أمضيتُ في العاصمة السعودية الرياض خمسة أسابيع كاملة. لم يكن ذلك بناء على دعوة من أي جهة رسمية أو شبه رسمية. كما لم يكن في إطار مهني، إعلامي أو غير إعلامي، بل كان بمبادرة ذاتية، وقد أمضيتُ وقتاً نوعياً مع أقارب لي يعملون في هذه المدينة النابضة بالحياة!
لم أكن أنوي الكتابة عن رحلتي هذه، لكنّ المعطيات السياسية المتلاحقة دفعتني إلى ذلك، خصوصاً بعدما اختار الرئيسان الأميركي والروسي، دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، الرياض مقرّاً رسميًّا للحوار، سواء لحل المشاكل الثنائية الناشئة بينهما أوم لمحاولة وضع حد لصراع قد طال في أوكرانيا!
في الواقع، لا يفاجئك اهتمام قادة العالم بالمملكة العربية السعودية التي تحتفل اليوم السبت بـ”يوم التأسيس” قبل 298 عاماً. فهم بذلك، يقدمون خدمة كبيرة لرعاياهم ولشركاتهم ولمستثمريهم ولقواهم العاملة، إذ يتقاطر الكثيرون إلى السعودية عموماً والرياض خصوصاً، من أجل الاستفادة من أضخم ورشة إعمار وإنماء وتحديث في العالم.
وفي زمن الأزمة العالمية، لا تعتبر الرياض عاصمة عادية من عواصم العالم، بل هي، منذ سنوات، أصبحت عاصمة استثنائية، بكل ما للكلمة من معنى، وتعمل، بجهد ونشاط، من أجل أن تتقدم نحو مقدمة القائمة. يتصوّرها كثيرون “الدورادو” القرن الحادي والعشرين!
العالم بات يعرف الرياض من مهرجاناتها الترفيهية والثقافية، ولكن وحدهم هؤلاء الذين تسنح لهم فرصة الإقامة فيها، كزائرين عاديين، يمكن أن يتلمسوا ما سوف يكون عليه المستقبل.
بات يمكنك أن تعيش في الرياض كما لو كنت في أي مكان متقدم في العالم، فخدماتها متطورة إلى درجة أنك تستطيع أن تحل كل مشاكلك على الإنترنت، فحكومتها هي إلكترونية بامتياز، والنقل العام فيها على سكة التطور المذهل، فهي بالإضافة الى أنها تصلك عبر مطارها الدولي بغالبية دول العالم، في رحلات مباشرة، طورت نظام القطارات فيها لوصل أنحاء المملكة، بعضها بالبعض الآخر، كما دخل المترو في مرحلة التشغيل، بنجاح كبير، بحيث فاقت نسبة مستخدميه، في العاصمة المزدحمة، كل التوقعات. كان إنشاؤه نكتة، فإذا بالواقع يثبت أنّه حاجة. خدمات المترو التي سوف تستكمل بشبكة ضخمة من الباصات والسيارات، حتى تخدم المقيم في الرياض من منزله حتى مقصده، ولا سيّما في أشهر الحر الشديد!
العاصمة السعودية التي لم تكن في وقت سابق صديقة للمشاة والرياضيين، انقلبت على نفسها، بحيث بدأت العمل على إنشاء مسار رياضي ضخم يحتضن العاصمة السعودية من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها. ضخامة مرفقة، وفق ما هو ظاهر من أولى البوادر، بالعراقة والتطور وأفضل الخدمات!
وهذه العاصمة التي يرتفع فيها الطلب على الشقق السكنية وعلى المكاتب، تعمل، ليلاً ونهاراً، على إنشاء مدن جديدة، كما هي الحال في الدرعية، حيث ستجاور مدينة ضخمة بدأت ورشة إعمارها، القلعة التاريخية التي تحوّلت ساحاتها الخلفية الى واحدة من أروع المتنزهات العالمية. يحصل ذلك فيما أكملت الرياض بناء مدن متخصصة عدة، بينها المركز المالي والمدينة الرقمية وغيرها!
وفي يومياتك العادية، يمكنك أن تعيش حياتك، بشكل شبه عادي. التحوّل الإيجابي والانفتاحي في السلوك السلطوي تجاه الأفراد، بات الحديث عنه “قديماً”، وقد تعززت بنيته التحتية، بحيث لم يعد يتسع الوقت ولا المدخول، لمجاراة فرص الترفيه المتاحة، حيث يتدفق نجوم العالم عليها.
ولم يعرف السعوديون المنتمون إلى الطبقات التي كانت يوماً “غير مميّزة”، مثل هذا الاهتمام الحكومي بهم ليكونوا قوة عاملة، فبالإضافة إلى التطور المذهل في عالم الطبابة والاستشفاء، تشهد المملكة ثورة علمية، ليس على مستوى مدارسها وجامعاتها ومناهجها، فحسب، بل على مستوى “التمهير” و”التأهيل المهني” أيضاً، بحيث تمكِّن السعوديين الراغبين بالعمل، من اكتساب المهارات التي تجعلهم يستفيدون من الفرص الهائلة المتوافرة أمامهم. وقد أتيحت لي فرصة المشاركة في حفل تخرج نظمه واحد من أكبر مستشفيات المملكة، حيث تلمست عن كثب تأهيل مئات السعوديات للعمل في المجال الاستشفائي!
سابقاً، كان الذهاب إلى المملكة العربية السعودية من “سابع المستحيلات”. كانت البلاد مغلقة أمام الأجانب، باستثناء هؤلاء الذين يتم استقدامهم للعمل. حالياً، يمكن لمن يشاء من حملة الجنسيات التي لا تعاني دولهم من إشكاليات أمنية دقيقة، التوجه إلى المملكة، من خلال الحصول على الفيزا السياحية، بدقائق فقط.
قبل ثلاث سنوات، أمضيت أسابيع عدة في الرياض. عندما عدت إليها في كانون الثاني /يناير الماضي، كدتُ لا أعرفها. تماماً كما قال لي في رحلتي السابقة هؤلاء الذين كانوا يعرفون المملكة “القديمة”، إذ أنّه، في فترة بسيطة، أصبحت المرأة حرّة في أن ترتدي ما تشاء، وأن تقود سيارة، وأن تسكن بمفردها، وأن تنضم إلى رفاقها في سهرة في مطعم أو في مقهى أو في صالة سينما، أو أن تكون معهم في رحلة داخلية أو خارجية.
وأتيحت لي الفرصة لأكون في المسرح، حيث شاهدت مطربة “أم كلثومية”، ففاجأني امتلاء قاعة يفوق استيعابها الألف شخص. جل هؤلاء كانوا من السعوديات والسعوديين. كما فاجأني الإقبال الكثيف على معرض كتاب أقيم في الدرعية التاريخية. ولم تكن متابعتي أحد المسلسلات السعودية “بديهية” حيث تتم معالجة شؤون العائلة والحب والشغب، بانفتاح، وسط الترويج لمجموعة من القيم بينها الأهمية القصوى لاستقلال المرأة المادي، وبالتالي لتكون جزءاً من القوة العاملة في البلاد.
حتى تاريخه تتحدث الكتب السعودية عن أن الدولة الحالية هي “الثالثة”. قريباً، ومع اكتمال الورشة التي تمتد من الرياض إلى العلا، ومن جدة إلى “لاين”، قد يجد كثيرون أنفسهم مضطرين للحديث عن “الدولة السعودية الرابعة”.
في ظل هذه الثورة الإعمارية المستمرة، ليس غريباً أن يفكر قادة العالم في اختيار الرياض مركزاً لحل مشاكل العالم، لأنّها، مهما كان موقفك السياسي، ملهمة!