أكثر ما يثير قلق واشنطن هو الهجمات على القواعد الأميركية في العراق وسوريا
لم تطلق أزمة غزة حربا إقليمية واسعة النطاق في الشرق الأوسط، كما توقع البعض، ولم تلحق الضرر بأسواق الطاقة والاقتصاد العالميين. ورغم الهدن الممددة وصفقات تبادل الأسرى، فإن استمرار الحرب وانتقالها من شمال قطاع غزة إلى جنوبه يهددان بتدحرج الحرب في الشرق الأوسط. وتواصل إسرائيل عملية “السيوف الحديدية” في غزة بذريعة تدمير مقدرات “حماس” وخلق قطاع غزة يحكمه أي طرف آخر غيرها. لكن مخاطر حصول تداعيات إقليمية سواء بصدام أو تسويات أميركية– إيرانية لا تزال قائمة خصوصا إذا استمرت الحرب لفترة طويلة.
أفادت تقارير بأن إيران أبلغت “حماس” بأن عدم معرفتها مسبقا بهجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول يعني أن طهران لن تتدخل في الصراع على نحو مباشر وواسع. إلا أن وكلاء إيران ردوا على إسرائيل وأميركا في ثلاث ساحات إقليمية مختلفة:
الأولى: هجمات يشنها “حزب الله” على طول الحدود الإسرائيلية اللبنانية، وترد عليها إسرائيل.
الثانية: إطلاق “الحوثيين” صواريخ بعيدة المدى وطائرات مسيرة من اليمن، اعترضتها إسرائيل والولايات المتحدة، أو أسقطتها في مناطق فارغة، إضافة إلى “صور استعراضية” لمسيرة إيرانية فوق حاملة الطائرات الأميركية بالخليج.
الرد الثالث: وربما أكثرها من حيث عدم التوقع- مع عواقب سياسية غير معروفة بالقدر نفسه- فيشمل ما تقوم به الميليشيات المدعومة من إيران من تصعيد عسكري أفقي ضد القواعد العسكرية الأميركية في سوريا والعراق، وهو تصعيد متواصل منذ عدة أشهر، على الرغم من الضربات العسكرية الأميركية المتعددة. وكان أحد تجليات هذا التصعيد، قصف أميركي على ميليشيات إيرانية في العراق، هو الأول منذ تسلم إدارة بايدن.
منذ هجوم “حماس” يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، يتبنى “حزب الله” يوميا مسؤوليته عن الكثير من الهجمات على إسرائيل، والتي يعقبها عادة رد إسرائيلي. هذه الدينامية دفعت إسرائيل في 18 أكتوبر/تشرين الأول، إلى أن تأمر بإجلاء المدنيين بعيدا عن الحدود مع لبنان بخمسة كيلومترات، قابلها من الجانب اللبناني إخلاء معظم القرى بعيدا عن الحدود ضمن النطاق نفسه أيضا. وحتى تاريخ 20 نوفمبر/تشرين الثاني، قتل على الجانب اللبناني أكثر من 70 مقاتلا من “حزب الله” و10 مدنيين لبنانيين، في حين قتل على الجانب الإسرائيلي 10 إسرائيليين، بينهم 7 جنود. ثم أعلن عن مقتل عناصر من “نخبة” الحزب بقصف إسرائيلي.
ويظهر التحليل التفصيلي ما بين 7 أكتوبر/تشرين الأول و20 نوفمبر/تشرين الثاني أن “حزب الله” شن حوالي 200 هجوم انطلاقا من لبنان، استخدم فيها أسلحة مضادة للدبابات أو مدفعية أو صواريخ أو طائرات مسيرة. أهم هذه الهجمات حتى الآن كانت ليلة 20 نوفمبر/تشرين الثاني، عندما أطلق “حزب الله” صواريخ “بركان” على مقر قيادة “الفرقة-91” من القوات الإسرائيلية في بيرانيت، وألحقت به أضرارا جسيمة. كما هاجمت جماعات فلسطينية عاملة في لبنان إسرائيل بدرجة أقل. وأعلنت “كتائب عز الدين القسام” التابعة لـ”حماس” مسؤوليتها عن 8 هجمات صاروخية من لبنان في الفترة نفسها، استهدفت نهاريا أو سقطت في مناطق مفتوحة واعترض الجيش الإسرائيلي الكثير منها. وحاولت “كتائب القدس” التابعة لـ”حركة الجهاد الإسلامي” الفلسطينية التسلل مرتين من لبنان إلى إسرائيل، في حين شنت “قوات الفجر” التابعة لـ”الجماعة الإسلامية” ثلاث هجمات صاروخية من لبنان على شمال إسرائيل.
وتظهر هذه الهجمات أن “حزب الله” وإسرائيل قد طورا قواعد اشتباك غير معلنة. فـ”حزب الله” لا يستهدف المدنيين (باستثناء الهجوم على عمال محطة توليد الكهرباء الذين ادعى “حزب الله” أنهم جنود يقومون بتثبيت آلات تصوير وغيرها من “أجهزة التجسس”). كما يستهدف الحزب في المقام الأول المواقع العسكرية الإسرائيلية ويمتنع في الغالب عن شن هجمات أبعد من منطقة الإخلاء التي يبلغ عمقها خمسة كيلومترات داخل إسرائيل.
من جانبها، تستهدف إسرائيل “حزب الله” في المقام الأول، ردا على هجماته، وتستهدف فقط مصادر نيران “الحزب”، باستثناء بعض الغارات الجوية الاستباقية على مواقع إطلاق الصواريخ، وتستخدم الفوسفور في مناطق الغابات لحرق النباتات، بهدف حرمان “حزب الله” من الغطاء الذي توفره هذه الأرض. وفي الفترة ما بين 7 أكتوبر/تشرين الأول، و20 نوفمبر/تشرين الثاني، نفذت إسرائيل ما بين 350 إلى 400 غارة جوية أو قصف مدفعي، استهدفت مواقع في جنوب لبنان.
عمليات البحر الأحمر
شن “الحوثيون” كثيرا من الهجمات الصاروخية والهجمات بالطائرات المسيرة على إسرائيل خلال أكتوبر/تشرين الأول الماضي وهددوا وحاولوا مهاجمة السفن الإسرائيلية في مضيق باب المندب. وعلى الرغم من أن إسرائيل والولايات المتحدة تمكنتا من اعتراض صواريخ “الحوثيين” وطائراتهم المسيرة، إلا أنهم أثبتوا قدرتهم على إحداث الفوضى في المنطقة حين أسقطوا طائرة أميركية مسيرة قبالة سواحل اليمن، وضربهم ولو من دون قصد مناطق في مصر والأردن.
بدأ “الحوثيون” بالرد في أعقاب ما أحدثه القصف من انفجار في المستشفى الأهلي يوم 19 أكتوبر/تشرين الأول، فأطلقوا ثلاثة صواريخ كروز وعددا من الطائرات المسيرة أسقطتها السفينة الأميركية “يو إس إس كارني” فوق البحر الأحمر. ورجحت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن الهدف المقصود هو إسرائيل. وأفادت تقارير بأنه تم إسقاط أحد الصواريخ التي ضلت.
وبعد ذلك في 27 أكتوبر/تشرين الأول تحطمت طائرتان مسيرتان مجهولتان في مدينتي طابا ونويبع المصريتين.
وفي الوقت نفسه، أبلغت إسرائيل عن تهديد جوي من البحر الأحمر، وهو ما يشير إلى أن “الحوثيين” أطلقوا على الأرجح طائرات مسيرة بهدف مهاجمة إسرائيل. واعترض الجيش الإسرائيلي إحدى الطائرات المسيرة فوق البحر الأحمر بالقرب من نويبع، وتحطمت الطائرة الأخرى في طابا قريبا من الحدود الإسرائيلية.
وبعد بضعة أيام وبتاريخ 31 أكتوبر/تشرين الأول، زعم “الحوثيون” أنهم أطلقوا وابلا من الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز على جنوب إسرائيل، ولم يصل أي منها إلى هدفه المعلن.
وتشير تقارير استخبارية غير سرية إلى سقوط أحد هذه الصواريخ في منطقة المدورة في الأردن. وبعد فترة وجيزة بث الجيش الإسرائيلي لقطات تظهر طائرة مقاتلة من طراز “F-35″ وهي تعترض صاروخ كروز كما تظهر نظام الدفاع الصاروخي بعيد المدى وهو يعترض صاروخا باليستيا.
وأفادت تقارير في 5 نوفمبر/تشرين الثاني أنه تم إسقاط صاروخ آخر بالقرب من الحدود الأردنية، أعقبت ذلك غارة مزعومة لـ”الحوثيين” بطائرة مسيرة ضد إسرائيل في اليوم التالي- ولم يفضِ ذلك إلى أي رد إسرائيلي أو إلى إغلاق للمطارات أو لغيرها من المرافق.
إلا أن هذا المسار اتخذ انعطافة أكثر جدية في 8 نوفمبر/تشرين الثاني عندما أكد مسؤولو الدفاع الأميركيون أن الحوثيين أسقطوا طائرة عسكرية أميركية مسيرة من طراز “MQ-9” قبالة سواحل اليمن.
وفي 14 نوفمبر/تشرين الثاني، هدد “الحوثيون” علنا السفن الإسرائيلية في مضيق باب المندب، وأعقب ذلك محاولتهم الهجوم بطائرة مسيرة انطلقت من اليمن واعترضتها السفينة الأميركية توماس هودنر. وقد اشتبك طاقم السفينة مع هذه الطائرة المسيرة وأسقطوها ضمانا لسلامة السفينة وطاقمها ولم تسبب أي إصابة أو أذى.
وفي 18 نوفمبر/تشرين الثاني، استولى “الحوثيون” على سفينة شحن مرتبطة بإسرائيل، وهي “غالاكسي ليدر” التي ترفع علم جزر البهاما، وهي ناقلة يملكها ملياردير إسرائيلي. كانت هذه السفينة القادمة من تركيا مبحرة عبر البحر الأحمر في طريقها إلى الهند. وبحسب ما أوردته بعض التقارير مرت السفينة بمركب يشتبه أنه مركب الاستطلاع الإيراني “بهشاد”، المتمركز في البحر الأحمر غربي اليمن. وقد احتجز “الحوثيون” طاقم السفينة المكون من 25 فردا كرهائن، لكن لم يكن على متنها أي إسرائيلي. وأعلن “الحوثيون” بعد ذلك أنهم سيستهدفون السفن التي ترفع العلم الإسرائيلي والسفن التي تديرها أو تملكها شركات إسرائيلية أيضا.
وفي نهاية نوفمبر/تشرين الثاني، نشرت طهران صورا “استعراضية” التقطتها مسيرة إيرانية لحاملة الطائرات الأميركية “آيزنهاور” الموجودة في الخليج.
العراق وسوريا
لعل أكثر ما يثير قلق واشنطن هو مسار الهجمات التي تشنها الميليشيات المدعومة من إيران على القواعد الأميركية في كل من العراق وسوريا. وأظهر زملائي في “معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى”، من خلال التتبع التفصيلي للهجمات الإيرانية والهجمات الأميركية المضادة أن هذه الميليشيات شنت منذ 18 أكتوبر/تشرين الأول- مرة أخرى بعد انفجار المستشفى الأهلي مباشرة- قرابة 79 هجوما منفصلا ضد طواقم أميركية في العراق وسوريا. وقد شمل ذلك 44 هجوما على القواعد الأميركية في سوريا و35 هجوما في العراق، مستخدمة الصواريخ والقذائف وطائرات مسيرة تزداد دقتها على نحو مضطرد. بينما أعلنت وزارة الدفاع الأميركية في 14 نوفمبر/تشرين الثاني عن 28 هجوما ضد القوات الأميركية في سوريا و27 في العراق منذ 18 أكتوبر/تشرين الأول. (لا يحتسب البنتاغون أي تقارير مفتوحة المصدر عن هجمات ما لم يثبت أنها شنت ضد القوات الأميركية تحديدا، وهذا سبب الاختلافات في أعداد الهجمات). وبغض النظر عن العدد الدقيق، فإن وتيرة الهجمات ارتفعت بشكل كبير فوق المستويات الأساسية التي كانت معتادة قبل هجمات 7 أكتوبر.
يظهر تحليل البيانات أن الهجمات انطلقت من ثلاث مناطق. تركز الأولى على القواعد الأميركية شرق الفرات في شمال شرقي سوريا، وغربي العراق (عين الأسد) والتنف جنوب شرقي سوريا.
بينما تنطلق من الثانية هجمات من داخل شمال العراق ضد القواعد الأميركية شرق الفرات في الشدادي ورميلان في سوريا وشمالي العراق في مطاري أربيل وحرير.
تنطلق المجموعة الثالثة من الهجمات من عدد من قواعد الميليشيات الإيرانية على الضفة الغربية لوادي نهر الفرات الأوسط في سوريا، بما في ذلك صواريخ قصيرة المدى ضد القواعد الأميركية، و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في حقول النفط بدير الزور. كما تنطلق من المنطقة نفسها بعض هجمات الطائرات المسيرة بعيدة المدى على الشدادي ورميلان وتل بيدر.
وردا على هذه الهجمات، شنت إدارة بايدن ضربات على أهداف للميليشيات الإيرانية في سوريا يوم 27 أكتوبر، وفي 8 نوفمبر، و13 نوفمبر، أعقب كل منها بيان فوري بأن الرئيس الأميركي جو بايدن إنما يفعل ذلك دعما للقوات الأميركية. وبينما أوضح البيانان الصادران يوم 27 أكتوبر، ويوم 8 نوفمبر، أن الولايات المتحدة لا تريد مزيدا من التصعيد مع إيران، إلا أن مثل هذه الكلمات غابت عن البيان الصادر يوم 13 نوفمبر- وهي رسالة صامتة لكنها واضحة بأن المزيد من الضربات سيؤدي على الأرجح إلى رد فعل أكبر. وقد منح هذا الهجوم القوات الأميركية ليلة من السلام في 16 نوفمبر- بعد شهر تقريبا من انفجار المستشفى الأهلي- قبل أن تبدأ الهجمات مرة أخرى.
كما أعلن في 21 نوفمبر، أن الجيش الأميركي قصف مواقع لميليشيات إيرانية في العراق، لأول مرة منذ تسلم إدارة بايدن الحكم قبل حوالي ثلاث سنوات.
غياب القواعد الواضحة
وبينما تقلل إدارة بايدن من شأن هذه الهجمات، فإن كل حادث يزيد من فرص سقوط ضحايا أميركيين، ويزيد من العواقب السياسية على الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2024. وقال البنتاغون في 14 نوفمبر/تشرين الثاني إن 27 فردا من القوات الأميركية عانوا من ارتجاج دماغي بينما عانى 32 منهم من إصابات غير خطرة. وقد عاد جميع الجنود الـ59 إلى الخدمة الفعلية، وهذا يشير إلى أن واشنطن تمكنت حتى الآن من التعامل مع هذه الهجمات بفعالية ودون تكلفة كبيرة. غير أن كل هجوم يزيد من خطر وقوع حادث يؤدي إلى خسائر في الأرواح. وأي هجوم يسفر عن سقوط عدد كبير من الضحايا سيفضي إلى ارتفاع الدعوات من أقصى اليمين واليسار في الطيف السياسي الأميركي بأن تسحب واشنطن قواتها من سوريا والعراق. وهذا هو الهدف المعلن لـ”التحالف الثلاثي السوري”، الذي يضم نظام الأسد وإيران وروسيا، الذي كان منشغلا هذا الصيف بمحاولة دق إسفين بين “قوات سوريا الديمقراطية” المدعومة من الولايات المتحدة، والقبائل العربية المحلية، فاشتبكت في شهري أغسطس/آب، وسبتمبر/أيلول على المسائل العالقة منذ وقت طويل حول الهيمنة الكردية على قيادة “قوات سوريا الديمقراطية” والسيطرة على مجلس دير الزور العسكري.
عموما، تستمر الهجمات على الولايات المتحدة في سوريا، بشكل منخفض المخاطر كبير المكافأة بالنسبة لإيران وحلفائها. وسوريا تمنح الخصوم العسكريين القدر الأعظم من حرية المناورة، كما أن قواعد اللعبة فيها أكثر مرونة. بخلاف الحال على طول الحدود بين لبنان وإسرائيل، حيث يبدو أن الجانبين كارهان للمخاطرة خوفا من أن يؤدي أي خطأ إلى صراع أوسع نطاقا.
لكن- وفي الوقت نفسه- فإن غياب القواعد الواضحة وانتشار الجيوش الأجنبية العاملة في سوريا يخلق بيئة خطرة يمكن أن تؤدي إلى تصعيد غير مقصود، ونشوب حرب إقليمية مع ما سيرافقها من دمار هائل، خصوصا إذا استمرت حرب غزة لفترة طويلة، اقتربت فيها إسرائيل من تحقيق أهدافها المعلنة، وهي القضاء على “حماس”، الحليف السنّي الوحيد لإيران في “محور الممانعة”.
ورغم حصول وقفات عسكرية وصفقات لتبادل الأسرى بين إسرائيل و”حماس” برعاية أميركية– مصرية– قطرية، فإن الحرب استؤنفت وأعلن مسؤولون إسرائيليون تمسكهم بهدف “إنهاء حماس” وسط أحاديث عن استمرار الحرب لأشهر في السنة المقبلة، ما يفتح الباب أمام تدحرج التوتر إلى الساحات الأخرى في الشرق الأوسط والخروج عن “قواعد الاشتباك” في مناطق تنتشر فيها قوات أميركية وميليشيات إيرانية.