لم تكن الفلسطينية نورا أبو حسان تعلم أثناء تحضيرها لاستقبال مولودها الجديد، أن فراقا وخطرا سيداهمانها قبل موعد ميلاده، حيث انطلقت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهي حامل في شهرها السابع، ما أجبرها على الولادة مُبكرا بسبب قصف إسرائيلي مُلاصق لمنزلهم من دون سابق إنذار، في رابع أيام الحرب.
وضعت أبو حسان (38 عاما)، مولودها الثالث في مُجمع الشفاء الطبي بعدما خيرها الأطباء بين الانتظار مع احتمالات كبيرة لفقدانه، وبين ميلاده مُبكرا ووضعه في حضانات المستشفى، لتوافق على ما هي مُجبرة عليه تحت ظروف نفسية صعبة، وتنتقل من منزلها في حي الرمال وسط مدينة غزة الذي تضرر بشكل كبير، إلى منزل أقاربها بحي الشجاعية شمال المدينة، فيما بقي طفلها في الحضانات.
مرت أيام عدة وهي بعيدة عن طفلها فيما استمرت الضربات الإسرائيلية بوتيرة مرتفعة طالت كل مناطق القطاع من دون تمييز، مما أدى إلى خسائر بشرية ومادية غير مسبوقة للسكان، حتى طالها وعائلتها القصف للمرة الثانية في الحي الذي لجأوا إليه، ما اضطرهم لاتخاذ قرار النزوح الثاني، لكن هذه المرة إلى أقصى الجنوب، إلى مدينة رفح.
عادت وزوجها إلى مُجمع الشفاء وطالبتهم بأخذ طفلها، لكنهم رفضوا كونه يتغذى من أنفه كما أخبروها، وبحاجة إلى أكسجين بشكل دائم حفاظا على حياته. تقول: “أخبرت الأطباء أننا مضطرون للنزوح إلى رفح، لم يُمانعوا أو يعترضوا وأخبروني أن أترك طفلي في رعاية الله، وهم سيعملون على تقديم كل الخدمات الطبية المُتاحة له داخل الحضانة”… تركته ونزحت للجنوب مع زوجها وأطفالها.
نزحت في بداية نوفمبر/تشرين الثاني، واستقرت في منزل أقاربها، تقول لـ”المجلة”: “مشاعر الفراق لا يمكن وصفها، كنت أبكي ليل نهار اشتياقا لطفلي الذي لا أعلم عنه شيئا ولا أعلم ما سيكون مصيره، فقدت طفلا في السابق وأعلم جيدا ماذا يعني أن تفقد أم طفلها، لا أريد فقدان طفلي الثاني، قلبي لن يتحمل”.
افترقت الأم عن طفلها ولم تعلم عنه شيئا لنحو أسبوعين، في الوقت الذي كان يجتاح فيه الجيش الإسرائيلي مدينة غزة وشمال القطاع وصولا إلى مُجمع الشفاء الطبي الذي قال إنه يحتوي على أنفاق أسفل المباني الطبية للفصائل الفلسطينية، حيث وصلت الدبابات المُحملة بالجنود إلى مشارف المستشفى واقتحمته دون اكتراث لحالة المرضى والجرحى، وحتى الأطفال داخل حضّانات مبنى الولادة.
كانت نورا أبو حسان تتابع ما يجري بحرقة، تقول: “ليل نهار أبكي ومش عارفة كيف أوصل لطفلي، ولا عارفة إذا عايش أو لا”. استمرت على حالها، حتى علمت بتمكن الأطباء والإسعافات من نقل 31 من الأطفال الخُدّج في حضانات مُجمع الشفاء إلى مستشفى بمدينة رفح، تمهيدا لسفرها وحدها مع طفلها دون بقية الأسرة التي بقيت لدى أقاربها في رفح.
ويقول رئيس وحدة العناية المركزة للمواليد بمستشفى تل السلطان في رفح الدكتور محمد سلامة، لـ”المجلة”: “وصلنا 31 طفلا من مستشفى الشفاء كانوا يعانون من سوء تغذية ونقص في الحرارة والأكسجين، واستطعنا إنعاش بعض الأطفال قبل أن يتم نقل غالبيتهم إلى خارج القطاع لتلقي الرعاية الصحية اللازمة”.
كان في حضّانات مُجمع الشفاء الطبي 36 طفلا، فقد 5 منهم الحياة بسبب سوء الأوضاع الصحية وقدرة الطواقم الطبية على تقديم الرعاية اللازمة لهم، في وقت كان بعض من الأطفال الآخرين قد فقدوا أمهاتهم أو آباءهم بسبب القصف الإسرائيلي. ويضيف سلامة: “هناك طفل مجهول الهوية، وُجد على شجرة بعد قصف منزل بغزة ولا أحد يعلم من هي عائلته حتى الآن”.
عمل الطاقم الطبي على تقديم الرعاية الطبية لهؤلاء الأطفال بعدما نشرت وزارة الصحة في غزة أسماء الأطفال الذين نقلتهم إلى رفح، إلا أنّ 20 في المئة فقط من العائلات تمكنوا من الوصول إلى أطفالهم، وآخرون أرسلوا من ينوب عنهم. “أقل من نصف الأطفال وصلوا إلى عائلاتهم، فيما العدد الأكبر منهم لم يستقبلهم أحد من أسرهم أو أقاربهم. في اعتقادي غالبية عائلاتهم سقطوا خلال القصف، الأمر الذي اضطرنا لتخصيص خمسة ممرضين لمرافقة هؤلاء الأطفال بدلا من عائلاتهم خلال سفرهم إلى مصر لتلقي الرعاية اللازمة”، يقول سلامة.
مثل عائلة أبو حسان، كانت عائلة عوض من مخيم جباليا شمال قطاع غزة، أيضا من العائلات التي علمت بوصول طفلها إلى مستشفى تل السلطان. يقف الأب خليل عوض (25 عاما) برفقة زوجته في انتظار تحضير طفلهما البِكر، والذي اضطرت أمه لولادته قيصريا في شهره السابع بمجمع الشفاء الطبي أثناء نزوجهم من المخيم إلى مدينة غزة مشيا. يقول الأب: “بعدما ولد واضطررنا للنزوح إلى غزة كنت يوميا أزوره في المستشفى خلال إيصالي له الحليب الخاص من أمه، حتى اضطررنا للنزوح القسري إلى جنوب القطاع من دونه”.
تبكي الأم دون أن تستطيع الحديث عن مشاعرها أثناء اضطرارها لترك طفلها وحيدا يتلقى رعاية صحية أقل من الحد الأدنى بسبب عدم قدرة الطواقم الطبية على التعامل مع الحالة التي أُجبروا عليها خلال الاجتياح الإسرائيلي البري ومُحاصرة مُجمع الشفاء، ليتولى الأب الحديث عنها بصوت مُتهدج. يقول: “هو طفلنا الأول، وصعب أن نصف مشاعرنا وإحنا تحت القصف والنزوح، وكمان ما بنعرف عنه إشي غير من الأخبار، بنسمع عن الوضع في مُحيط الشفاء، الحمد لله سيسافر مع زوجتي وأنتظر هنا حتى عودتهما”.
وقتلت إسرائيل خلال حربها على غزة، أكثر من 15 ألف فلسطيني، منهم 6150 طفلا وأكثر من 4 آلاف امرأة، والعشرات من الأطفال فقدوا أمهاتهم وربما عائلاتهم بأكملها كالطفلة شام (12 عاما)، إذ تعرض منزل عائلتها في شمال قطاع غزة للقصف المُباشر من الجيش الإسرائيلي دون سابق إنذار أو تحذير بالإخلاء، ما أدى إلى دمار المنزل فوق رؤوس العائلة التي قُتلت جميعها مع عدا طفلتها الوحيدة التي بقيت على قيد الحياة مُصابة في قدميها وتعالج في المستشفى.
الطفلة شام وصلت إلى مُجمع ناصر الطبي خلال عملية إخلاء المستشفى الأندونيسي في شمال قطاع غزة قبل أيام معدودة من الهدنة الإنسانية التي اتفقت عليها حركة “حماس” وإسرائيل برعاية عربية ودولية، وبدأت في 24 نوفمبر/تشرين الأول وانتهت الجمعة في الأول من ديسمبر/كانون الأول. تقول لـ”المجلة”: “أهلي كلهم قتلوا في يوم واحد، يعني عائلتي كلها راحت في يوم واحد، ما ضل إلي حدا، قتلوا كل حبايبي”.
وصلت الطفلة لاستكمال علاجها ضمن باصات كبيرة نسّق لها الصليب الأحمر لإخلاء المصابين وبعض النازحين من المستشفى الإندونيسي إلى مستشفيات جنوب القطاع، وفي ساعات الليل تحت تهديد الدبابات والجنود المُدججين بالسلاح، ومن دون أي حماية أو حنان عائلي. “اشتقت لعيلتي، نفسي يكونوا معي، لكن حتى ماما استشهدت، ومش عارفة، احنا أطفال… إيش ذنبنا هيك نتعذب ويصير فينا”.
شام، واحدة من عشرات الأطفال الذين وصلوا إلى مستشفيات جنوب قطاع غزة، من دون مرافق، قلة منهم بقيت عائلاتهم في غزة وشمال القطاع حتى اليوم، لكن غالبيتهم فقدوا ذويهم خلال قصف منازلهم ولم يستطيعوا وداعهم، وآخرون لم يستطع أحد دفنهم وبقيت أجسادهم مُحاطة برُكام منازلهم بسبب عدم قدرة وصول طواقم الدفاع المدني لأماكنهم، وعدم توفر الأدوات اللازمة لانتشالهم من تحت الأنقاض. فيما أخرج الأطفال للعلاج، ومنهم من يستعد للسفر إلى دول عدة عن طريق معبر رفح، وآخرون خرجوا بالفعل للبدء في تلقي العلاج.