لم تمضِ ساعات على سحب البرلمان الإيراني الثقة من وزير الاقتصاد عبدالناصر هتمتي، حتّى تلقّى الرئيس مسعود بزشكيان ضربة أخرى بإعلان مساعده للشؤون الاستراتيجية محمد جواد ظريف استقالته من منصبه والعودة إلى التدريس الجامعي. 

الضربة المزدوجة لبزشكيان، حرمته في يوم واحد من:

1- الذراع الاقتصادية التي راهن عليها في تفكيك الآثار السلبية للأزمات الاقتصادية المتراكمة المتوارثة من سلفه إبراهيم رئيسي.

2- الذراع الدبلوماسية والاستراتيجية التي كان يأمل أن تلعب دوراً محوريّاً في تنفيذ رؤيته الانفتاحية على المحيطين الإقليمي والدولي.

3- الأداة الأكثر قدرة على تدوير الزوايا مع المجتمع الدولي والدفع نحو إعادة إحياء الاتّفاق النووي وإنهاء مسار العقوبات الاقتصادية الطويل الذي يحاصر إيران ويهدّد بانهيار النظام وتجربة الدولة الإسلامية.

على الرغم من كلّ الجهود التي بذلها متشدّدون من التيار المحافظ ومعهم غالبيّة المؤسّسة العسكرية، خاصة حرس الثورة، لإنهاء الحياة السياسية لظريف عندما كان على رأس الإدارة الدبلوماسية في زمن الرئيس الأسبق حسن روحاني، وتحمّله مسؤوليّة فشل الاتّفاق النووي الذي سمح للرئيس الأميركي دونالد ترامب في رئاسته الأولى الانسحاب منه وإعادة تفعيل سياسة الضغوط القصوى والعقوبات المشدّدة… إلّا أنّ وقوف المرشد الأعلى خلف ظريف، والدعم والدفاع اللذين مارسهما لحمايته، أفشلت كلّ الجهود لعزله أو إخراجه من دائرة القرار.

تلاقي الأضداد

اللافت أنّ كلا الطرفين، الرئيس ترامب والقيادات المتشدّدة، اتّفقا أو تواطآ على تحميل ظريف مسؤولية الاتّفاق النووي الذي وقّع عليه وزراء خارجية السداسية الدولية (5+1) عام 2015، لكنّ كلّ طرف من منطلقاته وقراءته الخاصة. فترامب اعتبر أنّ المفاوض الأميركي تعرّض لخديعة من ظريف، في حين اتّهمه متشدّدو الداخل بالخيانة وبيع البرنامج النووي بإنجازات معدودات لا تساوي الخسائر والتنازلات التي جاءت في الاتّفاق.

 بات من المتوقّع أن يذهب المتشدّدون إلى مزيد من محاصرة بزشكيان وفريقه من خلال الضغط عليه لتنفيذ قانون الحجاب

بعد مقتل رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي ودعوة المرشد إلى إجراء انتخابات مبكرة، استنفر متشدّدو التيّار المحافظ لاقتناص الفرصة، والعمل من أجل الاستيلاء على قيادة السلطة التنفيذية لاستكمال المسار الذي سبق أن بدأه رئيسي. إلّا أنّ ظهور ظريف إلى جانب المرشّح الإشكاليّ بزشكيان الذي يعتبر محافظاً بين الإصلاحيين، وإصلاحياً بين المحافظين، خلط الأوراق على هؤلاء المتشدّدين ودفعهم للاعتقاد أنّ إمكانية خسارتهم أصبحت أقرب إلى التحقّق.

لذلك كان التركيز في الحملات الانتخابية التي خاضها هؤلاء على الدور الذي لعبه ظريف، إلى حدّ اعتبار أنّ الخسارة التي لحقت بهم لم يكن الفائز فيها بزشكيان بل ظريف. وبالتالي باتت الطريق مفتوحة أمام عودة الخطاب العقلانيّ أو الحواريّ والتفاوضيّ إلى السلطة التنفيذية.

يمكن القول إنّ الثنائي بزشكيان – ظريف استطاعا خلال الأشهر الستّة من عمر الحكومة الحالية إعادة إحياء الحديث الجدّي والعلني عن ضرورة التفاوض على مختلف المستويات، وإسقاط التحريم عن إمكان التفاوض المباشر مع الولايات المتّحدة الأميركية. واستطاعا معاً تعديل الموقف المتصلّب للمرشد الأعلى العالق أمام قضيّة اغتيال ترامب لذراعه الداخلية والإقليمية وعمود مشروعه السياسي، المتمثّل بالجنرال قاسم سليماني، والحصول منه على ضوء أخضر للتفاوض مع ترامب وإدارته مع التزام الحذر والدقّة وأن يعرفوا مع من يتفاوضون.

استنفار المحافظين

استنفرت هذه التطوّرات القوى المحافظة، التقليدية والمتشدّدة على حدّ سواء، التي رفعت من وتيرة هجومها واستهدافها لظريف ومن ورائه الرئيس بزشكيان، وأخرجت “أرنب” ازدواجية الجنسية للمسؤولين وأولادهم من “قبّعتها”، وحوّلته إلى مسوّدة قانون فُصّلت على حجم ظريف وحالته العائلية من باب الجنسية الأميركية التي حصل عليها ولداه (شابّ وشابّة) بحكم الولادة على الأراضي الأميركية، ودفعت به إلى البرلمان التي تسيطر عليه، وإلى إقراره وإلزام الحكومة بتنفيذه وتطبيقه.

ترامب في رسالته للمرشد دعاه إلى التفاوض لإبعاد شبح الحرب المدمّرة. وهذا يعني أن لا مكان لدبلوماسية ظريف أو مواقف الرئيس التسوويّة

المذكّرة التنفيذية التي وقّعها الرئيس الأميركي في الأسبوع الأوّل على دخوله المكتب البيضاوي، وأعاد فيها سياسة الضغوط والحصار الاقتصادي المشدّد، تحوّلت إلى القشّة التي قصمت ظهر حكومة بزشكيان، وأطاحت بكلّ الآمال التي عقدها مع ظريف وفريقه الدبلوماسي لبدء مسار تفاوضي حقيقي مع واشنطن والمجتمع الدولي ووضع حدّ للأزمات المتراكمة على مدى عقود، وباتت تهدّد أمن النظام واستقراره وإمكان انفجاره من الداخل والإطاحة به.

نصيحة معبّرة

النصيحة التي قدّمها رئيس السلطة القضائية محسني إيجئي لظريف، بأنّ عليه العودة إلى التدريس الجامعي، لم تكن نصيحة عابرة أو بهدف التخفيف من الضغوط على الحكومة والرئيس، لأنّ ظريف فهم أبعادها، خاصة ما يتعلّق بانتهاء الغطاء الذي قدّم له الحماية في الأشهر السابقة، وأنّ المظلّة التي نشرها المرشد الأعلى لإفشال الاستهداف والضغوط التي يتعرّض لها، لم تعد موجودة أو لم تعد قادرة على توفير متطلّبات استمراره في موقفه، خاصة أنّ المرشد سبق أن حسم الموقف من المفاوضات عندما اعتبر الاستمرار في هذا المسار لا شرف ولا عزّة ولا عقل ولا مصلحة فيه. وبالتالي لم يعد أمامه سوى الانسحاب والتنحّي لأنّ المرحلة لم يعد فيها مكان للخطاب العقلاني ودبلوماسية الحوار.

النصيحة التي قدّمها رئيس السلطة القضائية محسني إيجئي لظريف، بأنّ عليه العودة إلى التدريس الجامعي، لم تكن نصيحة عابرة

الخطوة التي قام بها ترامب دفعت المرشد للعودة إلى ارتداء لباس التشدّد والمباشر، وهي الرسالة التي التقطها التيار المتشدّد، الذي وجد في قرار ترامب فرصة لإعادة الضغط لاستبعاد وإخراج غريمه الأوّل، الذي حرمه العودة إلى السلطة التنفيذية، وكان قادراً على قطف ثمار أيّ تفاوض مستقبلاً، والتأسيس لمسار إخراج هذه القوى من دائرة القرار بشكل كبير وأساسيّ.

رفض المرشد للتفاوض تحت الضغوط وإجبار الحكومة على هذا الموقف، يعني أنّ المرشد بات قاب قوسين أو أدنى من أن يلبس عباءة  الحرب، التي بدأت تباشيرها تلوح في أفق إيران والمنطقة، خاصّة أنّ ترامب في رسالته للمرشد دعاه إلى التفاوض لإبعاد شبح الحرب المدمّرة. وهذا يعني أن لا مكان لدبلوماسية ظريف أو مواقف الرئيس التسوويّة، وأنّ الأمور في إيران عادت إلى سابق عهدها، وباتت المؤسّسة العسكرية هي المسيطرة والغالبة على القرار، مدعومة من التيار المتشدّد والراديكالي الذي وجد الفرصة لاستعادة نفوذه والعودة للإمساك بالقرار وتحديد مسارات الحكم والسلطة.

 

إذ بات من المتوقّع أن يذهب المتشدّدون إلى مزيد من محاصرة بزشكيان وفريقه من خلال الضغط عليه لتنفيذ قانون الحجاب الذي علّقه بالتوافق مع المجلس الأعلى للأمن القومي خوفاً من انفجار الشارع والعودة إلى مربّع عام 2021 والانقسام العمودي الذي حصل بعد مقتل الفتاة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق.