الإعلان الدستوري والدستور هما شكلان من أشكال العقد الاجتماعي، والأخير هو إعادة صياغة لعلاقة أفراد المجتمع ببعضهم من جهة ولعلاقتهم بالسلطة والدولة من جهة أخرى، وبهذا المعنى فهما يرتبطان بالأزمان والأزمات التي تشهد إعادة صياغة ضرورية لتلك العلاقات، وبهذا المعنى أيضاً فإن صياغة مثل تلك الوثائق التاريخية ليست مسألة اكاديمية ينجزها متخصصون في القانون والدستور، بل هي مسألة إعادة صياغة توازن اجتماعي بعد فترة عدم استقرار أو صراع سياسي وربما عسكري وأحياناً طائفي وقومي.
لكل ما سبق من غير المفيد القول إن المواد الأكثر إثارة للاختلاف كانت موجودة في الدساتير السابقة، وكان السوريون يعيشون في ظلها بأمان، مع أن هذا ليس دقيقاً فيما يخص اسم الدولة وبعض التفاصيل الأخرى، ولقد فجرت ثورة 2011 والصراع العسكري الذي تلاها، طوال ثلاثة عشر عاماً، كل ما كان يكمن من إشكاليات في المجتمع السوري، لقد فضحت وَهْمَ وحدتِه الذي كان الجميع ولا يزالون يتحدثون عنه، في حين كانوا ولا يزالون يهمسون، فيما بينهم، بكل ما يزعزع وربما ينسف أسس تلك الوحدة.
بعد عهود من الانكفاء والتقوقع ومحاولات التذرر الفاشلة، والمفتقدة للإجماع، أثناء الفترة الاستعمارية جرب السوريون التوحد بعد الاستقلال فتوصلوا إلى حالة مقبولة من الاندماج الوطني، ويمكن القول الديموقراطي أيضاً، وهي فترة المد القومي والاشتراكي، لكن هذه الفترة القصيرة زمنياً والمرهَقَة بعدم الاستقرار السياسي، انتهت ببدء الاستبداد السياسي عام 1958 والذي انقطع لفترة بسيطة بين 1961-1963، ثم ليعود الاستبداد البعثي ثم الأسدي بأسوأ أشكاله في التاريخ السوري، والذي استمر أربعة وخمسين عاماً.
هكذا فإننا أمام استحقاق جديد هو إعادة بناء مفهوم “الوطنية السورية”، لقد كان شرط إسقاط النظام شرطاً لازماً، ولكن غير كافٍ لإنجاز تلك المهمة، ولم يتحقق التغيير، وفق ما كان يفكر المعارضون السوريون، اعتماداً على قرارات الشرعية الدولية، رغم طول الانتظار، وتحقق على يد قوى وفصائل عسكرية استطاعت الاستفادة من ظروف إقليمية مناسبة، لكن التحدي لا يزال قائماً: إعادة بناء أسس الوطنية السورية.
أمام القوى المنتصرة احتمالان إما أن تعتمد مبدأ “الشرعية الثورية” الممكن ترجمته ب “من يحرر يقرر ” وهو المبدأ الذي عملت بموجبه غالبية القوى المنتصرة عبر التاريخ، وإما أن تدرك الضرورات التاريخية بدءاً من الاستحقاقات الداخلية أو المحلية وانتهاءً بالظروف الإقليمية والدولية مروراً بالتشابك والعلاقة بين الإثنين، ولا تضع نفسها أمام احتمال الفشل سواء كان فشلاً مباشراً وسريعاً أو فشلاً ممتداً مشابهاً لفشل النظام السابق، لكن السوريين ليس لديهم ترف الانتظار فهم لا يستطيعون أن يراقبوا أو يتفرجوا منتظرين مصير السلطة، لأنهم في الحالين سيدفعون الثمن، بهذا المعنى فإن للسوريين مصلحة كبرى في نجاح التجربة لأن الفشل سيجر عليهم جميعاً كوارث كبرى، فهل بدأنا طريق الفشل وفات الأوان؟
منذ الأيام الأولى أعلن الرئيس المؤقت السيد أحمد الشرع عن ضرورة الانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية الدولة ورغم التراجع الجزئي على الأقل في تصريحات أخرى منها مثلاً، بما معناه، أنكم مثلما قبلتم طريقتنا في النصر يجب أن تقبلوا طريقتنا في الإجراءات التالية، ومن المفترض، ولمصلحتنا جميعاً، أن تعود السلطات المؤقتة للعمل بعقلية الدولة وتعود لمراجعة ما قامت به من إجراءات وتختار حلولاً جديدة مناسبة، فإن عقلية الدولة مثلاً لا تنسجم مع تسليم المناصب الهامة، وخاصة في المؤسسة العسكرية، لمواطنين من مكون واحد ولا مع عدم صرف رواتب المتقاعدين العسكريين…الخ. لن نطلب تغييراً فيما يخص مؤتمر النصر الذي منح السيد الشرع شرعية الرئاسة المؤقتة لكن الوقت لم يفت بعد لاعتبار مؤتمر الحوار الوطني السابق مجرد مؤتمر تشاوري والتحضير لعقد مؤتمر وطني تأسيسي، شامل للمكونات القومية والدينية والطائفية والمناطقية والسياسية، يتكفل بوضع تصور شامل للمرحلة الانتقالية وتكون مخرجاته ملزمةٌ للجميع، وفي هذه الحالة يكون مطلوباً مراجعة الإعلان الدستوري وكل ما اتخذ من قرارات قبله وبعده، فهي بالنهاية إجراءات مؤقتة قابلة للتعديل خلال المرحلة الانتقالية، التي رغم بعض الاختلاف على امتدادها الزمني، فإن هناك توافقاً على أنها ليست قصيرة.
تعرض الكثيرون لنقاش تفاصيل الإعلان الدستوري المؤقت، الذي توسع فأصبح أقرب للدستور، وهو نقاش لابد أن تستفيد منه السلطة المؤقتة، ويجب أن يكون الإعلان موضع إعادة نقاش من حيث ضرورة اقتصاره على أساسيات ما يكفي لإدارة المرحلة الانتقالية، وخاصة النقاط الإيجابية الهامة التي تؤكد على وحدة سورية وعلى المواطنة وسيادة القانون ووحدة سورية والعدالة الانتقالية والسلم الأهلي والحكم الرشيد، أما من حيث تعديل البنود التي هي موضع الخلاف الأكبر والتي يكفي التوافق عليها للسير معاً في الفترة الانتقالية فإننا نقترح المقاربة التالية:
هوية الدولة: إن الاتفاق على الهوية الوطنية السورية يعني اعتبارها الهوية الرئيسة للسوريين، سواء كنا عرباً أو كرداً أو سرياناً آشوريين أو كيفما كانت انتماءاتنا القومية، لإن مشروع بناء دولتنا سيكون على أساس أننا سوريين، وهذا لا ينفي أن يتعاطف معنا أو يدعمنا عرب أو كرد من دول أخرى فالانتماءات القومية الأخرى ستبقى قائمةً كانتماءات فرعية لها طرق تحققها الثقافي في المجتمع بعيداً عن إثارة أي كراهية أو عداوة. وإذا اعتبرنا اللغة العربية هي اللغة الرسمية باعتبارها الأكثر انتشاراً، فهذا لا يتعارض مع قبول استخدام رسمي للغات أخرى في أماكن تواجد المتحدثين بهذه اللغات كحق طبيعي.
هوية رئيس الدولة: طالما قبلنا بالمواطنة المتساوية فلا نستطيع القول إن الرئيس يجب أن يكون منتمياً لدين معين حتى ولو كان دين الأغلبية السكانية.
مرجعية الفقه الإسلامي: إذا كان الفقه الإسلامي مصدراً للتشريع فلا يجب أن يكون المصدر بال التعريف، أو ربما يتم الاكتفاء بصيغة من مثل عدم التناقض مع الفقه الإسلامي، حتى يكون هناك مجال لفقه يخص ديانات أخرى وربما يجب ضمان حق غير المؤمنين في المجتمع، خاصة وأننا نقبل بوجود قوانين خاصة للأحوال الشخصية للطوائف الأخرى.
إذا اقتضت المرحلة الانتقالية صلاحيات كبيرة للرئيس في الفترة الانتقالية وهو أمر مفهوم ومقبول، كما في النظام الرئاسي المقترح، فإن هناك ضرورة للتفكير بتوسيع قاعدة المشاركة، وهذا يقتضي التخفيف من صلاحيات الرئيس لصالح هيئات مؤقتة أخرى مثل الكيان التشريعي، وذلك بالحد من صلاحيات التعيين في المجلس التشريعي وكذلك الحد من صلاحيات التعيين في المحكمة الدستورية العليا لإفساح المجال أمام وضع موقع الرئاسة تحت المحاسبة أو المسائلة.
أخيراً، إن متطلبات العلاقات الإقليمية والدولية هي شيء لا يمكن تجاهله بالنسبة لبلد ينطلق من مستوى قياسي في الخراب والدمار وبحاجة ليس فقط إلى إعادة تأسيس دستوري وسياسي وإنما إلى إعادة بناء اقتصادي وعمراني. وقد تسبب تراكم الممارسات الكارثية للسلطة البائدة في وضع سوريا في موضع الضعف، بل والهشاشة وتحت رحمة العقوبات الدولية التي ستعيق أي عملية جادة وشاملة لإعادة الإعمار والتعافي، وهو ما يجب أن تسعى السلطة الحالية لإيجاد الحلول المناسبة له على المستوى الداخلي بتخفيف، بل بمحاولة إنهاء التوترات والمعارك الطائفية والاجتماعية التي ستقودنا إلى الهلاك في حال استمرارها، مثلما تعمل على المستوى الإقليمي والدولي في إقامة علا قات سلمية متوازنة ومتكافئة.
عاشت وحدة السوريين على أساس المواطنة الكاملة في سورية الديموقراطية.
تيار مواطنة” مكتب الإعلام”
18.03.2025