبر الآليات التي تعيقها، ويحفز على التغيير. أرجو أن أساهم في ذلك بالتعاون مع الآخرين.
البحث من منظور نسوي
إن الفصل بين العمل والحب يرمز إلى التفكير القطبي. القطب «الذكري»: عمل – دخل – مكانة – سلطة؛ والقطب «الأنثوي»: حب – أمومة – اعتماد – فقر. حتى في العلم نحتاج إلى إضعاف التفكير القطبي لصالح التفكير الترابطي والدمجي، ومن هنا أهمية البحث السوسيو-معرفي. البحث الذي يسبر ارتباط بحث آخر بالإيديولوجيا السائدة في حقبة زمنية معينة ومدى دعمه لها. ويكشف أيضًا عن مساهمة العلم في الحفاظ على الفصل بين «الرجولة» و«الأنوثة» وبين «عوالم الرجال» و«عوالم النساء»؛ والآليات التي لعبت دورًا في ذلك؛ والوسائل التي استُخدِمت. كثير من البحوث ذات طابع معاصر ومُطمئِن، بمعنى أنها تدعم الميول المحافظة في المجتمع. البحوث ذات الارتباط القوي بالزمن الحالي، والتي لا توضع نتائجها ضمن منظور التغيير الاجتماعي الأوسع، تقيس الميول المحافظة. فهي لا تُهاجم إيديولوجيا المساواة التكاملية بين الرجل والمرأة، بل تكرسها. وكما يميل الباحثون أصحاب المنظور النسوي إلى وضع تغيير معين في موازين القوى نصب أعينهم، كذلك سوف يغلب على الباحثين الآخرين ميلهم (غير الواعي) إلى منظور مستقبلي معين. هل يريد هؤلاء الباحثون أن يحافظوا على الفصل التقليدي بين الجنسين وما يرافقه من اختلال في موازين القوى؟ من خلال البحث السوسيو-معرفي سوف تظهر منطلقات وأهداف الباحثين (الضمنية).
أنا سعيدة أنني أعمل في جامعة خرونينغن ضمن فريق يطمح إلى التعاون والدمج بين التخصصات العلمية. نحن مُطالَبون بإجراء بحوث تتجاوز الحدود، إلا أنها ينبغي أن تطمس الحدود حرفيًا. الحدود التي نريد هدمها هي التي تفصل بين العمل والسكن، بين الحب والرسمي، بين البطالة والتوظيف، بين المادي والمعنوي، بين علم النفس الاجتماعي والاقتصاد. يتعلق الأمر بالرسمي واللاعقلانية والفاعلية والولاء في كافة أنواع العلاقات البشرية. على سبيل المثال، يمكن تطوير نظريات الشبكات حول الاعتماد المتفاوت والارتباطات في العلاقات البشرية الاقتصادية وغير الاقتصادية.
إن أخلاق الحب التقليدية المَنوطة بالنساء – تَجذُّرها، وأثرها على الخيارات، واحتمالات اختراقها، والنتائج المقصودة وغير المقصودة لإضعافها – تصلحُ أن تكون موضوع دراسة لاختصاصات مختلفة. وعلى الأرجح أن الجانب الاقتصادي يلفت الأنظار أكثر من غيره. ذلك أن عمل الحب، كالعناية بالمنزل والزوج والأطفال، يشكل عاملًا اقتصاديًا مهمًا. وسوف تتزعزع أسس منظومتنا الاقتصادية في حال تمّ تجريد كثير من العمل من أجواء الحب. مما يعني أن ربات البيوت سوف تتم مقاضاتهنّ على عملهنّ، وعلى جميع الخدمات الاجتماعية. طبعًا لن تأتي المكافأة المالية من المجتمع، بل من جيب المنتفع: شريكها. وإذا فكرنا بالطريقة ذاتها، فسوف تقع مصاريف رعاية الأطفال على عاتق المجتمع. ذلك أن الأطفال ليسوا عمالًا محتملين للوالدين (العائلة/ المجتمع الصغير) كما كانوا سابقًا، وإنما أيادٍ عاملة مُحتملة للمجتمع ككل. وقد حصل التحوّل الكبير عندما قدَّمَ المجتمع ضمانات اقتصادية للمسنين-ات، ولكن ليس للأطفال والشباب الصغار المُعتمِدين على الغير.
ما زالت العلوم الاقتصادية لا تعرف ماذا تفعل بالتطورات الحاصلة. ذلك أن لإعادة تقسيم الأدوار بين الرجال والنساء، وارتفاع نسبة الطلاق، عواقب كبيرة على مستوى الاقتصاد وسوق العمل. فأخلاق الحب التقليدية المنوطة بالنساء تترافق دائمًا بفقر النساء (وأطفالهن). من المهم التعاون مع الاقتصاديين للبحث في عواقب أخلاق الحب المنوطة بالنساء. وبالعموم، أتمنى من كل قلبي أن ينتبه ممثلو هذا الاختصاص أكثر إلى «قضايا النساء». فبمساعدة البحوث السوسيولوجية سوف تنكشف تصورات الأنوثة الناتجة عن أخلاق الحب التقليدية المَنوطة بالنساء. فهي التي تُقسِّم الأدوار حسب الجنس، سواء في العمل الرسمي أو الأعمال التطوعية والمنزلية.
ومن الأهمية بمكان أن يعتني علماء النفس والتربية بتفكيك نفسنة علاقة الشريكين والأمومة، وتطوير استراتيجيات تُحسِّنُ من مساهمة الآباء والبالغين الآخرين. فمن خلال علم تربية البالغين، الذي يهدف إلى إحداث تغييرات في السلوك، يمكننا البحث عن طرق تَقطَعُ خيوطَ واجب الحب غير المرئية، وتستبدلها بنسيج جديد.
قليلة هي البحوث التي نبشت في أخلاق الحب التقليدية المَنوطة بالنساء. ويمكن لعلوم الآداب أن تساهم من خلال فحص توظيف الكلمات والاستعارات في أدب النساء والرجال على حد سواء. كذلك علوم التاريخ قادرة على دراسة تَمظهُر أخلاق الحب التقليدية المَنوطة بالنساء في الحياة اليومية، وسرعة انتشارها، والخلافات التي نشأت عنها، والتنويعات الموجودة في فئات المجتمع المختلفة.
كما تصلح العلوم القانونية لدراسة إلى أي مدى ركزت القوانين، وما زالت تركز، ضمنيًا وصراحة، على أخلاق الحب التقليدية المَنوطة بالنساء، وإلى أي مدى ساعدت على ترسيخها. وربما أكثر العلوم عمومية في الكشف عن نشوء وترسيخ أخلاق الحب التقليدية الخاصة بالنساء هي علوم الدين النِسوية.
هذا مثال عن التعاون المُحتمَل بين اختصاصات مختلفة في ميدان معين، في حالتنا: أخلاق الحب المَنوطة بالنساء. إنه مشروع يتناسب جيدًا مع هدف تَجاوز الحدود وطمسها. ذلك أن عناصر مهمة متمثلة فيه: «حب» و«عمل» و«سلطة» و«اعتمادية» و«أمومة» و«فقر/ إفقار». إذا أخذنا الحروف الأولى من هذه الكلمات [باللغة الهولندية]، فسوف يكون اسم المشروع مثيرًا للاهتمام: الماما. أجده مناسبًا، لأني أعتبر تَجذُّر إيديولوجيا الأمومة التقليدية، وواجب الحب على الأمهات، والنتائج الاجتماعية التي تترتب على ذلك، من أكبر العقبات في الطريق نحو مساواة أكبر في المكانة الفعلية لكل من النساء والرجال.
بالعموم يمكنني القول بأن توفير معرفة مفيدة من زوايا نظر مختلفة سوف يساعد على خرق البنى الاجتماعية لـ«الرجولة» و«الأنوثة» في «عالَم الرجال» و«عالَم النساء». لعل «النظرية» الأكثر عمومية بالنسبة للبحث من منظور نِسوي هي أنه لا توجد نظرية واحدة يمكن اعتمادها كدليل من قبل جميع الباحثين والباحثات. فالتعاون ضمن العلوم النِسوية يستفيد بشكل كبير من تنوع النظريات ومناهج البحث.
الخاتمة
حاولتُ حتى الآن أن أوضّح طرائق التفكير والتصورات المنتشرة ضمن حلقات ممارسة المعرفة النِسوية. وقد اعتمدتُ على دراسات كثيرة وبحوثٍ أُجرِيت في هذا المجال. وطبعًا لا أدعي أني أعطيتُ كل المعرفة المكتسبة والمواقف المتخذة حقها. فمن خلال اختياري لزاوية واجب الحب على النساء، حاولتُ أن أجعل رسالتي مقنعة. فأنا أعلّق أهمية كبرى على انتشار المعرفة النِسوية في المجتمع، ولكن هذا بات واضحًا على ما أعتقد.
أشكر جامعة خرونينغن على ثقتها بي. لا بد أن عالَم الرجال كان خائفًا من كرسي «مسائل تحرُّر النساء». ومع ذلك أنا سعيدة، لأني لاحظتُ كثيرًا من التعاون من قبل المدراء وأعضاء الجامعة الآخرين خلال نصف السنة الأولى. أتمنى من كل قلبي أن نحافظ على هذه العلاقة الجيدة.
وسوف أخيّبُ ظنَّ أولئك الذين يتمنون في سرهم أن أحبس «تذمري» حول أمور التحرُّر والنِسوية، كيلا أزعج الآخرين بها. جهودنا موجهة نحو فتح حصن المعرفة الرجالي للنساء، على أمل أن تعمّ الفائدة على الجميع، رجالًا ونساء. وسوف تقدّم النساء (والرجال) النِسويين-ات مقاربة نقدية لتطبيقات العلم ضيقة الأفق الشائعة، ويدرجون المنظور النِسوي فيها. الدمج بينهما سوف يثري العِلم.
مقالات مشابهة