“لقد كان خطأً جسيماً تركُ دخول هذا العدد الكبير من الناس من ثقافة ودين ومفاهيم مختلفة، لأنّه يترك مجموعة ضاغطة داخل كلّ دولة تفعل ذلك”.

أتى هذا التعليق للديبلوماسيّ الأميركيّ الراحل هنري كيسنجر ردّاً على سوال اعلامي  بشأن التظاهرات الكبيرة المؤيّدة للفلسطينيّين والتي شهدتها ألمانيا، مسقط رأسه، بعد شنّ إسرائيل حربها على “حماس”. ما قاله كيسنجر في واحدة من آخر مقابلاته هو جزء من النقاش الأوروبّيّ والغربيّ العام الذي تجدّد مؤخّراً حول السياسة “المتساهلة” تجاه استقبال أعداد كبيرة من اللاجئين.

 

مسار تصاعديّ

ما حفّز إثارة النقاش مجدّداً لم يكن الشارع الأوروبّيّ المشتعل وحده. أحد الأسباب الرئيسيّة للقلق في بروكسل هو استمرار صعود اليمين المتطرّف في أوروبا رد فعل  على هذه السياسات. خيرت فيلدرز هو المثل الأحدث لا الوحيد. لكنّه مثل فاقع. ليس أنّ زعيم “حزب من أجل الحرّيّة” حصد العدد الأكبر من الأصوات وحسب، لكنّه حقّق نتيجة أعلى من تلك التي استشرفتها . ربّما كان تخفيف فيلدرز حدّة خطابه ضدّ المسلمين والمهاجرين خلال حملته سبباً لذلك الفوز غير المتوقّع. لكن بمجرّد انتهاء الانتخابات، دعا فيلدرز إلى طرد الفلسطينيّين إلى الأردن. لا يزال يتوجّب على فيلدرز خوض مناقشات صعبة لتشكيل حكومة ائتلافيّة، وقد ينجح أو يفشل في ذلك. لكن بصرف النظر عمّا ستؤول إليه المفاوضات الداخليّة، يبقى أنّ أوروبا كلّها على طريق مفصليّ.

فقبل فيلدرز، فاز روبرتو فيكو  بالانتخابات في سلوفاكيا وتمكّن من تشكيل حكومته في تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي. في الشهر نفسه، استطاع “البديل لأجل ألمانيا” تحقيق تقدّم بارز في انتخابات محلّيّة شهدتها ولايتا بافاريا وهيسي اللتان تضمّان نحو ربع الشعب الألمانيّ. وتخطّى “البديل” الأرقام التي حقّقها أحزاب الائتلاف الحاكم وفي مقدّمها حزب المستشار أولاف شولتس، “الديموقراطيّ الاجتماعيّ”. وبحسب ، لو أجريت الانتخابات الألمانيّة العامّة اليوم، لحقّق “البديل” المركز الثاني بـ20 في المئة من الأصوات، مقابل نحو 10.3 في المئة سنة 2021. في فرنسا، ليس الوضع أفضل، حيث قال الرئيس الفرنسيّ الأسبق فرانسوا هولاند لـ”” إنّ اليمين المتطرّف “اِلتَهمَ” اليمين التقليديّ. ولو أجريت انتخابات رئاسيّة في فرنسا اليوم، بحسب  نُظّم في الربيع الماضي، لتغلّبت زعيمة اليمين المتطرّف مارين لوبن على الرئيس إيمانويل ماكرون بـ55 إلى 45 في المئة من الأصوات

إحدى مشاكل هذا الواقع الجديد بالنسبة إلى بروكسل أنّ تشكيلات أقصى اليمين في أوروبا مؤيّدة بشكل أو بآخر لسياسات الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين، مع استثناءات قليلة أبرزها “حزب العدالة والقانون” في بولندا ورئيسة الحكومة الإيطاليّة جورجيا ميلوني. ويأتي صعود اليمين المتطرّف في لحظة حرجة للأوروبّيّين والأميركيّين. فشل الهجوم الأوكرانيّ المضاد خلال الأشهر الأخيرة وباتت كييف مضطرّة للعودة إلى الدفاع الآن. فهي تتعرّض لهجمات من الجنود الروس في الشرق حيث استولت موسكو على قرية مارينسكا بينما تتقدّم قوّاتها في أفديفكا، كما تتعرّض لصواريخ ومسيّرات روسيّة ضدّ بناها التحتيّة على أبواب في فصل الشتاء.

أزمة بدون أفق

ما يفاقم أزمة أوكرانيا أنّ تسليحها ينضب سريعاً. من جهة، تعرقل أقلّيّة جمهوريّة في الكونغرس حزمة مساعدات عسكريّة بقيمة 61 مليار دولار إلى أوكرانيا كان الرئيس جو بايدن قد طلبها من خارج موازنة 2024 الماليّة. يطالب هذا الجناح الجمهوريّ المتشدّد بتحويل مخصّصات للحدود الجنوبيّة من أجل الإفراج عن الأموال الأوكرانيّة. ويوم الاثنين، وجّه مديرة الموازنة في البيت الأبيض شالاندا يونغ رسالة تحذيريّة إلى الحزبين في الكونغرس مفادها أنّه من دون اتّفاق المشرّعين، لن يبقى للبيت الأبيض الموارد اللازمة لدعم أوكرانيا بحلول نهاية 2023.

من جهة ثانية، لا تبدو الأوضاع أفضل حالاً في أوروبا. كانت سلوفاكيا وهولندا داعمتين أساسيّتين لأوكرانيا،  هولندا إرسال مقاتلات أف-16 كما أعطت سلوفاكيابارزة لكييف. وتعرقل المجر بقيادة فيكتور أوربان حزمة مساعدات عسكريّة أوروبّيّة إلى أوكرانيا بقيمة 50 مليار دولار. والدعم العسكريّ الصادر بشكل فرديّ عن الدول الأوروبّيّة أو الأطلسيّة يواجه بطئاً في التنفيذ. بالرغم من الدعم الكبير الذي تقدّمه المملكة المتّحدة لأوكرانيا مثلاً، فشلت لندن في تجديد حزمة ماليّة بقيمة تقرب من 3 مليار دولار. كما صدر حكم عن  قيّد قدرة حكومة برلين على تخصيص المزيد من الأموال إلى بروكسل لدعم أوكرانيا. حتى مع افتراض تمكّن أوروبا من اجتياز جميع تلك العقبات، يبقى أنّ آليّة دعمها لأوكرانيا فوضويّة جدّاً. بحسب مستشارة ” للشؤون الاستراتيجيّة ستيفاني بابست، تفتقر أوروبا للرؤية الاستراتيجيّة تجاه روسيا إلى جانب التنسيق بين مختلف المبادرات الهادفة إلى تعزيز القوّة العسكريّة لأوكرانيا.

“التحذير الأخير”

من غير الواضح ما إذا كانت أوروبا ستصغي إلى “التحذير الأخير” لكيسنجر بحسب تعبير ستيفن لوبور في صحيفة “دايلي مايل” البريطانيّة. فهذا النوع من التحذيرات ليس جديداً بالنسبة إلى السلطات الأوروبّيّة التي سمعته مراراً من أقطاب اليمين الشعبويّ وحتى يمين الوسط مؤخّراً. لكنّها تجد نفسها أمام معضلة الحفاظ على القيم الليبيراليّة الإنسانيّة من جهة والحفاظ على الاستقرر السياسيّ من جهة أخرى. في جميع الأحوال، بات تحرّك تلك السلطات أكثر إلحاحاً.

لا يزال بعض المحلّلين الأوروبّيّين يعتقدون أنّ روسيا لن تكتفي بالسيطرة على أوكرانيا في حال نجحت بذلك بعد تخلّي الغرب عنها. وكان تحليلٌ لـ”المجلس الألمانيّ للعلاقات الخارجيّة” قد خلص في تشرين الثاني (نوفمبر) إلى أنّ لحلف شمال الأطلسيّ (ناتو) فترة تتراوح بين 5 و10 أعوام كي يستعدّ بشكل مناسب لهجوم روسيّ. لكنّ رئيس مكتب الأمن القوميّ البولنديّ ياتسيك سييفييرا وصف التقرير  بـ”المتفائل جدّاً” قائلاً إنّ لدى دول الجناح الشرقيّ للحلف فترة ثلاثة أعوام لإنهاء استعداداتها بشكل جيّد.

هل سيسمح اليمين الأوروبّيّ المتطرّف بإتمام هكذا استعدادات، أقلّه عبر تحصين الجبهة الأوكرانيّة الأماميّة؟ لغاية الآن، لا تبدو الأجواء مبشّرة بالنسبة إلى بروكسل.