حدث ذلك عشية عيد الميلاد في عام 1717 بل بالتحديد ابتدأت الحكاية قبل عيد الميلاد من العام السابق لتنتهي بعد يومين من نهاية العام. كانت حكاية قد تبدو اليوم طريفة وبالكاد تصدق. لكنها في ذلك الحين كانت شديدة الإيلام وليس فقط لضحيتها بل لـ”جلادها” أيضاً كما سوف نرى بعد سطور. وكان الجلاد والضحية معاً من علية القوم: الجلاد دوق فايمار الذي كان من كبار رعاة الفنون والفكر والأدب في الديار الألمانية كلها وعرف بتنويريته التي كان من شأنها وحدها أن تحزنه إذ يتحول إلى جلاد، إلى حد الاختناق لكنه وجد نفسه مساقاً إلى ذلك. أما الضحية فكبير موسيقيي ذلك الزمن:جان باخ، الذي كان قد وضع نفسه ومنذ سنوات طويلة في خدمة الدوق وكان يعتبر نفسه صديقاً ومحباً له حتى اللحظة التي لم يجد مفراً من أن يتحول هو فيها إلى ضحية ويحول سيده إلى جلاد.
لكن ما من واحد منهما كان ليريد لنفسه أن يلعب ذلك الدور الكريه وبخاصة الدوق الذي وجد نفسه مكرهاً على ذلك. ولم يتنفس الصعداء راضيا إنما حزيناً إلا بعد 25 يوماً “اضطر” خلالها إلى الإبقاء على موسيقيه المفضل أسير غرفته في القصر الدوقي. والحقيقة أن تلك الغرفة كانت سجناً ذهبياً تمتع فيه باخ بكل أنواع الراحة والرفاهية لكن مطلبه كان في نهاية الأمر واحداً: حريته. أما بالنسبة إلى الدوق فإن تلك الحرية كانت تعني شيئاً واحداً: اعترافه بأن الموسيقي لم يرتكب جرماً يعاقب عليه ولم يخطئ في حقه. كل ما في الأمر أنه أراد الرحيل بعيداً من القصر، وربما آسفاً وحزيناً هو الآخر. ولكن لم يكن في يده حيلة.
بين الدوق وابن أخيه
فتسع سنوات أمضاها في خدمة الدوق كعازف أرغن في البداية ثم كقائد للأوركسترا الدوقية كانت كفاية عليه وها هو الآن يريد أن يذهب بعيداً. بل ليس بعيداً تماماً: إلى مدينة لا تبعد سوى ساعتي سفر وربما أكثر قليلاً. لكن المشكلة أن تلك المدينة كانت هي ما يثير حنق الدوق على رغم أن سيدها الذي سيتوجه باخ للعمل لديه هو صهر ابن أخيه والدعوة من هذا الأخير مباشرة. نقول “على رغم أن” ولكن ربما يجدر بنا أن نقول “لأن”. فالحكاية كلها هنا. الحكاية هنا على رغم أن الود قائم بين الدوق وابن أخيه. لكن أن يكون بينهما ود شيء، وأن يفضل جان سيباستيان باخ ابن الأخ على العم فأمر آخر تماماً قد يرتضيه ذوق الدوق الفني الذي يمكنه اجتذاب موسيقيين كباراً في أية لحظة يشاء، لكن كرامته لا تقبل به. وهنا من جديد، تكمن الحكاية الحقيقية والتي لم يدرك باخ خلفيتها تماماً. ومن هنا كان لا يتوقف عن التساؤل وهو في سجنه: “ما بال هذا السيد يحرمني من حقي في الاختيار؟”. وكان أشد ما يثير استغرابه وهو يطرح على نفسه هذا التساؤل، وربما بشيء من السذاجة المفتعلة، أنه إنما تعرّف إلى ابن الأخ في قصر العم بالذات وعزفا الموسيقى معاً تحت رعايته وسط جو من الود الخالص. فما الجديد في الأمر؟
كل الحكاية
حسناً سنروي هنا الحكاية للموسيقي الكبير لعله يترك الفن جانباً بعض الشيء ويدرك الحياة نفسها. فقبل 9 سنوات من حكاية السجن تلك كان باخ قد استدعي للعزف في قصر الدوق مقابل مبلغ لم يكن ليحلم به. ولقد اشترط أن يعيد تركيب الأرغن الكبير على هواه فقبلوا وكلف التركيب مبلغاً كبيراً، وكذلك كان حال القاعة الكبرى التي بنيت خصيصاً كي يقيم حفلات عزفه فيها واتهم البعض الدوق بسببه بأنه قد جنّ. فضحك هذا الأخير كثيراً مستمتعاً بأريحية حين وصلته تلك الهمسات. فحبه للموسيقى كان أكبر من تقييمه للمال. والموسيقى بالنسبة إليه كانت جان سيباستيان باخ. ومن هنا لم يضن حتى على هذا الأخير بأن يأتي له بعقد مغر كذلك، بأخيه والتر مكلفاً إياه بصيانة دائمة لكل أورغنات المدينة. وهو لئن كان يستمع إلى عزف موسيقى جان سيباستيان بشغف فإنه بشيء من الخجل كان يطلب منه أن يعزف له في حفلات صاخبة ما يصلهم من إيطاليا من أعمال فيفالدي وكوريللي. وذات لحظة حين أحس الدوق أن الفنان بدأ يتذمر زاد له مرتبه بل عينه معلماً لحفلات الكونسير في قصره وفي الكاتدرائية الملحقة به، سيداً لأوركسترا عز نظيرها في ذلك الحين.
حان وقت الرحيل
ولكن ذات يوم وعلى غير توقع ووسط صمت شديد قرر باخ بينه وبين نفسه أن الوقت قد حان للرحيل. ولم يكن القرار مجانياً. بل انطلاقاً من أن منصباً كقائد أوركسترا في مدينة كوثيم غير البعيدة قد عرض عليه. لكن المشكلة أن من عرضه عليه كان هو نفسه الموسيقي الشاب ابن أخ الدوق المدعو إرنست أوغوست الذي كان أول الأمر يقيم في قصر الدوق وراح يعزف مع جان سيباستيان وقد ارتبط بصداقة فنية وثيقة معه ثم حين عاد إلى مدينته ودياره لم يكن بد من أن يعرض على صديقه الموسيقي الكبير أن يلحق به هناك مع زوجته وأطفاله ليعمل لديه… والحقيقة أن الدوق العم كان يتساءل طوال الوقت وهو يشاهد التقارب بين جان سيباستيان وإرنست أوغست عما يقارب بينهما، بين واحد من أكبر الموسيقيين في ألمانيا، وقريبه التافه الذي لا يفقه شيئاً في الموسيقى؟. لكن الأمور سرعان ما اتضحت حين تزوج ابن أخيه بشقيقة الأمير ليوبولد سيد مدينة كوثيم التي فيها قصر ملوكي وحياة فنية موسيقية صاخبة. وإذ انتقل العريس الشاب ليعيش في حمى صهره بدت الأمور واضحة. لقد رتب هذا الشاب مسألة انتقال صديقه الموسيقي للعمل في القصر المنيف وتكوين أوركسترا تبعا لأية شروط يرتئيها.
عقاب شبه صامت
وهنا أمام هذا الواقع الجديد أسقط في يد الدوق ولم تعد أريحيته تسعفه ولا سيما حين جاءه باخ يطلب إذناً بالتوجه إلى كوثيم. فعبس في وجهه. لكنه منحه الإذن بالتوجه إلى لوبيك لمدة ثلاثة أسابيع معتقداً أنها ربما تكون كافية لباخ كي يغير فكره. لكن باخ غاب طوال أربعة أشهر وهو عندما عاد بدا مصمماً على أن يغادر نهائياً هذه المرة. لكن الأمور لم تكن هذه المرة على السهولة التي تخيلها. فبالتدريج راحت طيبة الدوق تتلاشى. فهو لم يعد يهتم بالنوعية الموسيقية التي يمثلها باخ، بل بكرامته الخاصة وراح يكرر أسئلة ومحاكمات على أمور كان الموسيقي اقترفها لكنه أبداً لم يحاسبه عليها في الماضي. أما الآن… فها هو يتحول إلى جلاد. وكان يقنع نفسه قائلاً بأن الضحية نفسه هو الذي حوله جلاداً. إذاً سيجعله يدفع الثمن.
سوف يحاول إقناعه بشيء من الغلاظة بأن الأمور لا يمكن أن تكون على تلك البساطة. فإن لم يقتنع، سيمنعه من السفر، بل سيسجنه إذا اقتضى الأمر. وهكذا بكل هدوء وبالنظر إلى أن الدوق فلهلم لا يمكنه في نهاية الأمر أن يكون رجلاً سيئاً، أمر بأن يبقى باخ في غرفته عزيزاً مكرماً شرط ألا يبارح القصر. ومن ناحية أخرى منع الدوق أي عازف من العازفين العاملين مع باخ من التوجه للعزف في قصر ابن أخيه في كيثام. وخلال ذلك كله تحلى باخ بالصبر المطلق وراح يعد الأيام. ولم يبال حتى حين أمضى ليلة الميلاد وحيداً في غرفته ممنوعاً حتى من ملاقاة عائلته المقيمة على بعد خطوتين منه.
لكن قلب الدوق لان في نهاية الأمر، وهكذا انتظر انقضاء أعياد نهاية العام ليوقع عند الصباح الباكر ورقتين في واحدة منها يحرم باخ من كل حقوق له في ذمته، وفي الثانية يسمح له بالتوجه إلى حيث يشاء على أن يلقى كل ترحيب إذا شاء أن يعود فيكون مكرماً كما كان دائماً. وهكذا انتهت تلك الحكاية ليغادر باخ وأسرته القصر من دون أن يودع الدوق. ولو فعل للاحظ من دون شك دمعتين كان يمكن أن تنهمرا على وجنتي هذا الأخير…