جاءت نتائج الانتخابات الألمانية في 23 الشهر الماضي (فبراير/ شباط) متوافقة، إلى حد كبير، مع التوقعات واستطلاعات الرأي قبل الانتخابات. فحل أولاً بنسبة 28.5% الاتحاد المسيحي (CDU/CSU)، بزعامة فريدريش ميرز. تلاه حزب البديل (AFD)، اليميني المتطرف، بزعامة أليس فايدل، بنسبة 20.8%، أما الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPD) بزعامة أولاف شولتز الذي كان يتزعم الائتلاف الحاكم، فقد جاء في المرتبة الثالثة بنسبة 18.5%. وكان لافتاً حصول حزب اليسار Die Linke على نسبة 8.8 % وانتزاعه الصدارة في برلين، كبرى المدن الألمانية. كما كان لافتاً أيضاً أن حزب البديل لم يحقق، كعادته، أعلى الأصوات في الولايات الشرقية من ألمانيا فحسب، بل حصل على نتائج متقدمة في الولايات الغربية، المحسوبة على الأحزاب الكبرى.
لم تشهد ألمانيا منذ 1990 مشاركة واسعة في الانتخابات، كما حصل هذه المرّة، حيث بلغت 83%، أي حوالي 50 مليوناً من أصل حوالي 60 مليوناً يحق لهم التصويت. الأمر الذي فُسّر بتذمر الألمان من الأوضاع الراهنة، على مختلف الصعد، ورغبتهم في التغيير.
في الحديث عن دوافع التصويت، وأولويات الناخبين، أفادت استطلاعات رأي منشورة على موقع قناة ZDF بأن الأمن والسلام جاء أولاً بنسبة 51% تلاه الاقتصاد بنسبة 40% ثم العدالة الاجتماعية بنسبة 34%. أما قضايا اللجوء والهجرة فقد جاءت رابعاً بنسبة 28%، لكنها تقدّمت على قضايا المعاشات التقاعدية وحماية المناخ. وهنا لا بد من الإشارة إلى البروباغندا التي تمارسها قوى اليمين بتسويقها فكرة أن حل مشكلة اللاجئين، أي تخفيف أعدادهم، والحد من الهجرة، سوف ينعكس إيجاباً على ملفي الأمن والاقتصاد. ولم يعد الأمر هنا يقتصر على اليمين المتطرّف، بل تعداه إلى اليمين التقليدي، حيث زاود الاتحاد المسيحي على حزب البديل في كيفية معالجة ملف اللاجئين. ولذلك لم يكن مستغرباً أن يعتقد المستطلعة آراؤهم في الموقع المذكور أعلاه أن حزب الـ CDU أكثر كفاءة من حزب الـ AFD اليميني المتطرّف، ليس في معالجة قضايا الاقتصاد فقط، بل في التعامل مع ملف اللجوء أيضاً.
تولد أساليب الابتزاز والتهديد والوعيد والعنجهية، التي تتعامل بها إدارة ترامب مع الدول، مشاعر الغضب والحقد والكراهية لدى الشعوب، وتستثير مشاعرهم القومية
هناك عوامل عديدة تفعل فعلها في التصويت، ليس منها، بالضرورة، القناعة الكاملة بمبادئ هذا الحزب أو ذاك وتوجّهاته، فعلى سبيل المثال، ليس كل من صوّت لحزب البديل، هو بالضرورة، يميني متطرّف، وعنصري كاره للمهاجرين واللاجئين والمسلمين، فقد يكون دافع التصويت لدى أصحاب الدخل المحدود أو العاطلين عن العمل، على سبيل المثال، هو ذلك الوهم المتخيّل، الذي يزرعه اليمين الشعبوي، في أذهانهم، بأن الحدّ من تدفق اللاجئين، والخروج من منطقة اليورو، سيؤدّي إلى تحسين الأوضاع المعيشية وزيادة فرص العمل. كذلك، استغلّ اليمين المتطرّف، حصول عمليات إرهابية نفّذها أشخاصٌ من أصول مهاجرة، لتأكيد صحّة ما يدّعيه أن المهاجرين هم مصدر تهديد للأمن والسلام الاجتماعي في ألمانيا. وهنا يأتي الدور المفقود لليسار في تفكيك خطاب اليمين المتطرّف ودحض ادعاءاته. ليس بالشعارات، بل استناداً إلى الوقائع والأسس العلمية.
وحقيقة، لا يمكن الإحاطة بظاهرة صعود اليمين من دون التوقف عند دور اليسار. فكيف تمكّن حزب البديل من التأثير على شرائح وطبقات اجتماعية، كان حرياً باليسار أن يكون المعبر عنها وعن مصالحها؟! ليس المقصود باليسار، الحزب الديمقراطي الاجتماعي SPD الذي يصنف نفسه يسارياً، و أراه حزباً ليبرالياً اجتماعياً، وإنما المقصود هو حزب DIE LINKE. فلا برامج هذا الحزب ولا أساليب عمله مكنته حتى الآن من إحداث اختراق كبير في صفوف المجتمع الألماني، بما يؤهله إلى طرح نفسه، بديلاً حقيقياً عن الأحزاب الرئيسية التي لطالما تناوبت على الحكم. وبدلاً من العمل على توحيد اليسار واستقطاب المجموعات اليسارية الصغيرة المنتشرة هنا وهناك في ألمانيا، نجده قد تعرض لانشقاق كبير، قادته سارا فاغنكنيشت، الزعيمة السابقة للحزب، التي أسست، منذ عام ونيف، حزبها الخاص الذي خاض الانتخابات الأخيرة، لكنه فشل بتجاوز عتبة الـ 5% اللازمة لدخول البرلمان. فحظه العاثر، جعله يحصل على 4.9% من الأصوات. وعليه، يصح القول، لو لم يكن حزب اليسار DIE LINKE مقسوماً، وأضفنا هذه الأصوات إلى نسبة 8.8% التي حصدها، لكانت نسبته 13.7% من أصوات الناخبين الألمان، وهي نسبة، كان سيكون لها ما بعدها.
تعاني ألمانيا اليوم، حال بلدان أوروبية كثيرة، أزماتٍ اقتصاديةً عديدة، كالركود الاقتصادي، وانخفاض معدّلات النمو، وتراجع الصادرات
تعاني ألمانيا اليوم، حال بلدان أوروبية كثيرة، أزماتٍ اقتصاديةً عديدة، كالركود الاقتصادي، وانخفاض معدّلات النمو، وتراجع الصادرات و…إلخ. يعود السبب إلى طبيعة النظام الرأسمالي الذي من عادته توليد الأزمات. إضافة إلى عوامل أخرى، منها، المنافسة الصينية، وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، التي أدّت إلى ارتفاع كبير في أسعار الطاقة والمواد الغذائية وغيرها من السلع. من غير المستبعد أن تتعمّق الأزمة الاقتصادية في ألمانيا، بفعل ضغوط الولايات المتحدة على القارة الأوروبية، من أجل زيادة إنفاقها الدفاعي في حلف الناتو، من 2% إلى 5%. وعزمها زيادة الرسوم الجمركية على الواردات الأوروبية لتصل إلى 25%. وأساليب الابتزاز والتهديد والوعيد والعنجهية، التي تتعامل بها الإدارة الأميركية بزعامة ترامب، مع الدول، لا تولد لدى شعوب هذه الدول مشاعر الغضب والحقد والكراهية فقط، بل تستثير مشاعرهم القومية أيضاً. وهنا، قد يكون مفيداً التذكير بأن ألمانيا قد أجبرت، بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، على توقيع معاهدة فرساي التي ألزمت بموجبها بدفع تعويضات كبيرة للحلفاء. وقد نظر الألمان إلى هذه المعاهدة وبنودها أنها إذلال لهم، ومس بكرامتهم الوطنية. الأمر الذي جعلها، في نظر دارسين عديدين، أحد أسباب صعود النازية، بالإضافة إلى أسباب ذات العلاقة بالاقتصاد والأيديولوجية و… إلخ.
فور ظهور نتائج الانتخابات، وتقدّم “الاتحاد المسيحي”، بنسبة لا تؤهله إلى تشكيل حكومة وحدهُ، أعلن ميرز، مرشّح الاتحاد لمنصب المستشار، أنه يريد التحالف مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي لتشكيل الحكومة. وجدّد رفضه القاطع للتحالف مع حزب البديل. فردّت عليه فايدل، بنبرة تحدّ، أن حزبها هو من سيشكل الحكومة في الانتخابات المقبلة، فهل صعود اليمين المتطرف في الانتخابات أخيراً، وميل اليمين التقليدي إلى أن يكون أكثر يمينية من قبل، يستدعي أن تُؤخذ على محمل الجدّ مخاوف بعضهم من أن ألمانيا تتجه نحو الفاشية، أم في ذلك كثير من المبالغة؟