توعّدت حماس والجهاد الإسلامي إسرائيل بردّ قاس غير مسبوق منذ الصيف الماضي، إثر تكرار الاختراقات التي يقوم بها المتطرّفون والمستوطنون للمسجد الأقصى و»تدنيسه» كما جرى التعبير يومها. واعتقد البعض أن الردّ سيكون خلال أيام أو أسابيع معدودة، حين لم يتذكّر الكثيرون تلك التهديدات الصيفية الحارّة، واللافتة، رغم ذلك، ما يزال صعباً أن يحاول المرء النظر في الأسباب التي دفعت حماس إلى ذلك الهجوم.
قبل أي نقاش وجدل، لا بدّ من الإقرار بنجاح حماس القاطع بالتفوّق في مجال التكتّم على نواياها، والتفوّق في التخطيط والتنفيذ على الاستخبارات الإسرائيلية، وفي الاستعراض الباهر لإمكانية التلاعب بكلّ الإجراءات الأمنية الخارقة من جهة إسرائيل في منطقة الهجوم وغلاف غزة خصوصاً. لكنّ نشوة تلك النجاحات ينبغي ألّا تخفي ظلال المعاني الأخرى، رغم أن الوقت ما زال مبكّراً على ذلك. يبدو هذا الأمر مهماً بشكل إضافي بعد بدء ورود تسريبات عن أن الاستخبارات الإسرائيلية، استحوذت منذ عام على مخططاتٍ ذات صلة بما حدث بالفعل في السابع من أكتوبر.
لا يمكن أن يُقال إن عملية» طوفان الأقصى» جاءت من فراغ، فقد هيّأ لها تعثّر العملية السياسية، وتهلهل السلطة الوطنية، وانحطاط السياسة الإسرائيلية حتى لجوء نتنياهو إلى يمين متطرّف من خارج الزمان، للتحالف معه في تشكيل حكومته، هروباً للأمام من كلّ الإجراءات القانونية التي تهدده كشخص وكسياسي فاسد. تشكيلة الحكومة هيّأت لتلك القوى مناخاً متوتّراً، مكّنها من الاستفزاز واللجوء إلى سياسات وإجراءات وتصريحات من أقصى تعبيرات العنصرية، والخروج عن المنطق. هنا يمكن لمن أراد أن يعتبر إسرائيل في حالة ضعف يبرّر الهجوم، أن يجد فرصة له. لقد قامت حماس ورفاقها حتماً بالتحضير لمثل هذه العملية على مدى سنوات، بانتظار اللحظة المناسبة أو الحاسمة. وعلى الرغم من كلّ العون الإيراني المعلن، فقد اعتمدت في تصنيع الصواريخ والمسيّرات وغيرها على أعضائها، وعلى ورشاتها السرّية الخاصة، بعد تأمين» التكنولوجيا» والـ»المعرفة العملية».. يبقى أن حجم ساعات العمل الأكبر كان من حصة حماس وتخطيطها ونظام عملها. هذا مثار إعجاب تقني أيضاً.

لا يمكن أن يُقال إن عملية» طوفان الأقصى» جاءت من فراغ، فقد هيّأ لها انحطاط السياسة الإسرائيلية حتى لجوء نتنياهو إلى يمين متطرّف من خارج الزمان

في أسباب «طوفان الأقصى»، أو عملية السابع من أكتوبر، تحدثت حماس عن معاناة الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس وغزّة، وعن أعمال العنف التي يقوم بها المستوطنون وقادتهم في الحكومة، وعن إساءة معاملة الفلسطينيين من قبل قوى الأمن، وعن الأعداد الكبيرة من المعتقلين الذين ينبغي تحريرهم، كما حدث يوم جلعاد شاليط وحده، فكيف إذا أمكن احتجاز عدد كبير من الرهائن مدنيين وعسكريين، كما حدث بالفعل! والمشهد الخلفي كان عملياً «تدنيس» المسجد الأقصى، كما ورد أعلاه. لكنّ هنالك ما يدفع إلى التفكير أبعد من كلّ ذلك، رغم وجاهته، خصوصاً ما يتعلّق بمسار المسألة الفلسطينية – العربية ـ الإسرائيلية، والصراع على المكانة والدور القائد فلسطينيّاً، وما يتطلبه من تلبية للمتطلّبات الخارجية.
في عام 2010 قال خالد مشعل في معرض الجدل حول المصالحة الفلسطينية: «قلت إننا نوافق على دولة فلسطينية بحدود 67 مع تحقيق حق العودة للاجئين، وأن تكون هذه الدولة ذات سيادة، أما حل الدولتين فهو مرفوض لأن ذلك يعني اعترافا بإسرائيل، أما مبادرة السلام العربية فنحن متحفظون على ما تتضمنه من الاعتراف بإسرائيل، ومع ذلك فإننا لن نقف حجر عثرة أمام هذه المبادرة». وبقي جوهر موقف حماس بعد تحررّها النسبي من ميثاقها، هو أنه لا مانع مرحلياً من الموافقة على قيام دولة فلسطينية على حدود 1967، شرط عدم الاعتراف بإسرائيل. وبالطبع يضمن هذا الشرط الالتزام بجوهر الميثاق المذكور في الأوقات المناسبة. يلتقي هذا الموقف في الحقيقة مع الموقف الإيراني، ومع مواقف الكثير من العرب والمسلمين، الذين لا يرفضون حلّ الدولتين، بل يعلنون قبوله دائماً، وخصوصاً عندما تكون على الصفحات الأولى أخبار إسرائيلية مضادّة له.
يرى بعض الإيرانيين في إصرار بلادهم على المطالبة بإجراء استفتاء عام في الأراضي الفلسطينية، وتحفظها الدائم على حل الدولتين، تدخلا في شؤون الآخرين، إذ تساءل أستاذ العلوم السياسية صادق زيبا كلام في مناظرة عن الجهة التي فوضّت طهران بأن تكون «كاثوليكية أكثر من البابا» في القضية الفلسطينية، وطالب بالإجابة عن سؤال: من أوكل إلى طهران مهمة القضاء على إسرائيل، «الموت لإسرائيل… الموت لأمريكا» تتردّد أصداؤها يوميا هناك.
لكنّ واقع الأمر ببساطة أن الحكومة الإسرائيلية الحالية نفسها، نسفت حلّ الدولتين أو قاربت على إنجاز جنازته، فلماذا كلّ هذا التعب وتلك التضحيات لإسقاطه، وتحمّل مسؤولية ذلك أمام المجتمعين الإقليمي والدولي لاحقاً، عند خفوت ضجيج الحرب؟ وما زال المعنيون- نظرياً- يردّدون أهمية حلّ الدولتين رغم راديكالية هذه الحرب وآفاقها المفتوحة على تغيير واقع الحال، لا يصمت عن ذلك أحدٌ سوى الطرفين المتقاتلين مباشرة، اللذين تُسقط حربهما بالفعل احتمالات التسوية على ما درجت عليه الأطراف الأخرى، خصوصاً حين يرتبط حلّ الدولتين باتفاقات أبراهام، لفظياً على الأقل!
خلف ذلك بالتأكيد أشياء أخرى أيضاً، لعلّ أهمّها «السلطة»، كطموح بشري أولاً، ثمّ كفعل إيمان، لا يستغرب الإنسان توفّره إلى هذا الحدّ، أو ذاك لدى الطرفين. في لحظة مناسبة قد يكون ممكناً استنهاض براغماتية الإخوان القصوى من كمونها، وتحريض مثيلتها لدى الطرف الآخر، لكنّ ذلك يحتاج في الأعمّ الأغلب إلى تغيير جذري في بعض مكوّنات واقع الحال في الجهتين. حتى ذلك الحين، لا بدّ من النظر في «جهتنا» نحن أولاً. ابتدأ التنافس والصراع منذ وقت طويل بين حماس وفتح من داخل الإخوان المسلمين، حين ذهب عرفات ورفاقه باتّجاه القتال، وذهب الشيخ الياسين ورفاقه باتّجاه العمل الدعويّ والخيري لتهيئة المجتمع للتغيير المطلوب. أُعجِب الإسرائيليون يومها بالموقف الأخير ودعموه نظرياً، وغالباً عملياً أيضاً، حين اقتنعت فتح بجدوى العمل «السلمي» عندما لاحت إشارات الانتفاضة الأولى، وحققت نجاحات سياسية باهرة، بقيادة الإخواني السابق والقائد العسكري الأبرز في فتح أبو جهاد، تشكلت «حركة المقاومة الإسلامية – حماس» وابتدأت بحشد قواها وتعزيز تدريباتها وتأمين السلاح والذخيرة. كان الصعود أسهل لأن الطرف الآخر كان قد تعرّض لضربات عديدة، وابتدأ بالهبوط.. مع بحّة بصوته. الإسرائيليون لم يكونوا بعيدين على الإطلاق، واستسهلوا الاعتماد على تفريق صفوف خصومهم. كان عقد الألفية الأوّل حاسماً، ونجحت حماس في الانتخابات، ثمّ تمّ اختطاف نجاحها وتمييعه، ما سهّل تعزيز الخطّ المبدئي فيها، وهيمنت على غزة مباشرة. أصبحت طرفاً فلسطينياً ثانياً، قادراً على المنافسة. واستمرّ ذلك الصعود مع تدهور وضع وسمعة السلطة الفلسطينية، ومنظّمة التحرير وفتح، ما فتح أبواب الضفة الغربية بشكل أكثر اتساعاً نسبياً أمام الأكثر إقناعاً بجديّته وشبابه، بالتوازي مع صعود آخر لعصر نتنياهو الذي ساعد تطرّف سياساته مع حلفائه على إضفاء شرعية متزايدة لكفاحية مجاهدي حماس.
هذه ملاحظات ملتبسة وأولية بالتأكيد، وينبغي عدم الاستطراد أكثر هنا والآن، لأن مناظر الدم والخراب ما زالت تتكرّر أمامنا على الشاشة، وأمام الغزاويين على الأرض، ووحشية الردّ الإسرائيلي على «طوفان الأقصى» لا تُحتمل بكلّ المعايير. وما سبق هو تهويم سريع في وقت إغلاق تلك الشاشة، لا يكفي لإبعاد انطباع الصورة العميق في مؤخّرة الرأس.. وقف إطلاق النار يبقى المطلب المجدي حالياً!
كاتب سوري