في عالمٍ تُرتكب فيه الجرائم تحت سمع وبصر الجميع، ثم لا يأتي رد الفعل إلا بعد فوات الأوان، لا بد من أن يشعر المرء بالإحباط، وقد يصل إلى ذروته حين يستيقظ النيام من سباتهم وهم يفركون أعينهم، ثم يعلنون بدون أدنى تردد، أنهم كانوا “دائمًا ضد هذا”. من تلك الفكرة ينطلق كتاب عمر العقاد الجديد “في يومٍ ما، سيقف الجميع ضد هذا” (One Day, Everyone Will Have Always Been Against This)، الصادر حديثًا عن دار نوپف الأميركية، حيث يقدّم مجموعة من المقالات الجريئة التي تكشف كيف يُعاد تشكيل الضمير الجمعي تحت تأثير سرديات مريحة، بقدر ما تُخفي الحقائق المزعجة، تبرر التواطؤ مع الظلم من دون حاجة إلى مساءلة الضمير.

متلازمة “الفقر التخيلي”

وُلد عمر العقاد في مصر عام 1982، ونشأ في قطر وكندا، وهو اليوم مواطن أميركي. رغم مسيرته الطويلة في الصحافة، كان عليه، بصفته مهاجرًا، أن يحافظ على مسافة “آمنة” من الحقيقة. إلا أن حرب غزة، التي اندلعت في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، شققت جدار الصمت، ليبرز منها جوهر كتابه الجديد، الذي لا يبدو مجرد نقد للغرب بقدر ما هو محاولة لإعادة تفعيل دور الكاتب كضميرٍ للعالم، أمس واليوم وغدًا.
منذ اللحظة الأولى، يدفعنا الكتاب إلى مواجهة أسئلة مربكة: كيف يصبح القتل مقبولًا في سياقٍ ما ومرفوضًا في آخر؟ أوليس القتل هو القتل؟ لماذا يُطلب من المناضل أن يبرر نضاله، بينما يتحصن جلادوه تحت حماية صمت الجماعة؟ ألهذا تحتاج المقاومة إلى شجاعة استثنائية، بينما يكفي الصمت لننعم بالراحة؟
بهذه الأسئلة، وغيرها، يفكك العقاد النفاق العالمي في التعامل مع معاناة الناس، مستندًا إلى تجاربه الشخصية كصحافي ومهاجر، وإلى خيبة أمله في القيم الغربية التي طالما تفاخرت بمبادئها الإنسانية، لكنها حين تطبّقها تفعل ذلك بمعايير مزدوجة. على سبيل المثال، يُحتفى بالأوكرانيين كأبطالٍ يدافعون عن وطنهم ضد العدوان الروسي، وتُسخَّر لهم المساعدات المادية والمعنوية، بينما تُوصم مقاومة الفلسطينيين بالإرهاب، ويُتركون للجوع والخوف والمرض رغم أن السيناريو ذاته يتكرر— وربما على نحو أشد إجرامًا. في نفس الصدد، لماذا يتم احتضان اللاجئين الأوكرانيين باعتبارهم “مثلنا”، بينما يُترك اللاجئون من سورية وأفغانستان واليمن لمصيرهم على قوارب الموت؟ أيمكن أن يحدد موقعك الجغرافي أو لون جواز سفرك ما إن كنت تستحق التعاطف من عدمه؟
هذا ما يقود العقاد إلى مفهوم “الفقر التخيلي”، الذي يشير إلى العجز عن تخيّل معاناة الآخرين.

“يظهر الفلسطينيون في الإعلام الغربي كطرفٍ مكافئٍ في القوة لإسرائيل، والرضّع والأمهات والمسنّون كمخابئ للإرهاب”

 

إذ يعجز القوي عن استيعاب هشاشة الضعيف، ولا يتمكن الغني من رؤية أنياب الجوع وهي تنهش أمعاء الفقير. وفي عالمٍ يغرق في الرفاهية والراحة المفرطة، تتحوّل معاناة الآخرين إلى تهديدٍ مباشر لتلك النعم الثمينة. وكلما تعمق المرء في روتين حياته، زاد جلده غلظة، وأصبح أكثر عزلة عن آلام العالم. فهل نحن مهددون بفقدان إنسانيتنا؟

للعدالة وجوه مختلفة

في الصباح، وأنت تتناول فطورك، ربما تتابع— مثلي— أخبار العالم. قد تنكمش أمعائك ألف مرة ومرة أمام مشاهد القتلى والأمهات اللاتي يمضغن أوراق الأشجار لإسكات مطارق الجوع، أو ملء أثدائهن بقطرة من حليب لترطيب فم طفل تشقق، ناهيك عن صور اللاجئين المرعبة في قوارب الموت. رغم هذا، وبعد تكرار تلك المشاهد آلاف المرات وعلى تنويعات مختلفة، ماذا نتوقع أن يحدث؟
عادةً ما يتخذ الإنسان حيال فوضى العالم واحدة من ثلاث استجابات: التبلد النفسي، بحيث تتحول المشاهد الدامية إلى مجرد خلفية، بعد أن فقدت قدرتها على الصدمة. فإذا بمشهد طفل قذفت الأمواج جثته على رمال الشاطئ، يتخذ موضعه في دورة الأخبار المأساوية، كخبر بين ملايين الأخبار عن البورصة والأسهم وتقلبات السوق العالمي.
أما إن حالفك الحظ ونجوت من التبلد النفسي، فأنت معرض حتمًا لنوع من الاكتئاب الحاد، نتيجة الشعور بالعجز أمام عالم يبدو فيه الشر منتصرًا ومزهوًا بنفسه، بعد أن أسقط العصابة عن عيني العدالة وتركها تحدق في العدم.
لو نفذت من الحالتين السابقتين، فقد اخترت المواجهة، وهي الاختيار الأكثر كلفة. لأنك إذ ترفض الانسياق مع القطيع، فأنت تخاطر براحتك، بوظيفتك، وربما بحريتك نفسها فلا يحدث شيء لهؤلاء المضطهدين سوى أن يزيدوا واحدا. غير أن صرخة الشاعر ديلان توماس ستظل تلاحقك إلى حد الجنون:

 

لا تذهب وديعا إلى ذلك الليل الطيب
اغضب، اغضب لموت الضياء…
فهذا الليل ليس طيبا أبدا كما أنه ليس ليلا، إنه للصدق، الموت بعينه. على النقيض، يسعى النظام العالمي إلى تحقيق راحته النفسية عبر سرديات مريحة، تعزز فكرة الذهاب وديعا إلى هذا الليل الطيب، عندما تُعيد رسم صورة المضطهدين في إطارٍ يسمح بتحميلهم مسؤولية معاناتهم، لماذا لا يخرج الغزاويين من هذا الجحيم؟ ما الذي يجبرهم على ذلك؟ أو تبريرها باعتبارها “ضرورة سياسية”. هكذا يظهر الفلسطينيون في الإعلام الغربي كطرفٍ مكافئٍ في القوة لإسرائيل، والرضّع والأمهات والمسنّون كمخابئ للإرهاب. أما اللاجئون السوريون والأفغان، فيُنظر إليهم كـ”أزمات إنسانية”، بينما يسدل الستار على دور الغرب في زعزعة استقرار بلدانهم. حتى داخل أميركا نفسها، تم استخدام السرديات المريحة لتبرير العنصرية؛ فبعد مقتل جورج فلويد، أُلقي اللوم على “نقص تدريب الشرطة”، بدلًا من الاعتراف بإرث العبودية والتمييز العرقي.
مثل هذا النفاق لم يعد خافيا على أحد، فمع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، بات من الصعب التستر على ازدواجية الخطاب السياسي، كما يرى العقاد. وحين تبرر الدول الكبرى حروبها بأنها “نشرٌ للديمقراطية”، ندرك أن التاريخ يعيد نفسه على طريقة الحملات الصليبية. وحين تُبرَّر جرائم الحرب، مثل القصف العشوائي في العراق وأفغانستان، تحت مسميات “الأضرار الجانبية” أو “التدخل الإنساني”، نفهم أن تلك المصطلحات هي مجرد ستار لجرائم يتم تصنيفها فورا تحت بند الفظائع إذا ما صدرت عن الأعداء. كما الحال عندما استخدمت أميركا الذخائر العنقودية في العراق، ثم دانت بشدة روسيا حين استخدمتها في أوكرانيا.

الضمير غير المخلوق للبشر

بعد أن يفنّد العقاد الدور الحاسم للسرد في تشكيل الوعي الجمعي، يكشف عن خطورة تحويل المآسي إلى “قضايا خلافية”، وكيف يُعاد تشكيل الضمير تحت وطأة السرديات المريحة، فلا يعود الظلم ظلمًا صراحا، بل مجرد مسألة اختلاف في وجهات النظر. في “السائرون نيامًا”، يصوّر هرمان بروخ كيف تنجرف المجتمعات نحو الفاشية بدون مقاومة، كما لو كانت واقعة تحت تأثير تنويم مغناطيسي. هذه الفكرة تتقاطع مع رؤية عمر العقاد حول الاعتياد على صور القصف والجثث حتى تفقد قدرتها على إحداث الصدمة. حينها، لا يعود العنف شيئا غريبا أو مستهجنا، بل نغمة مألوفة ضمن صخب الحياة اليومية. وبينما يظل الضحايا وحدهم في مواجهة مصيرهم، نمضي، نحن السائرون نيامًا، في رحلة التكيف التدريجي مع الشر، حتى نصبح خيوطًا ناعمة في نسيجه المخملي.

“حين تبرر الدول الكبرى حروبها بأنها “نشرٌ للديمقراطية”، ندرك أن التاريخ يعيد نفسه على طريقة الحملات الصليبية”

 

هنا لا يصبح الخطر محدقا بالضحايا، فنحن أيضا في خطر، حين تفقد الفظائع قدرتها على استفزاز ضمائرنا، ويصبح لزاما علينا إعادة تشكيله، من أجل بقاء إنسانيتنا. ألا يحفزنا هذا إلى الاسترشاد بما قاله جيمس جويس في صورة الفنان في شبابه، على لسان بطله المثقف:
“سأذهب للمرة المليون لأواجه حقيقة التجربة، ولأصوغ في موقد الحدادة من روحي الضمير غير المخلوق لبني جنسي”.
إن جويس ينبهنا إلى أن الحقيقة لا تُمنح، بل تُنتزع بعد ألف معركة، والضمير ليس هبة مجانية، بل أداة على المرء تشكيلها بالحديد والنار. وحتى لا تتحوّل المجازر إلى مجرد خلفية ضمن روتيننا اليومي، أو تزداد علينا ثقل الأمانة، فنحن مدعوون إلى ورشة حدادة لصهر الضمير، وقتها فقط نستطيع أن نقف جميعًا ضد هذا.