نَمَت ظاهرةُ وسطاء العنف في سوريا بعد ثورة 2011 | تصميم خاص بمجلة الفِراتْس
في 28 ديسمبر 2024 أثناء تجوّلي في أروقةِ الفرع 215 ذائعِ الصِيتِ، والمعروفِ اختصاراً بِسَرِيَّةِ المُداهَمةِ، التابعِ جهازَ المخابرات العسكرية في حيِّ كَفر سوسة الدمشقيّ العريق، وقعَتْ يدي على صندوقٍ يحوي ظروفاً مختومةً مُعَنْوَنَةً بأسماءِ أشخاصٍ مسبوقةً بحرفَيْ “ع. ط.”، أيْ عن طريق، مع حاشيةٍ صغيرةٍ بمقترحٍ لرئيس الفرع. داخل تلك الظروف عددٌ متفاوتٌ من البطاقات الأمنية لأفرادٍ مدنيّين تخوِّلُهم هذه البطاقاتُ حملَ أسلحةٍ فرديةٍ ذاتِ أرقامٍ متسلسلةٍ والتحرّكَ بِاسمِ الفرعِ الأمنيِّ الذي يَتبعونه. عادةً يعمل هؤلاءِ الأفرادُ تحت إمرةِ الشخص الذي عَبَّأَهُم وأَرفَقَ أَسماءَهم لأحدِ الأفرُعِ الأمنيةِ ليكونوا تحت تصرّف القيادة في قراراتِ الانتشارِ والحاجةِ الأمنيةِ وتعليماتِها. في الغالب، لا يُخوَّل هؤلاء الأفرادُ الاحتكاكَ بالسلطاتِ الأمنيةِ مباشرةً وإنّما عبر الوسيط الذي عَبَّأَهُم فصار وسيطاً بين السلطة المركزية والسياق المحلّي في دائرته الاجتماعية.

في أدبيّاتِ دراساتِ النِزاعِ، تُناقَشُ هذه الظاهرةُ من منظورِ دراساتِ الجُناة ودورِهم في التحضيرِ للفظائعِ وارتكابِها. فالجاني، كما يُعرِّفه أوميت أونغور وكجيل أنديرسون في فصلِ “من المجرمين إلى الجريمة”، هو: “أيُّ فردٍ يساهم بشكلٍ مباشرٍ وملموسٍ في الإبادة الجماعية [أو الفظائع الجماعية الأخرى] … يرتكب الجناةُ أفعالاً مختلفةً بدوافعَ متنوّعة. وكثيراً ما يَتجنَّب الجناةُ رفيعو المستوى، كالقادةِ، ‘تلطيخَ’ أيديهم بارتكاب الجرائم بشكلٍ مباشرٍ [أي التخطيط أو الأمر بارتكاب الفظائع]”.

للمدنيين مكانةٌ في الترتيب والتسهيل لارتكاب العنف ضدّ مدنيّين آخَرين أو مناوِئين أو منتمين جغرافياً لبيئةٍ فكريةٍ أو عرقيةٍ أو مذهبيةٍ مغايرةٍ لخلفيةِ الجناة. ومن الأمثلة على ذلك، فرقة نمور أركان (زيليكو رازناتوفيتش) العسكرية في صربيا التي تشكّلت نواتُها من مشجّعي نادي أوبليتش لكرة القدم، الذين استطاعوا تعبئةَ فئاتٍ أوسعَ من أوساطِهم الاجتماعية. ساهمت هذه الفرقة في حرب البوسنة وارتكبت انتهاكاتٍ جسيمةً ضدّ المسلمين في البلاد. أمّا في السياق الكولومبي، فتميل هذه التشكيلاتُ إلى محاكاةِ المافيا في طريقة عملها وتركيبتها، إذ يقودُها أعضاءُ النُخَب الاقتصادية القانونية وغير القانونية التي تُقدِّم حوافزَ اقتصاديةً لأعضائها، وتصدّر نفسها شبكةً واسعةً لتقديم خدماتٍ أمنيةٍ تطوّرت إلى هيكليةٍ مشابهةٍ لجماعات المافيا.

بعد انطلاق الثورة في سوريا سنةَ 2011، نَمَت ظاهرةُ وسطاء العنف وسَماسِرَتُه بتشجيعٍ من نظامِ الأسد وريادةٍ من فئاتٍ اجتماعيةٍ انتَهزَت الفرصةَ لتَعرِضَ نفسَها شريكاً للنظام في مشروعِه القمعيِّ وفظائعه الجماعية. يتحدّث ستاثيس كاليفاس في كتابه “منطق العنف في الحرب الأهلية” الصادر سنة 2006 عن نظرية التحالفات، ويُعرِّفها بأنّها صفقةٌ نفعيّةٌ متبادَلةٌ بين القيادةِ النخبويّةِ في المركزِ والسياقاتِ المحلّيةِ في الأطراف. وانطلاقاً من هذا التعريف، نرى كيف كانت العلاقة بين النظام وهؤلاء الوسطاء قائمةً على المقايَضةِ. فلَيْسَ ضرورةً أن تتطابق الأهدافُ والمخطّطاتُ بين هذين الطرفين. قد تختلف رؤى محرّكِ القوى المحلّيةِ تماماً عن ذاك الذي يُحرِّك النُخَبَ في المركز. ففي حينِ تركّز النُخَبُ جهودَها على الحفاظِ على السلطةِ، تَبحثُ القوى المحلّيةُ عن أفعالٍ تستأثر فيها بسلطةٍ وإنْ كانت محدودةً ولكنّها بالغالب حصريةٌ، في سياقاتها المحلّية لتحقيقِ مآرِبَ تخدمُها وتُثْري رأسَ مالِها الاجتماعيَّ والاقتصاديّ. في السياق السوري، ظهرت فئةٌ من وسطاءَ عنفٍ وسماسرةٍ تدور في فَلَكِ السلطة. فهُم أشخاصٌ تربطُهم علاقاتٌ بالسلطة الأمنيّة في مجتمعاتِهم المحلّية، إذْ يتميّزون بقُدرتِهم على إنجازِ صفقاتٍ تمنحُهم مكاسبَ من صِلاتِهم بالسلطة لقاءَ جهودِهم في تعبئةِ شبكاتِهم المحلّية. وفي كثيرٍ من الأحيان تتداخل الفئاتُ بَينيّاً في سياقاتٍ مختلفة.

يساهم وسطاء العنف في إدارة التحالفات والمقايضات. ومِن ذلك التفاوضُ مع النظام على الترتيباتِ والشروط وتنسيق العمليات والانتشار وسرّية العمل. يستدعي أحدُ الوسطاءِ الذين التقيتهم عمليةَ التفاوضِ التي خاضَها مع العميد عماد محمد في فرع الأمن العسكري بحلب. عرض العميدُ عليه أن يضع حَيَّ سيف الدولة كاملاً تحت تصرّفه مقابلَ تعبئةِ مجموعاتٍ من أهلِ بلدتِه. بحسب شهادتِه، فقد “سُمِحَ لي بتحويل معهد العلوم [مبنىً قديمٌ مشهور] إلى مقرّ إقامةٍ وغرفةِ عمليات. علاوةً على ذلك، فإن جميع المنازل في الحَيِّ ستكون تحت تصرّفي بالكامل لتجهيز مقرِّي الجديد”.

يَجني الوسطاءُ مكاسبَ مادّيةً ومعنويةً كبيرةً عن الأنشطة الإجرامية مقابلَ خدماتِهم. لقد خَصَّصَ النظامُ ميزانياتٍ ضخمةً لتحفيزِ أشخاصٍ من أجل تشكيل ما أسماها في بداية الثورة “اللجان الشعبية”، لتأخذَ على عاتقِها الوشايةَ بالناشطين وقمعَ المظاهراتِ المناهضةِ له. ففي أحد الملفّات المسرَّبةِ عن شعبةِ المخابرات بعد تحرير الرقة، تُوصِي الوثيقةُ بإيداعِ مبلغِ خمسةٍ وخمسين مليون ليرةٍ سوريةٍ في مصرفٍ حكوميٍّ من أجل توزيعِها على بعض شيوخ العشائر في محافظة الرقة لقاءَ جهودِهم في التعبئة والتحشيد لقمع المظاهرات المناوئة النظامَ.

يستمدّ وسطاء العنف قوّتَهم ونفوذَهم بجمعِهم المعرفة بأشخاصٍ متنفّذين في السلطة وأفرادِ القاعدة الشعبية التي يتمتّعون بها في دوائرهم الاجتماعية. لهذه الخبرات قيمةٌ في مجالاتٍ معيَّنةٍ من المفاوَضات والمشاريع الإجرامية. يسعى الوسطاءُ إلى إقناعِ الآخَرين بأنّ أنشطتَهم تتعلّق بقوّةِ النفاذ، وبالتالي فهي حاسمةٌ وحصريةٌ ولا غِنى عنها.

والنفاذ هنا ذو بُعدَيْن: أفقيٌّ وعموديّ. أمّا الأفقيُّ، فلِلوُسَطاءِ صِلاتٌ على مستوى عوائلِهم وعشائرِهم ومعارفِهم الاجتماعيةِ ليتجاوز ذلك إلى سياقاتٍ جغرافيةٍ أوسع. وأمّا عمودياً، فيرتبط الوسطاءُ برجالِ السلطةِ والنظامِ بحُكمِ وظائفِهم الرسميةِ أو أنشطتِهم الاقتصاديةِ أو روابطِ الدم. يتشكّل من هذه العلاقات العنقودية ما يُطلِقُ عليه الباحث وعالم الاجتماع الفرنسي ميشيل سورا “نظام الجذمور”، أي نظام قائم على شبكاتٍ من العلاقات المعقّدة التي ترتبط بحلقاتٍ مصلحية، وليس من الضرورة أن يكون أفراد الشبكات مرتبطين بأفراد الشبكات الأخرى. فالوسطاءُ لا يَنشَطون من فراغٍ، بل لا بُدَّ من نظامٍ ينسِّق عملَهم وترتيباتٍ محدَّدةٍ عن المواردِ والإيرادات. لذا فثَمّةَ بيئاتٌ نَشَطَ فيها وسطاء العنف وازدهروا، بحيث يتداخل عمل الوسطاء المختلفين أحياناً أو تطغى فئةٌ على أخرى حسب السياق.

في خضمِّ ثورةِ سنةِ 2011، ظَهَرَ خمسةُ أنواعٍ من وسطاء العنف تشكّلت في بيئاتٍ فريدةٍ، وإنْ كانت متداخلةً أحياناً. وهي طائفيةٌ وعشائريةٌ وتجاريةٌ ومحسوبيةٌ وبعثية. وقد شكّلت هذه الأنواع معاً شبكاتٍ من العنف لها أهمّيةٌ في فهم المقاربة لقمع الثورة.

لَم تنشأْ هذه الجماعاتُ من العدمِ بعدَ ثورة 2011، بل تمتدّ جذورُها التاريخيةُ إلى رعايةِ النظامِ المنظّماتِ الشعبيةَ التي كانت عمادَ سرايا الدفاع التابعةِ رفعت الأسد في الثمانينيات. فقد كانت اللجانُ الشعبيةُ، التي رَوَّجَ لها نظامُ الأسد بحماسةٍ في بدايةِ الثورةِ، النواةَ التي انبثقت عنها جماعاتُ الشبيحة.

أَوَّلُ أنواعِ وسطاء العنف هم من حُشِدوا لتشكيل جماعات الشبيحة بالاعتماد على الروابط الطائفية. وعلى وجه الخصوص، استغلّ نظامُ الأسد وجودَ موظّفين مدنيّين علويّين في الدوائر العامّة للدولة من أجلِ تعبئتِهم لقمع زملائِهم والوشايةِ بهم. وفي سياق حلب على سبيل المثال، اعتمد نظام الأسد على وجودِ مجتمعٍ شيعيٍّ صغيرٍ في بلدتَيْ نُبُّل والزهراء إلى الشمال من حلب للوصول إلى فئاتٍ بإمكانِها التصرّف عيناً للنظام وذراعاً له في القمع.

ثانياً، برز دور شيوخ العشائر والشبكات القبلية والعشائرية جليّاً في التعبئة لتشكيل مجموعاتٍ تشبيحيةٍ من مثل زينو برّي، المنتمي لعشيرةِ جيس (قيس)، وخالد الحسن من عشيرة البَكّارة التي كانت نواةَ “لواءِ الباقر” ذائعِ الصيت. وقد تأسَّسَت نواة ميليشيا لواء الباقر على يدِ خالد المرعي (الحسن) مع شقيقِه عُمر سنةَ 2012، على أنَّ أوَّل ظهورٍ إعلامي لاسم اللواء كان سنة 2015. وخالد هو أحدُ مشايخِ عشيرةِ البَكّارة، الذي استغلّ حادثةَ مقتلِ والدِه وشقيقِه على يدِ “الجيش السوري الحُرّ” في مدينة حلب، ليعبئ أفرادَ عائلتِه وعشيرتِه مستغِلّاً صِلاتِه التي كوّنها مع حزب الله أثناء عملِه في لبنان في مَقلعِ أحجار. يضمّ لواءُ الباقر عدداً من الكتائب العسكرية تنتشر في الأحياء الشرقية من حلب، وفي دير الزور.

شبيحة النظام في سوريا
شبكة لواء الباقر التي تظهر دور زينو برّي (عشيرة جيس) وخالد الحسن (عشيرة البَكّارة)
تصميم الشبكات بالتعاون مع مرصد الشبكات السوري
من هذا المنظور يتبدّى لنا العملُ الفرديُّ مدفوعاً بعلائق مجتمعيّة. ففي حلب مثلاً أدّى آل برّي دوراً قمعياً بداية الانتفاضة، وقد فصّلتُ ذلك في مقالتِي “حلقة من حلقات الثورة: حركة الاحتجاج في جامعة حلب 2011-2013” المنشورةِ سنة 2021 في المجلة البريطانية لدراسة الشرق الأوسط. ومع ذلك، كانت حلب أكبر من أن تسيطِرَ عشيرةٌ واحدةٌ على شوارعها لمنع المظاهرات، وسرعان ما ظهرت تشكيلاتٌ عشائريةٌ أخرى.

ثالثُ أنواع وسطاء العنف هم رجال الأعمال من المحاسيب. تستند المحسوبية في جوهرها على علاقةٍ مصلحيةٍ من الأعلى مقابل الولاء الشخصي من الأسفل. والرائدُ في هذه المساحة كان حوتَ الأعمال السوري رامي مخلوف، ابن خال الرئيس السوري السابق بشار الأسد. وهناك أسماءٌ أخرى مثل محمد حمشو وسامر فوز وعامر خيتي وفارس الشهابي وسامي أوبري، الذين رَعَوا ومَوّلوا جماعات شبيحة بالتنسيق مع أفرعٍ أمنيةٍ وشخصياتٍ عسكريةٍ تنتمي لجهاز الدولة الرسمي، كما أشرتُ في مقالٍ سابقٍ بعنوان “في ظلّ الدولة: صعود كتائب البعث في جامعة حلب بعد 2011”. إذ كانوا يخصّصون مرتّباتٍ يوميةً لتمويل حملات القمع باستخدام عمّال المصانع وإرسالهم إلى نقاط المظاهرات الساخنة لتحويلهم إلى طبقةٍ عاملةٍ عنفيّة. كانت أجورُ هذه العمالة تتراوح بين ألفٍ وألفَيْ ليرةٍ، أيْ ما يعادل عشرين إلى أربعين دولاراً أمريكيّاً حينَها، في أيام الجمعة، ليتحوّلوا لاحقاً إلى مجموعاتٍ قتاليةٍ تتبع فرقة الدفاع الوطني.

شبكة رامي مخلوف
شبكة رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد
تصميم الشبكات بالتعاون مع مرصد الشبكات السوري
أمّا رابعُ أنواع وسطاء العنف فارتبط بحزب البعث. وقد ساهم الحزب كذلك في التعبئة للعنف مستعيناً بشخصياتٍ تقرّبت من القيادة وعَبَّأَت كوادرَ البعث والمنظّمات المرتبطةَ به، مثل الاتحاد الوطني لطلبة سوريا الذي كان وسيطَ عنفٍ هو الآخَر. فالمحسوبية هي المحرِّك الذي يسهِّل عمليةَ الوساطة للتحشيد وارتكاب العنف. وتنشأُ العلاقةُ من عرّابٍ يلقَّب “المعلّم”، وتنطوي تحت جناحِه فئاتٌ متنوّعةٌ من الموظّفين الحزبيّين والعاملين في الدولة. ومن أبرز الأمثلة على هذا النوع من السمسرة شخصياتٌ كهلال هلال، الذي أصبح الأمينَ القُطريَّ المساعدَ لحزب البعث، مكافأةً على جهوده الكبيرة لتشكيل كتائب البعث في حلب في الأشهر الأولى من الثورة السورية. ففي نوفمبر سنةَ 2012، أجرت إذاعة شام إف إم لقاءً هاتفياً مع أمين فرع حلب المدينة لحزب البعث العربي الاشتراكي آنذاك هلال هلال للحديث عن دوره في تشكيل كتائب البعث، فقال إنَّ “الرفاق البعثيين كانوا في شوارع حلب منذ اليوم الأول للأحداث، لكن التطورات الأخيرة اقتضت أن يتكيّف الحزب ويسلك طرقاً جديدة”. ثم استمر في تحديد الأدوار الجديدة التي أُعطِيت لأعضاء الحزب في ظلّ الهيكل الجديد، واسمه “كتائب البعث”. وفي صيف 2013، كافأ بشار الأسد هلال على جهوده بتعيينه الأمين القُطريّ المساعد.

شبكة سامر فوز
شبكة سامر فوز
تصميم الشبكات بالتعاون مع مرصد الشبكات السوري
شبكة عامر خيتي
شبكة عامر خيتي
تصميم الشبكات بالتعاون مع مرصد الشبكات السوري
شبكة فارس الشهابي
شبكة فارس الشهابي
تصميم الشبكات بالتعاون مع مرصد الشبكات السوري
أمّا المثالُ الآخَر فهو عمّار ساعاتي، الذي نجح في تحويل الاتحاد الوطني لطلبة سوريا إلى فرعٍ أمنيٍّ يلاحق الطلبة الناشطين ويقمع المظاهرات السلمية ويعسكر أفراد الاتحاد ليكونوا رديفاً للأجهزة الأمنية وقوّات جيش نظام الأسد. وقد أوضحتُ ذلك في مقالتي المُحَكَّمة “في ظل الدولة صعود كتائب البعث في حلب بعد عام 2011” المنشورة في مجلة أبحاث الجناة سنة 2021. ويعدّ ساعاتي صديقاً مقرّباً لعائلة الأسد، إذ بدأت علاقته في التسعينيات بباسل الأسد الذي فَرَضَه رئيساً لمكتب الاتحاد في جامعة دمشق سنةَ 1992 ليصبح بعدها نائبَ رئيس الاتحاد منذ سنة 1995، ورئيساً للاتحاد حتى سنة 2020. واستُحدِث منصبٌ كُرمَى لعيونِه بِاسمِ مكتب الشباب القُطريّ في القيادة القُطرية لحزب البعث مقابل خدماته منذ سنة 2013. ولساعاتي باعٌ طويلٌ في قمع الاحتجاجات، حسب ما أفاد زملاء سابقون له في مقابلةٍ سابقة أجريتها معهم بعد أن انشقّوا عن الاتحاد احتجاجاً على توظيفِه القمعَ. بداية الثورة السورية نجح ساعاتي سريعاً في تنظيم اللجان الطلابية، التي تحوّلت سنةَ 2012 إلى ميليشيا عسكريةٍ تُدعى كتائب البعث، وأخذت على عاتقها بدايةً حراسةَ مداخل الجامعات والمدن الجامعية من أجل الوشاية بالطلبة الناشطين. تطوّرت أدوارُ هذه الكتائب لاحقاً لتشارك في الحملات العسكرية، جنباً لجنبٍ مع جنود جيش النظام. وبقيت قيادةُ كتائب البعث دائماً تحت قيادة أعضاء من الاتحاد الوطني لطلبة سوريا، وهُم باسم سودان وعمر عاروب.

شبكة عمّار ساعاتي
شبكة عمّار ساعاتي الذي نجح في تحويل الاتحاد الوطني لطلبة سوريا إلى فرعٍ أمني
تصميم الشبكات بالتعاون مع مرصد الشبكات السوري
في وقتٍ لاحقٍ من الثورة، ظهرت سمسرةُ عنفٍ أُخرى. فبعد التدخل الروسي في سبتمبر 2015، بدأ النظامُ الترويج بزخمٍ كبيرٍ لِما أسماه المصالحات الوطنية بضمانة القوّات الروسية والمسؤولين في قاعدة حميميم العسكرية قرب اللاذقية. وتحت هذا الاسمِ السِلميِّ، قَدَّمَ أشخاصٌ أنفسَهم وسطاءَ لضمانِ عودةِ المدنيّين إلى منازلِهم وتسويةِ أوضاعِ أشخاصٍ حملوا السلاحَ على نظام الأسد في السنوات الأولى للثورة.

في بداية الثورة السورية اتّخذت شخصياتٌ اجتماعيةٌ ودينيةٌ كثيرةٌ مواقفَ ضدّ العدوان على المتظاهرين السلميّين العُزّل. ولكن في لحظةٍ ما، عندما رجحت كفّةُ النظام العسكريةُ في بعض المناطق، اختاروا – كما يحلو لهم تسميتُها – العودةَ إلى حضن الوطن. والأمثلةُ زاخرةٌ في هذا السياق، مثل الشيخ نواف راغب البشير ورسلان العلي رسلان الذي كان قيادياً في أحد فصائل المعارضة، اللذَيْن سرعان ما تراجَعا عن مواقفهما الأخلاقية وعادا إلى حضن النظام ليقوما بعدها بتعبئةِ حواضنِهم الشعبية وينخرطا في أعمال التشبيح بالتعاون مع الأفرُعِ الأمنيّة. فقد شكّل كلاهما مجموعاتٍ عسكريةً مرتبطةً بالأمن العسكري، وأُنيطت بهم مهام أمنيةٌ في أماكن وجودهم.

في السياق العسكري والأمني، وجدت عدة نماذج من اتفاقيات المصالحة المحلية المباشرة بين الثوار المسلحين المحليين والنظام أو اتفاقيات التسوية برعاية روسيا، كما حصل في درعا. إذ انضمّ فصيل قوات شباب السنة إلى اتفاقية التسوية وأصبح ضمن الفيلق الخامس المدعوم روسياً داخل هيكلية جيش النظام السوري، بينما انضمّ المقاتلون المحليون في القلمون إلى ميليشيات درع القلمون التي قاتلت إلى جانب قوات النظام شمال وشرق سوريا، وانضمّ آخرون إلى ميليشيات تابعة لجهاز الأمن العسكري أو المخابرات الجوية. ضمنت هذه الاتفاقيات للمقاتلين المحليين البقاء في مناطقهم غالباً، وخصوصاً في درعا، وتغيّرت ولاءات قسم منهم. بينما انطوى الخيارُ الآخَرُ على مغادرةِ المسلَّحين أماكنَهم بكرامةٍ، ليُنقَلوا بالحافلات إلى شمال البلاد، وخاصّةً إدلب أو الريف الشمالي لحلب. وفي كلتا الحالتَيْن، لَجَأَ النظامُ إلى الاستعانة بشخصياتٍ محوريةٍ تتمتّع بسَطوةٍ كبيرةٍ محلّياً في السياق الذي ينتمون إليه، بتنسيقٍ عالٍ مع الأجهزة الأمنيّة، وبتعاونٍ وثيقٍ مع سماسرة ووسطاء عنف امتهَنوا هذه الصنعة.

شبكة نواف راغب
شبكة نواف راغب البشير الذي عاد إلى حضن النظام وانخرط في أعمال التشبيح بالتعاون مع الأفرُعِ الأمنيّة
تصميم الشبكات بالتعاون مع مرصد الشبكات السوري
لقد مَثَّلَت السمسرةُ للعنفِ والمشاركةُ في أنشطةِ التشبيحِ صنعةً انتهازيّةً وأداةً لصعودِ درجاتِ الهيكلِ التراتبيِّ للنظام. من ناحيةٍ أُخرى، اتّخَذَ النظامُ هؤلاءِ الوسطاءَ أدواتِ نجاةٍ محدودةَ الاستخدام. ففي أوقات الحاجة، منح نظامُ الأسد رؤوسَ الشبيحةِ وأفرادَهم هوامشَ كبيرةً من السلطة والامتيازات تمثّلت في التعيينات في جهاز الدولة المكتبيّ. وفي أوقاتٍ أُخرى، كانت مجموعاتُ الشبيحةِ هي أُولى الهياكلِ التي تُستهدَف عندما يعيد النظامُ هيكلةَ ترتيباتِه أو يستعيد السيطرة.

مَنَحَ هذا التكتيكُ النظامَ احتكاراً كاملاً للشبيحة باتّباع نهجِ المسؤوليةِ المحدودةِ حين يكون الأفرادُ مسؤولين أمام سلطات النظام عن أفعالٍ في الغالب لا تتعلّق بالعنف المرتكَب أو الانتهاكات، وإنما بأسبابٍ جنائيةٍ أو تجاوزاتٍ جُنحيّةٍ، كما تُظهِر بعضُ التقارير التي عثرنا عليها أثناء وجودنا بفرع المنطقة 227. في تلك الزيارة استطعنا إيجادَ ملفّاتِ معظَمِ مرتكبي مجزرة التضامن التي وقعت سنةَ 2013، والتي كانت سلسلةً من مجازرَ منظّمةٍ أُخرى أَشرف عليها عناصر وضبّاط من الفرع ذاتِه بالتعاون مع ميليشيا الدفاع الوطني. ذكر أحدُ التقارير التي وجدناها سلوكَ المرتكِب الرئيسِ مجزرةَ التضامن، أمجد يوسف. ثمّ انتقد سلوكَه بعدما استولى على بيتٍ لشخصٍ يحمل الجنسيةَ السعودية. فعندما يتعلّق الأمرُ بالمساءلةِ عن الجرائم المرتكَبة، يمكن للنظام أن يُنكِرَ علاقتَه بهذه المجموعات، ولكنه يستطيع زجرَهم وتأنيبَهم لارتكابِهم جناياتٍ وجُنَحاً لا تَروق عقليةَ المسؤول.

شبكة أمجد يوسف
شبكة أمجد يوسف، المرتكِب الرئيسِ مجزرةَ التضامن
تصميم الشبكات بالتعاون مع مرصد الشبكات السوري
في معظمِ الحالاتِ أفرادٌ أَدَّوا دوراً كبيراً في تعبئة المدنيين لتنفيذ خطط النظام في قمع الاحتجاجات السلمية والنشاط المسلّح اللاحق، وقد رُقُّوا إلى مناصبَ لم يكُن بإمكانِهم تحقيقُها أبداً. ومن الأمثلة البارزة هنا فادي أحمد، المعروفُ بِاسمِه الحركيِّ “صقر”. بدأ صقر مسيرتَه المهنيةَ مديراً لفرعِ المؤسسة الاستهلاكية في الزبلطاني، ثمّ ترقّى ليصبحَ مديرَ المؤسسة الاستهلاكية بدمشق بسبب علاقةٍ قويّةٍ تربطه باللواء بسام الحسن الملقَّب “الخال”، مؤسِّسِ قوّات الدفاع الوطني بالتعاون مع الإيرانيين ومن أهمّ الأذرعِ الأمنيةِ لبشار الأسد. عمل صقر مع الخال في تأسيس فرقة الدفاع الوطني، واستمرَّ في وظيفته المدنية ليصبح بعدَها مديرَ مركز الدفاع الوطني في دمشق، وكان ذا نفوذٍ على باقي الفروع في المحافظات الأُخرى. عند هؤلاء الأشخاص، كانت الثورةُ أفضلَ ما مَرَّ بهم لأنها أتاحت لهم فرصاً مهنيّةً غيرَ مسبوقة.

اتّبع النظامُ هذه الترتيبات على مستوياتٍ مختلفةٍ: المركزية والمتوسطة والمحلّية. في أعقاب تفجير خليّة الأزمة، أعاد النظامُ هيكلةَ صفوفِه لمتابعة نهجِ اللاعودة بتغيير جميع رؤساء الأفرع الأمنية، باستثناء جميل الحسن، وإعادة تنظيم معظم ضباط الأفرع على مستوى المحافظات. وتفجير خليّة الأزمة هو تفجيرٌ وقع في مبنى مكتب الأمن القومي في مدينة دمشق في الثامن عشر من يوليو 2012، وقُتل فيه عدد من كبار ضباط ومسؤولي النظام، أبرزهم وزير الدفاع داود راجحة ونائبه آصف شوكت ورئيس الخلية حسن تركماني ورئيس مكتب الأمن القومي هشام الإختيار. بالتزامن مع إعادة تنظيم المناصب الأمنية، شَكَّلَ النظامُ حكومةً جديدةً لجلبِ وجوهٍ مطواعةٍ مواليةٍ له في تنفيذ الرؤية الأمنيّة والحَلِّ العسكريّ ضدّ الانتفاضة، مثل وزير الدفاع فهد جاسم الفريج، ووزير التعليم العالي محمد معلّا، ووزير الصحة وائل الحلقي الذي أصبح رئيساً للحكومة بعد انشقاق رياض حجاب في أغسطس 2012. على انشقاق كبار المسؤولين مثل رئيس الوزراء، لم يهتزّ النظام، بل عزّز هذا الحدثُ موقفَه برسمِ خطوطٍ واضحةٍ لأولئك في المناصب الرسمية ليكونوا واضحين في موقفهم، كما قال بشار الأسد مرّةً: “لا مكان لمن يقف في الوسط”.

شبكة بسام الحسن
شبكة بسام الحسن الملقَّب “الخال”، مؤسِّسِ قوّات الدفاع الوطني، أهمّ الأذرعِ الأمنية لبشار الأسد
تصميم الشبكات بالتعاون مع مرصد الشبكات السوري
علاوةً على ذلك، كانت انتخاباتُ مجلس الشعب دائماً مناسبةً لإبراز الأفراد الذين قدّموا خدماتٍ للنظام على المستوى المتوسط. ففي نظرةٍ سريعةٍ على خلفيّات أعضاءِ مجلس الشعب للدور التشريعي الثاني سنة 2016، يلاحِظ زياد عوض وأغنس فافير في مقالِهما “الانتخابات وقت الحرب: مجلس الشعب السوري” مكافأة سماسرة العنف ومموّلي الشبيحة جليّاً. مثل محمد حمشو في دمشق، وفاضل وردة في حماة، وحسام قاطرجي ومهند الحاج علي في حلب، والقائمة تطول. لم تكُن تعييناتُ حزب البعث مختلفة. ففي 2013، أعاد النظامُ تنظيمَ صفوفِه على جميع المستويات لتتماشى مع الاستراتيجية العامّة. وانعكست هذه التحوّلات على المستويات العليا في الوجوه الجديدة في السياق المحلّي. ولأنَّ النظام أجرى تعييناتِه بطريقةِ محاباةٍ وزبائنيةٍ، فقد كُلِّفَ أولئك في الصفوف العليا بجلب رعاياهم من السياق المحلّي. أخذت الترتيبات شكلَ نظامِ رعايةٍ موالٍ (نظام المحسوبيات) إذ كان النظامُ يُحمِّل الأوصياءَ مسؤوليةَ أيِّ انحرافٍ في تنفيذ الردّ على الانتفاضة. وفوق ذلك، تَطَلَّب هذا من القيادةِ منحَ مجنَّديهم حصانةً مشروطةً للتعدّيات الميدانية. ولُوحِظَ ظهورُ طبقةٍ جديدةٍ من المستفيدين من الحرب بعد بضع سنواتٍ من أنشطة التشبيح، تتكون من رجال أعمالٍ ومسؤولين حكوميين أو وسطاء مصالحةٍ، مثل أعضاء مجلس الشعب الذين تحدّثنا عنهم.

اتّبع النظامُ خطّةً انتقائيةً لتبييض فظائع أعضاء مجموعاتٍ من الشبيحة أَوْغَلَت في الانتهاكات. شمل ذلك محوَ السجلّات الجنائية والتلاعبَ بالمعلومات وسرديات الإعلام وعلاقات سماسرة التشبيح وماضيهم لإعادة تشكيل تصوّرٍ مغايرٍ لأنشطتهم، ممّا يجعلها تبدو شرعيّةً أو أقلّ ضرراً. ففي أعقاب نشر تفاصيل مجزرة التضامن لم يحرّك النظامُ ساكناً لمحاسبة مرتكبيها. بل على العكس مضى قُدماً في مَكتَبِيَّتِه العُنفيّة بتطويرِ مهاراتِ عناصرِه الأمنيّةِ وإخضاعِهم لدوراتٍ احترافيةٍ، كما شاهدنا في الملفّات المرصوفة في أروقة الفروع الأمنية. بالتوازي غالباً ما شملت هذه السياساتُ الاستفادةَ من المؤثّرين على وسائل التواصل الاجتماعي والعلاقات العامة، كما أَظْهَرَتْ وثيقةٌ اطّلعنا عليها في فرع التحقيق العسكري ذي الرقم 248، حيث عَرَضَ مؤثّرٌ في صفحات التواصل الاجتماعي خدماتِه للفرع المذكور لرصدِ الرأيِ العامِّ وتلميع صورة النظام باستخدامِ منصّة فيسبوك. ذُيِّل المقترَحُ بالموافقةِ والتزويدِ بالمواردِ اللازمة.

وثمّةَ مثالٌ آخَرُ أكثرُ عَمَلِيّةً ومَأْسَسَةً، وهو نشرُ القصص المضلِّلة أو الإيجابية وتحويلُ الانتهاكات إلى بطولاتٍ، مثل مشروع المستشارة السياسية للرئاسة بثينة شعبان للتأريخ الشفوي. إذ أطلقت في يونيو سنةَ 2016 مشروعاً ضخماً بعنوان “وثيقة وطن” يَستهدِفُ الترويجَ لرواية النظام في حربِه على الشعب السوري الثائر على أنها حربٌ على الإرهاب يشنّها محورُ المقاومة للدفاع عن فلسطين. ووقّعت شعبان مذكّرات تفاهمٍ وتعاونٍ مع جهاتٍ حكوميةٍ وغيرِ حكوميةٍ تعدّت الحدودَ السوريةَ لترعاها مؤسّساتٌ في سلطنة عمان معنيّةٌ بحفظ الإرث والتراث (هيئة الوثائق والمحفوظات)، كما يدلّل على ذلك الموقعُ الرسميُّ للوثيقةِ والمستنداتُ التي عثرنا عليها في مكتبها في حَيِّ أبو رمانة الدمشقيّ.

مع كلّ هذه الخدمات التي قدّمها هؤلاء الأشخاصُ، فإنَّ النظامَ استهدفَ بعضهم عندما أراد تقديمَ صورتِه الإصلاحيةِ للحاضنةِ الشعبية. إذ سقط العديد من الشخصيات على جميع المستويات ضحيةً للنظام عندما بدأ في تنظيف صفوفه وتسوية الحسابات لتبييض سجّله. لذلك، أُزيل العديدُ من المشاركين في التشبيح من الواجهة بطرقٍ مختلفةٍ، من السجن إلى الإقامة الجبرية أو الاغتيال. وفي أمثلةٍ أُخرى، قرّر عددٌ لا بأسَ به من هؤلاء مغادرةَ البلاد لبدءِ حياةٍ جديدةٍ في الخارج على أملِ أن تتقادم هذه الجرائم في ذاكرة الشعب السوري ليعودوا في لحظةٍ تاريخيةٍ باستخدام ذرائع مختلفةٍ، تتدرّج من سرديّات الصفح والمسامحة إلى ضرورة التنمية والمُضيّ قُدماً في حياتهم الاعتيادية وكأنّ شيئاً لَم يكُن، كما دَرَسْتُ في أطروحةِ الدكتوراه التي قدّمتُها بعنوان “شبكات العنف: صعود الشبيحة في حلب وسوريا بعد 2011”.

ينطبق هذا أيضاً على الشخصيات التي سارَعَت إلى “التكويع” بعد هروبِ بشار الأسد، لتقديمِ أنفسِهم شخصياتٍ وطنيّةً مستعدّةً للتعاون مع السلطات الجديدة بهدف بناء سوريا جديدةٍ على مقاسِهم. وما حالةُ فادي صقر الجدليةُ التي تناولَتْها الأوساطُ الثورية والمؤيّدة للنظام السابق على حدٍّ سواءٍ إلا دليلٌ على جدل هذه المواقف. وسبق أن اتحَفَتْنا بعضُ الشخصيات الإعلامية والفنّية من مِثْلِ الإعلاميّ شادي حلوة، الذي أدّى دوراً كبيراً في تلميع صورة نظام الأسد حتّى آخِرِ أيّامِه، ليُصوِّرَ نفسَه شخصيةً وطنيةً تسعى إلى بناءِ سوريا تتّسع للجميع.

شبكة فادي صقر
شبكة فادي صقر التي توضح ارتباطه بأمجد يوسف
تصميم الشبكات بالتعاون مع مرصد الشبكات السوري
وفي معظم هذه الحالات لَم يتكبّد هؤلاء الأشخاصُ حتّى عناءَ الاعتذارِ عن ماضيهم الحالِكِ وأفعالِهم التي تركت وصمةً في جسد الشعب السوري لن تُمحى إلّا بالعدالة. عدالةٌ لا ترتبط بتأويلاتٍ متحيّزةٍ تحت غطاء المسامحة، أو حسب تعبير ممثّلين عن الطائفة العلوية بأحد بياناتهم “عفا الله عمّا مضى”، أو “اذهبوا فأنتم الطلقاء” كما بدأت بعض الأوساط الترويج لها. فلَم تُظهِر السلطاتُ الجديدةُ، حتى الآن، جِدّيةً أو رؤيةً لمخاطَبةِ عوائلِ ضحايا انتهاكاتِ الجناةِ المرتبطين بالنظام أو مسار محاسبةٍ لمنع تكرار أيّ شكلٍ من أشكال الفظائع والجرائم الذي ارتكبته أذرعُ النظام وآلَتُه على حَيَواتِ السوريين على مَرِّ العقود.

لذا يبقى سؤالُ العدالة هو العاملُ الرئيسُ في البَتِّ في مصائرِ هؤلاءِ الأشخاصِ الذين امتهَنُوا سمسرةَ العنف، فهؤلاء لا يهمُّهم من يَحكُمُ بقدرِ ما تعني لهم حظوةُ الوصول إلى السلطة. وهؤلاء أشخاصٌ يمتلكون مهاراتٍ لا يستطيعون التخلّيَ عنها لأنّها الصنعةُ التي يتقنون. فإذا لم يوضع حدٌّ لهذه الحلقة من الشَرِّ، فإنها ستعيد إنتاجَ نفسِها بلبوسٍ جديدٍ، وقد تكون أشدَّ فتكاً من سابقاتها.

سقوط الأسد
,
سوريا
,
سوريا الأسد
:تصنيفات