–
لا تعكس مجزرة الساحل السوري ضد السوريين العلويين أزمةً أخلاقيةً سياسيةً في بلدهم فقط، وإنما في كل العالم العربي.. وذلك فيما التعصّب المذهبي والإثني، وحتى الأيديولوجي، دينياً كان أو قومياً أو علمانياً، ليس صفة عربية أو تخصّ كلّ مواطني الدول العربية من خلفياتٍ مختلفة، بل هي ظاهرة عالمية عبر التاريخ، إذ إن سياسة “فرّق تسد” تستعملها السلطات والدكتاتوريات والنخب التي تُريد بسط سلطتها والإثراء، غير عابئة بالسلم الأهلي وتفكيك نسيج المجتمعات.
في الحالة العربية، لعب الاستعمار دوراً رئيساً في ترسيخ الإثنية الطائفية والعرقية ودسترتها، متستِّراً بحجّة حماية الأقليات أو طائفة معينة، وأضاف إلى دوره في استخدام الطائفية، المسيحية كما في لبنان، وفي تشجيع ظهور مجموعات الإسلام السياسي المتطرّفة، بمشاركة دول عربية، وتوظيفها ضد الشيوعية وحركات المد القومي العربية، وتسلّحها باسم الجهاد ضد الاحتلال السوفييتي في أفغانستان بتمويل وتسليح من وكالة الاستخبارات الأميركية، فجاءت النتيجة عكسيةً مع ظهور تنظيم القاعدة ومشتقاته. ولم ينته دور الغرب ودول عربية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانسحاب الروس من أفغانستان، وحتى بعد تفجير مبنى مركز التجارة العالمية في “11 سبتمبر” (2001)، فانطلاق ما سُمّيت الحرب ضد الإرهاب، التي وظّفتها أميركا لتبرير القمع والتعذيب وتدمير أفغانستان وغزو العراق، استمرّت أجهزة مخابراتٍ شتّى في تمويل جهات متطرّفة سلفية جهادية مستغلة الفقر والغضب بين الشباب.
لا يفسّر هذا كل الحكاية، إذ لا تشرح مشتقّات الحركة الجهادية والسلفية المتطرّفة وحدها أسباب انتشار الفكر الطائفي، فالاستبداد سهّل وأسّس لتربة خصبة للتعصب الطائفي والإثني، وعمّق الفروق بين أبناء المجتمع الواحد. وفي حالة سورية، كان لنظام عائلة الأسد الذي حكم 54 عاماً دور رئيس في إذكاء الطائفية، فاعتماد النظام على نخبٍ من الطائفة العلوية في الدولة والجيش والمخابرات زرع بذور الحقد الطائفي عقوداً.
لا نعفي هنا الإخوان المسلمين ودعوتها إلى إنشاء نظام إسلامي تحت شعار “الإسلام هو الحل” من مسؤولية إحداث شروخ فكرية واجتماعية، فالدولة الإسلامية وتأييد فكرتها فرز اجتماعي وسياسي للمجتمع، لكن مجزرة حماة التي ارتكبها نظام الأسد الأب في فبراير/ شباط 1982، بحجّة القضاء على خطر الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى أنها كانت جريمة شنيعة، حفرت غضباً تحوّل بعضُه إلى حقد طائفي، أو على الأقل وسّع هوة الثقة داخل المجتمع السوري، وكانت له ارتدادات وامتدادات خارج سورية واستمرّت.
الشرع مُطالبٌ بإجراءاتٍ تضفي مصداقية عملية على صدق تغيره الفكري، في ظرفٍ صعبٍ جداً
لا يبرّر ما تقدّم مجزرةَ الساحل، لكنه يشرح، إلى حد ما، بعض جذور الغضب الطائفي وأسبابه عند السوريين السنّة، لكن ما وقع لا يمكن تسميتُه غضباً “سنّياً”. وهنا أستعمل وصف “السنّة” كونهم أغلبية المجتمع السوري الذي عانى من قمع وتعذيب وتنكيل ومذابح تحت نظام الأسد، تكشّف بعضه في مشاهد السجون وقصص العذاب والتعذيب بعد سقوط نظام بشار الأسد.
لقد أحدثت مشكلة التفسير الطائفي لما كان يحدث في سورية من ظلم وعياً مشوّهاً، فكل المذاهب والطوائف كانت هدفاً لتنكيل نظام أمني مخابراتي دموي، متغطّياً بشعارات مواجهة الاستعمار والصهيونية، ومدّعياً الحداثة والعلمانية.
ولا يقتصر الوعي المشوّه على سورية، فردود الفعل على منصات التواصل الاجتماعي كشفت أن بعض الناس، بل كثر، حاولوا تقديم مبرّرات للمجزرة بتوجيه تهم للعلويين، والشيعة، ما كشف عن فهم طائفي، وخاطئ، لسنوات الظلم في سورية، فالنظام لم يوفر سنّياً أو علوياً أو مسيحياً أو درزياً أو كردياً تجرّأ على نقد الظلم، ويجب ألا يُنسى هذا، ما لا دخل له بالمعتقدات العلوية. وكان بعض التعليقات ردّة فعل على حكم أحزاب شيعية طائفية في العراق، فانطلقت كلمات الكراهية ضد الشيعة، فيما دافع شيعة من العراق عن العلويين. ومع الإدانة المحقّة للمجزرة، رأينا اعتداءاتٍ على عمّال سوريين في بلاد الرافدين، ما يدلّ على انتشار الوعي المشوّه والمنطلقات الطائفية.
يضع ما حدث ويحدث القيادة السورية في دمشق أمام مسؤوليات كبيرة، ويُؤمل أن يكون التحقيق نزيهاً، ويفي الرئيس أحمد الشرع بما وعد؛ فهذا كله يؤثر على كل العالم العربي، وليس على سورية وحسب. ومسؤولية الشرع أكبر من عادية؛ ليس لأنه يمثل السلطة الأعلى في هذا البلد، وإنما أيضاً لأنه هو الذي أحضر معه فريقاً من هيئة تحرير الشام، التي كانت في جزء منها جبهة النصرة بعد أن انشقت هي الأخرى عن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فبذور الممارسة الطائفية جزء من خلفيتها، فهي جزءٌ من مشتقات الفكر السلفي الجهادي المتطرّف. والشرع مُطالبٌ بإجراءاتٍ تضفي مصداقية عملية على صدق تغيره الفكري، في ظرفٍ صعبٍ جداً. لكن الشعب السوري، كما يبدو، ما يزال يعطيه فرصة، وبخاصة بعد المصالحة المفاجئة مع الأكراد، التي جاءت، كما يبدو، تحت ضغوط غربية، وإنْ كانت ضرورية لوحدة الأراضي السورية وقطع الطريق على فتنة مذهبية أو إثنية تؤدّي إلى تقسيم سورية وتفتيتها.
على أحمد الشرع أن يثبت أن ما وقع في الساحل السوري ليس مجرّد نتيجة تسلُّم فريق جذوره عنفية متعصبة الحكم
وقد كان الخوف من عمليات انتقام من العلويين ماثلاً في ظل تشوه الوعي، ولكن ارتكاب قوات تتبع مؤسسة الأمن الحكومية مجزرة وتنفيذها إعدامات ضد العلوييين وفي بيوتهم يثير الذعر حيال مستقبل سورية. ولا يعني هذا أن الشرع أعطى أوامر بتنفيذ عمليات قتل ضد العلويين، وإنما أن أفراداً من قوات الأمن من مجموعات عُرفت بممارساتٍ إجراميةٍ طائفية ارتكبوا هذا، الأمر الذي يتجاوز عمليات انتقامية، فإذا كان هناك من دور لمثل هؤلاء، فلا يجب إرسالُهم في مهمّات أمنية، خاصة ضد أنصار النظام القديم.. فهل تجرى إعادة تشكيل قوات الأمن؟ وهل يستطيع الشرع مواجهة نواته الصلبة؟ هذه أسئلة ليست سورية بحتة، بل تخصّنا جميعاً.
بدأ المقال بالربط بين الاستبداد وظهور التنظيمات التكفيرية، التي يتجاوز تأثيرها حدود أعضائها، وذلك لتأثيرها على تفكير أوسع منها. وأحمد الشرع نفسه تأثر بسياسات الاستبداد وتلقّفته الجماعات المتطرّفة، وعليه أن يثبت أن ما وقع في الساحل السوري ليس مجرّد نتيجة تسلُّم فريق جذوره عنفية متعصبة الحكم، فلا نستطيع تكرار الحديث عن خطايا الأنظمة الاستبدادية ودورها، فالشرع على رأس الحكم لدولة عربية محورية، لم يخترع الطائفية، وإنْ كان قد مارسها، لكن لديه ولدى سورية فرصة تاريخية، بشرط مشاركة الجميع في بناء دولة تعدّدية تساهم في وأد الطائفية المفتعلة أصلاً، والمصنّعة لخدمة الاستبداد والاستعمار.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News
دلالات