تابع الأوروبيون والأوكرانيون بقلق، ومن “دكّة الاحتياط” كما يقال في عالم كرة القدم، محادثات بين مسؤولين من كل من الولايات المتحدة وروسيا بشأن الحرب في أوكرانيا استضافتها الرياض.
قد يكون صحيحاً أن الطرفين الروسي والأميركي لم يحدّدا بعد موعداً للقاء الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، لكنهما اتفقا على ضرورة رفع القيود على العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، مما يُعدّ إسقاطاً لإحدى أقوى أوراق الضغط الغربية على موسكو.
في المقابل، استبقت القوى الأوروبية الوازنة اجتماع الرياض بقمة تنسيقية في باريس بحثاً عن مقاربة تتيح استمرار الدعم لأوكرانيا بدون إدارة ترامب… فلماذا يجازف ساكن البيت الأبيض بالعلاقات الأطلسية من أجل موسكو؟ وما دور السعودية في هذه المفاوضات؟ وما بدائل كييف؟
الواقعية السياسية أميركياً
قد يظن البعض أن إنهاء حرب أوكرانيا يتطلب تنازلات من جميع الأطراف، بحيث تكون أوروبا جزءاً من هذه المحادثات حسب تصريح وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بأن هناك عودة إلى الواقعية السياسية لمقاربة ترامب على عكس موجة الانتقادات التي وُجّهت له منذ عودته إلى البيت الأبيض. علماً بأن ذلك يتوقف على المفهوم الذي تتبناه واشنطن للواقعية السياسية أي مصلحة الولايات المتحدة، إذ اقتصر اجتماع الرياض على جس النبض الأميركي-الروسي أكثر من الخوض في مسار حل الحرب الروسية في أوكرانيا، فيما الواقعية السياسية تنطوي على مراعاة البيت الأبيض والخارجية الأميركية بقناعة بأن هناك استحالة لاجتراح معجزة حل ما لم تكن الأطراف المعنية مباشرة أو تصغير أو تغييب الدور الأوروبي، خصوصاً أن الصراع الحقيقي ليس بين موسكو وكييف بل إن أم المشاكل تتجلى في البعد الجغرافي لتمدد نفوذ حلف شمال الأطلسي “الناتو” في شرق القارة الأوروبية.
لا شك في أن القمة سطرت خسارة استراتيجية لأوروبا وأوكرانيا، خصوصاً أن هناك مسألتين لا تزالان غامضتين في الموقف الأميركي:
– هل إرسال ترامب لروبيو للتباحث مع نظيره الروسي سيرغي لافروف يأتي لإتمام صفقة سياسية بمعنى القبول بالأمر الواقع أي سيطرة روسيا على الأقاليم الشرقية لأوكرانيا وتنتهي بتوقيع الرئيسين ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين أم أن النخبة السياسية في واشنطن تدرك جيداً أن هناك أطرافاً آخرين ومصالح أخرى متشابكة، بحيث لا يمكن إخضاع القضية الأوكرانية لمنطق بازار الصفقات.
– أما التساؤل الثاني فهو: هل تنتهي استضافة الرياض لهذه الجولة من المباحثات على صعيد روبيو ولافروف عند حدود “الكرم السياسي” أم هناك وساطة سعودية نشطة لمواصلة التباحث مع جميع الأطراف بدءاً من موسكو مروراً بكييف وبروكسل، وصولاً الى واشنطن قد تتوّج بقمة بين ترامب وبوتين على غرار قمة ريكيافيك العاصمة الآيسلندية التي جمعت بين الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان والسكرتير العام للحزب الشيوعي السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف.
مزاحمة تركية للسعودية
يتزامن ذلك مع دخول الرئيس التركي رجب طيب إردوغان على خط استضافة محادثات سلام محتملة في محاولة للترويج لبلاده على أنها المكان الأرجح والأفضل لإتمام صفقة القرن كما باتت تُعرف، خصوصاً أن تركيا ابتدعت اتفاق الحبوب بين أوكرانيا وروسيا بالتنسيق مع الأمم المتحدة.
أمام ذلك، ينبغي التذكير بأن ترامب لم يكن ينظر إلى أنقرة بعين الرضى في عامي 2017 و2018، إثر احتدام الخلاف السياسي والشخصي مع إردوغان وما ترتب على ذلك من تدهور قيمة الليرة التركية والتأثيرات السلبية التي طالت القطاع السياحي التركي، إذ فعلت العقوبات الأميركية الخفيّة فعلها في الاقتصاد التركي.
لذلك لا يمكن التعويل على تركيا نظراً إلى رصيدها السياسي والديبلوماسي المستقر معطوفاً على مزاجية ترامب، الأمر الذي قد لا يتخطى إن حدث أكثر من استضافة بروتوكولية.
إذن لا يمكن أن نلتمس في الموقفين التركي والسعودي أن هناك نواةً لمبادرة وساطة مصحوبة بمبادرة ديبلوماسية طويلة النفس لا يمكن البناء على رمزية المكان أو العاصمة التي يمكن أن يلجأ إليها الأميركي والروسي، ذلك أن من يتمعّن بالنص الذي أصدرته الخارجية الأميركية لا يجد ما يرتقي لخيط ديبلوماسي يمكن أن ينسج عليه بعد أيام أو أسابيع للتوصّل إلى صفقة.
محفّزات روسية لأوكرانيا
فتحت تصريحات المتحدث باسم الكرملين ديميتري بيسكوف التأويلات حول تأكيد بوتين استعداده التفاوض مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إذا لزم الأمر… ما يدفعنا للقول إن روسيا أدركت أنها كشفت عن الكثير من أوراقها في هذه الحرب، بحيث كان بوتين يريد تثبيت نظرية نيكولاس سبيكمان، أحد منظمي الحرب الباردة، الذي كان يقول يجب أن يكون هناك تقاسم للنفوذ في أوروبا بين شطري نهر البه الذي يمرّ عبر ألمانيا وتشيكيا…
ففي البداية كان سقف بوتين عالياً ليدفع حلف شمال الأطلسي للتراجع إلى خطوط وحدود عام 1997، لكن هذا ما لم يحدث، خصوصاً بعدما أيقن أن الناتو انتصر عليه إثر ضمّه حليفين قويين هما فنلندا والسويد ليمتّن بذلك جبهته الشرقية، فضلاً عن كشف الناتو لمعظم أنواع الأسلحة الروسية في استعداد مبطّن لمواجهة حتمية مستقبلية مع روسيا.
إذن بات بوتين يعلم أنه لا يمكن الاستمرار أكثر في حربه ووجد في قدوم ترامب فرصة ذهبية لكسب الوقت والتقاط أنفاسه.
تصدّع أوروبي عشوائي
أمام هذا المشهد تستأهل العواصم الأوروبية حصتها من النقد في اعتزام باريس، برلين ولندن إرسال قوات إلى أوكرانيا، ذلك أن القادة الأوروبيين، قبل ثلاث سنوات من نشوب حرب أوكرانيا أضاعوا أكثر من فرصة للتحوّل إلى منصة ديبلوماسية من شأنها كسر التصعيد والتصعيد المضاد بين الكرملين والبيت الأبيض، خصوصاً أن الرئيس الأميركي السابق جوزف بايدن كان يستثمر في كونه الشخصية الأميركية التي تنفخ في حلف شمال الأطلسي، الأمر الذي كان في جلّه ينطوي على مآرب انتخابية داخل واشنطن أكثر من خدمة الموقف الأوروبي. كما كان باستطاعة الأوروبيين وضع معادلة الحرب والسلام مهما طالت مدة الحرب، ذلك أن التفكير حالياً في تعزيز القدرات الأوكرانية على القتال وحتى إنزال لجنود فرنسيين أو ألمانيين أو سواهم في أرض النزال يُعدّ مجازفة بما يتناقض مع مبدأ وعلم حلّ النزاعات، إذ لا يمكن إدارة الصراع في ظل الظروف الراهنة المعقدة بمزيد من التصعيد لأنه سيقابل بتصعيد آخر في وقت يبحث فيه الجميع عن المعادلة الصفرية وفي ظل عدم وحدة الصف الأوروبي.
في الختام، تبقى المعضلة وحلّها في البيت الأوروبي المفكك وغير القادر على ما هو مطلوب منه إذ ينبغي أن تحضر الحكمة لدى العواصم الأوروبية لإطلاق مبادرة ديبلوماسية وتسوية الخلاف مع الكرملين بمعيار وخلطة سرية أوروبية محضة وليس بالضرورة وفق المعايير الأميركية المتعددة الأوجه والوجهات.