أعطت المعطيات الدبلوماسيّة الدوليّة صدقية حاسمة لتوقعات وزير الخارجية الإسرائيلي أيلي كوهين، حين قال في الثالث عشر من تشرين الثاني( نوفمبر) الجاري إنّ أمام بلاده أسبوعين أو ثلاثة أسابيع “قبل أن يتنامى الضغط الدولي بشكل فعلي”!
وبالفعل، لم يمر أسبوعان على “نبوءة” كوهين حتى بدأت الحكومة الإسرائيليّة تتعرّض لضغوط دوليّة هائلة يشارك فيها الرئيس الأميركي جو بايدن، حتى توقف حربها على قطاع غزة.
ولم تعد هناك أيّ حكومة غربيّة قادرة على تغطية الكلفة المعنويّة العاليّة لهذه الحرب الإسرائيليّة المتوحشّة التي لا يمكن أن تحقق أهدافها المعلنة، وبينها القضاء على حكم “حركة حماس” لهذا القطاع الفلسطيني، إلّا بكلفة بشريّة هائلة تشبه الإبادة.
ويبدو أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن، هو الأكثر تضررًا من استمرار الحرب بسلوكها المتوحش، فهو، فيما يتحضر لمواجهة انتخابيّة قاسية مع سلفه دونالد ترامب، يبدو بحاجة الى توحّد التيارات الديموقراطية حوله، ولكنّ دعمه غير المشروط الذي قدمه للحكومة الإسرائيليّة في المرحلة الأولى من الحرب التي تلت عملية السابع من تشرين الأوّل( أكتوبر) الماضي، قد بدأ ينقلب عليه، ويحدث انشقاقات خطرة انتخابيًّا وسياسيًّا، من شأنها، إذا ما استمرت على الوتيرة نفسها، أن تقدّم البيت الأبيض على طبق من فضة لترامب.
ولا يستطيع بايدن، والحالة هذه، إلّا أن يبذل أقصى جهوده لوقف الحرب، على الرغم من أنّ عملية “طوفان الأقصى”، كما يتضح من الكلمة التي ألقاها مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران السيّد علي خامنئي، في حشود “الباسيج”، أمس تهدف الى “اجتثاث الأمركة” أي القضاء على مشاريعها الهادفة الى إقامة شرق أوسط جديد، حيث تطبّع إسرائيل علاقاتها مع دول الخليج بما فيها المملكة العربيّة السعوديّة، وتستفيد معًا من مشروع “جسر القارات” الذي أقرّته مجموعة الدول العشرين في اجتماعها الأخير، في الهند في التاسع من أيلول( سبتمبر) الماضي.
ولكنّ هذه الرغبة الأميركية الجامحة بوقف الحرب في غزّة، يقابلها رفض إسرائيلي قوي يقوده رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو وصقور حزبه واليمين الصهيوني المتحالف معه، وقيادة الجيش.
يعتبر هؤلاء أنّ جميع الدول التي تضغط على الحكومة الإسرائيليّة من أجل وقف الحرب تريد، في الواقع، أن تعلن تل أبيب هزيمتها، وهي لم تبلغ بعد منتصف المهلة التي وضعتها لأعمالها الهجومية، اي ثلاثة أشهر.
ومن شأن وقف الحرب، في الحالة الراهنة، أن يفجر إسرائيل من الداخل، فإلى الاستسلام سوف ينتهي الإئتلاف الحكومي وتغضب الغالبية الشعبية وتبدأ التحقيقات والمحاكمات ويضعف الموقف الإسرائيلي في مفاوضات الرهائن إلى مستوى التسليم بكل شروط “حماس” التي سترفع ومعها “المحور الإيراني” علامات النصر.
وبالنسبة لنتنياهو وحلفاءه لا يوجد بديل معقول عن استمرار الحرب في غزة، فالميدان لم يجهّز لأي مبادرة سياسيّة إمكان الحياة بعد، ف”حماس” لن تقبل أن تُعطي بالمفاوضات ما قاومت ضده في الحرب، وكذلك “حزب الله” الذي أثبت أنّه خطر لا بدّ من التعامل معه، عاجلًا أم آجلًا.
ولا يستطيع الجيش الإسرائيلي، في الوضعية الراهنة، أن يبقى في شمال قطاع غزة كما أنّه لا يستطيع أن ينسحب منه، وسط انعدام الثقة بأنّ ما حصل في السابع من تشرين الأول( اكتوبر) الماضي لن يتكرر. وما يصح على الرعب المهمين على جنوب إسرائيل يصح أيضًا على شمال إسرائيل، حيث الحدود مع لبنان.
ولا يمكن للحكومة الإسرائيليّة، والحالة هذه، أن تقدّم مصالح جو بايدن، بعدما قرّر تركها في منتصف الطريق، على المصالح الإستراتيجيّة لإسرائيل.
ولكنّ تل أبيب لا تملك كامل الحريّة في إعلان استقلالها عن الولايات المتحدة الأميركية، على الرغم من الحلم الدائم لبنيامين نتنياهو بذلك، إذ إنّها تحتاج إليها في مجلس الأمن الدولي لممارسة حق النقض، وفي المؤسسات الدولية التي تعتبر أنّها اقترفت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانيّة من أجل حمايتها، كما تحتاج الى رصدها المبكر للهجومات الحوثيّة والى تزويدها بالذخائر اللازمة.
أمام هذه “الورطة”، ماذا يمكن أن تفعل واشنطن والى أين يمكن أن تذهب تل أبيب في تمردها؟
إنّ المفاوضات الأميركية غير المباشرة الجارية عبر الوسيط القطري وغيره مع “حماس” ومع الجمهورية الإسلاميّة في إيران تهدف إلى بلورة مخرج ممكن للجميع، بحيث لا تبدو إسرائيل مهزومة كليًّا و”حماس” منتصرة تمامًا.
ولكنّ بلورة مخرج مماثل يحتاج الى وقت، وسوف يتم توفيره من خلال تمديد “الهدنة المؤقتة” في قطاع غزة.
الخوف الأميركي يكمن في أن تلعب تل أبيب على الحبال، فهي، على سبيل المثال، تصعّد في الضفة الغربية، في زمن الهدنة في غزّة، بحيث يبدو أنّ الأسباب التي بررت بها “حماس” هجوم “الطوفان الأقصى” بدل أن تنخفض تعاظمت، وفي مقابل كل معتقل فلسطيني تحرره، بموجب “اتفاق الرهائن”، تعتقل ثلاثة آخرين.
ولا يقتصر الخوف الأميركي على الضفة الغربيّة بل يتوسّع ليشمل لبنان، إذ إنّ واشنطن قلقة للغاية من أن تسيقظ، في حمأة الضغط من أجل التهدئة في قطاع غزة، على اشتعال نوعي للجبهة اللبنانية- الإسرائيليّة التي لا تزال تتعرض، بين الحين والآخر، لخروقات من الجانب الإسرائيلي تُضمر على ما يبدو ” عملًا خبيثًا” يتماشى مع الضغط المتصاعد في شمال إسرائيل ، مدعومًا من اليمين والوسط، ضد ” المساكنة مع حزب الله”.
وثمّة خشية حقيقيّة من أن تحاول حكومة نتنياهو أن تطلب من واشنطن تعويضًا في جبهة لبنان عن وقف نار مطوّل في غزة!