على رغم التحدّيات التي يواجهها رئيس الوزراء نواف سلام، فإنه يمثّل فرصة لكسر عقود من الفساد، وسوء الإدارة، وانعدام المساءلة في السياسة اللبنانية.
هذه المادة تمّت ترجمتها ونشرت بالتعاون مع The Tahrir Institute for Middle East Policy (TIMEP)
بعد أقل من شهر على ترشيحه المفاجئ لرئاسة الحكومة اللبنانية، حضر نواف سلام أول اجتماع لمجلس الوزراء، مع وزرائه الجدد ورئيس الجمهورية اللبنانية المنتخب حديثاً جوزاف عون، في القصر الرئاسي. بعد عامين من حكومة تصريف الأعمال والشلل المؤسسي، أصبح لدى لبنان أخيراً حكومة جديدة تتمتّع بتفويض قانوني للحكم فعلياً.
استغرق تشكيل حكومة سلام أسابيع من المشاورات مع مختلف الأحزاب السياسية والمجموعات، التي تشكّل البرلمان اللبناني والهيئات التمثيلية. واجه سلام العديد من العقبات، أبرزها تلك التي فرضها لوبي المصارف، الذي يقاوم أية إصلاحات مالية منذ انهيار النظام المالي في البلاد، بالإضافة إلى “حزب الله” وحركة “أمل”، وهما القوّتان السياسيتان الشيعيتان في لبنان، وكان هذان الحزبان الوحيدان اللذان امتنعا عن تسميته خلال الاستشارات الرئاسية في منتصف كانون الثاني/ يناير الماضي.
خلال الفترة التي سبقت تشكيل الحكومة، واجه سلام ضغوطاً شعبية وتدقيقاً مكثّفاً من عدة جهات. على سبيل المثال، شنّ إعلاميون مؤثرون مثل الأخوين مارسيل وجورج غانم هجوماً حاداً عليه، وعلى نائبه في رئاسة الحكومة الوزير طارق متري عبر شاشات التلفزة المحلية، بسبب خطّته المحتملة لإعادة هيكلة القطاع المالي، التي تشمل توزيع الخسائر بشكل أكثر عدالة، ومحاسبة المصارف الخاصة. من جهته، أصر “حزب الله” وحركة “أمل” على الاحتفاظ بوزارة المالية؛ وهي وزارة يشغلها أحد أعضاء حركة “أمل” منذ العام 2014، إلى جانب تسمية جميع الوزراء الشيعة في الحكومة. ورغم أن وزارة المالية آلت في النهاية إلى النائب السابق عن حركة “أمل” ياسين جابر، لم يتمكّن الحزبان من اختيار جميع الممثلين الشيعة في مجلس الوزراء.
للمرة الأولى منذ اتفاق الدوحة في عام 2008، لم يعد بإمكان الحزبين الاستحواذ على أكثر من ثلث مقاعد الحكومة، وهي النسبة التي استخدماها سابقاً لتعطيل عمل الحكومة. وكان هذا التنازل في الدوحة، قد أتى بعد اجتياح مسلحي “حزب الله” بيروت في 7 أيار/ مايو 2008، إثر قرار الحكومة منع الحزب من تشغيل نظام اتصالات خاص به موازٍ لنظام الدولة. ومنذ ذلك الحين، امتلك “حزب الله” وحلفاؤه حق النقض (الفيتو) في جميع الحكومات، حتى هزيمته وانكفائه بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان.
هذه التطوّرات الأخيرة، تعكس المكاسب السياسية التي حققها “حزب الله”، وكذلك تراجعه منذ اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر. كما أنها تعكس الضغوط الاجتماعية والسياسية المتزايدة التي يواجهها الحزب، في ظل الدمار الواسع الذي لحق بمناطق جنوب لبنان وشرقه والضاحية الجنوبية لبيروت جراء القصف الإسرائيلي، ما جعله في حاجة ماسة إلى مساعدات مالية لإعادة الإعمار والتنمية، غير أن هذه الأموال لن تُقدّم من قِبل أي جهة مانحة دولية، سواء كانت غربية أو عربية، ما دام “حزب الله” يحتفظ بنفوذه في السياسة اللبنانية، وما لم يتم تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة.
بعيداً عن الظروف السياسية التي ساهمت في تشكيل حكومة سلام، ورغم انتظار دام 30 يوماً، تخللته عقبات متعددة، باتت الحكومة أخيراً في السلطة، لكنها ورثت وضعاً كارثياً، فالبلاد ترزح تحت وطأة أزمة مالية خانقة، وتداعيات انفجار مرفأ بيروت، وعقود من سوء الإدارة السياسية والاقتصادية التي اتّسمت بسيطرة النخب الطائفية على المال العام لمصالحها الخاصة، بينما تآكلت البنية التحتية للدولة. يُضاف إلى ذلك حرب إسرائيلية مدمرة استمرت أكثر من عام، أدّت إلى تدمير مناطق واسعة، وتشريد مئات الآلاف من السكان، وإفقارهم، كما أن إسرائيل لا تزال تحتل أراضي في جنوب لبنان، وتنفّذ ضربات عسكرية متى تشاء.
أمام سلام وحكومته تحدّيات كبيرة، تتطلّب تحرّكاً سريعاً، إذا كان هناك أي أمل في تحسين مستقبل البلاد وسكانها، ومع هذه التحدّيات، تبرز مجموعة من الأولويات التي يجب أن تتصدّى لها الحكومة، بدءاً من القضايا السياسية، وصولاً إلى الإصلاحات المالية.
تنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم 1701
يتعيّن على الحكومة الجديدة ضمان التنفيذ الكامل لقرار الأمم المتحدة رقم 1701، الذي أنهى حرب 2006 مع إسرائيل، إلى جانب نسخته المُحدّثة التي تستند إليها الهدنة الأخيرة بين إسرائيل و”حزب الله”، ويشمل ذلك الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من جميع الأراضي اللبنانية.
ورغم مرور أكثر من شهرين على توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين “حزب الله” وإسرائيل، فقد انتهكت إسرائيل شروط الاتفاق مئات المرات، وكان من المفترض أن تُكمل القوات الإسرائيلية انسحابها الكامل بحلول 18 شباط/ فبراير، بعدما نجحت بالفعل في تمديد المهلة مرة واحدة، ورغم انسحابها من القرى التي احتلتها في جنوب لبنان، فقد أبقت على وجودها العسكري في “خمسة مواقع استراتيجية في المنطقة” إلى أجل غير مسمّى؛ وهو أمر غير مقبول ولا يمكن استمراره.
لقد ازدادت إسرائيل جرأة بسبب الانتكاسات العسكرية التي تعرّض لها “حزب الله”، والدعم غير المشروط الذي تتلقّاه من الولايات المتحدة، مما سمح لها بالتصرّف من دون رادع في جنوب لبنان، ومن دون أية عواقب حقيقية. على سلام أن يطرح قضيته بقوّة أمام الأمم المتحدة والولايات المتحدة والدول الأخرى الضامنة لاتفاق وقف إطلاق النار.
المواطنون اللبنانيون في الجنوب، يتطلّعون للعودة إلى قراهم، وتفقّد منازلهم، ودفن موتاهم، والبدء في إعادة الإعمار. حقّهم في العودة والعيش بكرامة هو حقّ أساسي من حقوق الإنسان، ويجب على الحكومة أن تبذل كل جهد لضمان الانسحاب الإسرائيلي الكامل من جميع الأراضي اللبنانية.
إقرأوا أيضاً:
ترف الانهيار المؤقت
تشييع حسن نصر الله…خاتمة زمن “السيد”
الإصلاحات المالية والنقدية
يتعيّن على الحكومة تنفيذ سلسلة من الإصلاحات المالية والنقدية، التي تضع مصلحة المواطنين اللبنانيين في المقدّمة، مع ضمان استعادة ودائعهم. كما يجب عليها الدفع باتجاه إعادة هيكلة القطاع المصرفي عبر وضع تنظيمات صارمة، تحول دون تكرار الأنشطة التي أدّت إلى انهياره في المقام الأول. ستكون هذه الإصلاحات أساسية لأية إمكانية للحصول على دعم مالي دولي لإعادة الإعمار بشكل أوسع.
في أول مقابلة تلفزيونية له منذ تشكيل حكومته، وعلى خلاف الاستراتيجية التي اتّبعتها السلطات اللبنانية حتى الآن، ألمح سلام بوضوح إلى أنه لن يحل الأزمة المالية عبر مزيد من تمييع الودائع أو عدم استردادها. فمنذ تفجّر الأزمة المالية في لبنان في عام 2020، لم يتمكّن المودعون من سحب أموالهم، بينما فقدت العملة الوطنية قيمتها بشكل كبير. إحدى الطرق التي لجأت إليها المصارف والدولة لنقل ديونها إلى المودعين، كانت السماح بسحب مبالغ شهرية زهيدة من الودائع على سعر الصرف الرسمي السابق، مما أدّى فعلياً إلى تمييع الودائع وتقليص الديون المستحقّة للمواطنين. سلام لمّح إلى أن هذا الوضع لن يستمر، وأن الودائع ستُحمى وتُعاد إلى أصحابها؛ وهو موقف سيضعه في مواجهة مباشرة مع المصارف الخاصة وحلفائها السياسيين.
ظهر هذا الصراع السياسي بوضوح خلال عملية تشكيل الحكومة، حيث كان التوتّر مع المصارف أحد أبرز العوائق، وستكون هذه المعركة في صلب ولاية سلام كرئيس للوزراء، حيث سيُقاس نجاحه بمدى قدرته على تحميل المصارف والنخب السياسية مسؤولية الأزمة المالية. لا شيء سيكون أكثر أهمية من ذلك.
إعادة الإعمار وتأمين التمويل
يجب أن تركّز الحكومة الجديدة على تأمين التمويل لإعادة الإعمار، وضمان عملية إعادة بناء عادلة وغير طائفية. في ظل غياب الثقة بالمؤسسات المالية والسياسية اللبنانية، لا يوجد أي مانح دولي، بغض النظر عن موقعه الجيوسياسي، مستعد لمنح أو إقراض أموال للبنان، من دون تنفيذ إصلاحات مالية جدّية، ما يجعل هذه الإصلاحات ضرورة مطلقة.
خلّفت الهجمات الإسرائيلية على مدى العام الماضي آلاف الضحايا والمشرّدين اللبنانيين، ودمّرت مساحات واسعة من المناطق الحضرية، والأراضي الزراعية، والبنية التحتية العامة، لا سيما في المناطق التي تحظى فيها جماعة “حزب الله” بتأييد واسع. الحزب يجد نفسه معزولاً، وعلى عكس العام 2006، فإن إيران، داعمه الإقليمي والممول الأساسي له، غير قادرة على تقديم المساعدة أو إرسال أموال لإعادة الإعمار، بسبب أزماتها المالية الداخلية، إلى جانب الفيتو الأميركي والخليجي على أي تدخل إيراني إضافي في مستقبل لبنان.
على سلام وحكومته وضع آلية شفّافة لإعادة الإعمار، تُعطي الأولوية لاحتياجات السكان المحليين، مع الحفاظ على توازن جيوسياسي لا يعرّض التعافي المالي للبنان للخطر. كما يتوجّب عليه إعادة تأكيد رؤية سياسية، ترفض أن يكون لبنان عالقاً في دوامة الانتقال من محور سياسي إلى آخر، متلقّياً صدمات هذه التحوّلات من دون إرادة سياسية واضحة. بالنظر إلى ضعف “حزب الله” والتراجع المؤقت للنخب الطائفية عن الحكم المباشر، تبرز أمام سلام فرصة حقيقية لإشراك الجهات المانحة الدولية، وإقامة شراكات قائمة على قيم مشتركة، تعزز سيادة لبنان ومصالحه الوطنية.
الإصلاحات القضائية
على الصعيد البيروقراطي، يتعيّن على الحكومة الجديدة حماية القضاة، وتنفيذ إصلاحات قضائية، ومنع تسييس القضاء والأجهزة الأمنية واستخدامها كسلاح ضد الصحافيين. لطالما تمتّع لبنان ببعض أقوى الحريات المدنية وحماية الصحافة في العالم العربي، إلا أن هذه الحريات شهدت تراجعاً متزايداً على مدى العقدين الماضيين. ومع الانهيار المالي، أصبحت الحريات المدنية في وضع أكثر هشاشة، كما يتّضح من الدعاوى القضائية الأخيرة، التي استهدفت منصّات إعلامية مستقلّة مثل “ميغافون” و”درج”، والتي رفعها مصرفيون على صلة بالنخب الطائفية.
أحد العوامل الرئيسية الذي يقود هذا القمع هو التسييس المتزايد للقضاء، حيث أصبح القضاء في كثير من الأحيان أداة بيد النخب الطائفية والتجارية، تُستخدم لإسكات المعارضين، وسجن الصحافيين الذين يحققون في قضايا الفساد، وترهيب الناشطين الذين يطعنون في الوضع القائم.
يُدرك سلام، بصفته الرئيس السابق للمحكمة الدولية، مدى أهمية نظام عدالة عادل ومستقل في أي دولة. لقد تأسس النظام السياسي اللبناني بعد الحرب الأهلية على غياب المساءلة وتهميش القضاء، وأي إصلاح سياسي جادّ يجب أن يبدأ بضمان قضاء حر ومستقل.
الانفتاح على النظام الجديد في سوريا
في تطوّر حاسم منذ التوصّل إلى وقف إطلاق النار بين إسرائيل و”حزب الله”، لم يعد نظام الأسد قائماً في سوريا. ينبغي على الحكومة اللبنانية اغتنام هذه الفرصة لإقامة علاقات جديدة مع الدولة السورية، حيث أقرّ رئيسها الحالي أحمد الشرع، بحجم الدمار الذي تسبب فيه النظام السابق، من خلال تدخّله في السياسة اللبنانية لعقود. يمثّل تحرير سوريا من نظام الأسد، فرصة لبناء عهد جديد من الشراكة والازدهار بين البلدين، قائم على الثقة المتبادلة، واحترام سيادة كل دولة، والمصالح المشتركة لشعبيهما.
تشكّل هذه الإصلاحات تحدّياً هائلاً لأية حكومة جديدة، فما بالك بدولة أنهكتها عقود من الأزمات المالية والسياسية، وتواجه تداعيات حرب مدمرة. ومع ذلك، فإن ولاية حكومة سلام محدودة، حيث تنتهي في أيار/ مايو 2026، مع موعد الانتخابات البرلمانية المقبلة؛ وهي فترة قصيرة للغاية لإنجاز مهام بهذا الحجم. لكن ما يميّز هذه الحكومة، هو أنها قد تكون الأولى في تاريخ لبنان التي يمتلك رئيس وزرائها وعدد كبير من وزرائها، القدرة على العمل وفق نهج مختلف عن المنطق الطائفي التقليدي السائد في البلاد.
على رغم التحدّيات الجسيمة والعقبات السياسية التي يواجهها سلام، فإن الفرصة سانحة لكسر دائرة الفساد المستشري، وسوء الإدارة، وانعدام المساءلة التي باتت القاعدة في السياسة اللبنانية منذ نصف قرن. هذا قد يكون لحظة فارقة للإصلاح الجادّ، ووضع لبنان على طريق التغيير البنيوي الأوسع، وربما مستقبل أكثر إشراقاً.
زياد ياغي هو زميل غير مقيم في معهد “التحرير لسياسات الشرق الأوسط” (TIMEP)، يركّز على الحوكمة، والسياسة، والاقتصاد في لبنان. كما أنه الزميل الثاني في المعهد ضمن “برنامج محمد أبو الغيط للزمالة”.