لم يكن ماضيه يؤرقه؛ كان مرتاحاً إليه تماما (أ ب)

“استعد يا جون. قد لا يتمكن هنري من السفر إلى باريس  الأسبوع المقبل، لذلك قد نضطر إلى إجراء بعض التعديلات في ما يخصك”. كان هذا فحوى الاتصال الذي تلقيتُه قبل شهر. لم أستطع أن أصدّق. هنري كيسنجر سيغيب؟ لم يكن من الممكن تصور ذلك. لكن لماذا فُوجِئتُ بأي حال من الأحوال؟ كان في نهاية المطاف يبلغ المئة، ولم يكن ليواصل العمل إلى الأبد.

كان من المقرر عقد مؤتمر سري وخاص أشاركُ في الإعداد له منذ 12 سنة تقريباً. وتكون قائمة الحضور براقة دوماً. هي تشمل الرؤساء التنفيذيين لكبرى شركات العالم، والمبتكرين الذين سيشكّلون القرن المقبل، وهنري – الذي كان الموسوعة المتنقلة والناطقة خلال العقود الكثيرة الماضية.

أعني أنه حين وُلِد عام 1923 كان حبر معاهدة فرساي لم يجف بعد (حسناً، إلى هذا الحد أو ذاك)؛ هو وُلِد في ألمانيا في عهد جمهورية فايمار – كانت اللهجة البافارية لهجة لن يفقدها يوماً. وهو فرّ من النازيين وانتهى به المطاف في أميركا. كان أكاديمياً تقلّب صعوداً في المناصب – لقد مثّل التجسيد الفعلي للحلم الأميركي. وبوصفه الدبلوماسي الأول في عهدي نيكسون وجيرالد فورد، ومستشاراً لـ10 رؤساء آخرين (أكثر بقليل من ربع العدد الإجمالي للرؤساء في تاريخ البلاد)، كان المرء ينصت إليه حين يتحدث.

في مؤتمر باريس، كان من المقرر أن أترأس ندوة جيوسياسية تضم رئيساً سابقاً للحكومة البريطانية، ومديراً سابقاً لوكالة الاستخبارات المركزية، ووزيراً سابقاً للخارجية الأميركية مثل كسنجير . كنا سندرس حالة العالم، مع تركيز قوي، بالطبع، على الوضع الحالي في غزة. لكن هنري كان سيركز الجلسة على نزاعات سابقة. بالطبع كان سيفعل. كان جزءاً من الدبلوماسية المكوكية التي أنهت حرب يوم الغفران. لقد جمعته صداقة مع رئيسة الوزراء الإسرائيلية وقتذاك غولدا مائير، وتقرب من الرئيس المصري أنور السادات، وربطته علاقة ودية مع العاهل الأردني الملك حسين. يؤسفني أنني لم أسمع رأيه في الطريقة التي قد يحل بها التصعيد الخطير الأخير نفسه. لم يتمكن من السفر بسبب سقطة في منزله بكونيكتيكت قبل يوم من الموعد.

العام السابق كنتُ معه في المؤتمر نفسه بطوكيو. تلك المرة تناولت المحادثة العلاقات بين الصين والولايات المتحدة – والتهديد المتربص بتايوان. كان عمره آنذاك 99 سنة فقط، وكانت حركته محدودة، وكان صوته – في شكل غير محتمل – قد أصبح أعمق (لطالما كان عند الحد العميق جداً من سلم الأصوات)، وكان إيصال الأفكار أكثر ضعفاً. لكن عقله كان حاداً. تحدث عن لقائه الرئيس ماو والدور الذي أداه في تطبيع العلاقات مع الصين عام 1972. وتناول كيف اختلفت النظرة الصينية إلى التاريخ والمصير عن نظرة الغرب، وكيف لم يكن ذلك موضع تقدير في كثير من الأحيان. لم يكن أفق الصينيين الزمني محدداً بالإلهاء الذي تمثله الدورات الانتخابية، مثل أفقنا.

لعل أكثر ما لفت الانتباه عند الإعلان عن وفاته لم تكن إشادة القادة من أنحاء العالم كله به – بل إشادة إحدى المؤسسات: نعت وكالة الأنباء الحكومية الصينية وفاة “صديق قديم عزيز”. كان الرئيس شي يصغي إليه، إذ زار الصين أكثر من مئة مرة.

إن إرث كيسنجر معقد. إذ كان من صقور الحرب الباردة – يمكن القول – إنه بذر بذور دمار الاتحاد السوفياتي بموقفه الصلب المعادي للشيوعية. كانت العبارة “السلام من خلال القوة” عبارة صاغها ريغان عام 1980، لكنها كانت في الواقع تطبيقاً للعمل السياسي الواقعي كما صاغه كيسنجر. لكنه سعى إلى صداقة الصين الشيوعية. لقد استفز الدب الروسي، لكنه رحب بدبي الباندا الصينيين: لينغ-لينغ وهسينغ-هسينغ، على وجه الدقة. لقد أسعد وصولهما إلى حديقة الحيوان في واشنطن عام 1972 الأميركيين، واستجلب عنواناً رئيسياً متوقعاً – “panda-monium [إرث الباندا]”.

 

ولكن. سجله في كمبوديا مع القصف المنهجي للبلدات حيث اعتقد بأن مقاتلي الفيتكونغ كانوا يلجأون هرباً من حرب فيتنام، وجائزة نوبل للسلام السابقة لأوانها لإحلال السلام في فيتنام عندما كانت الحرب لا تزال مستعرة، والإطاحة بحكومة سلفادور أليندي المنتخبة في تشيلي (برر ذلك بقوله: “لا أرى لماذا نحتاج إلى الوقوف مكتوفي الأيدي ومشاهدة بلد يتحول إلى الشيوعية بسبب عدم مسؤولية شعبه”)، والاحترام الأقل من الساحق لحقوق الإنسان، وقربه من نيكسون – ذلك كله سيكون محور جدل لسنوات مقبلة.

قال يوماً: “فيما يجب ألا نتخلى يوماً عن مبادئنا، علينا أن نعي أيضاً أننا لا نستطيع الحفاظ على مبادئنا ما لم نتمكن من البقاء”. إنه تلخيص جيد لرؤيته. لا تمكن المثالية المرء من التقدم إلا في شكل محدود. وفي هذه المراحل التي تشاركتها معه على مدار العقد الماضي، هناك لمسة قوية من مشاعر فرانك سيناترا في الأغنية “طريقتي”:

“الندم، كان لدي القليل منه،

لكن مجدداً

كان أقل مما يستحق الذكر”.

لم يكن ماضيه يعذّبه؛ كان مرتاحاً إليه في شكل كامل. أظهر بدلاً من ذلك كرماً في مشاركة “قائمته القديمة” مع واضعي السياسات والقادة اليوم. كان من الواضح إلى أي مدى ظل قادة العالم يسعون إلى مشورته حتى آخر لحظة. ومن الواجب أيضاً أن نضيف أن ذلك لم يقتصر فقط على أحداث الماضي وكيف يمكن أن توجه المستقبل – لقد انهمك في المسائل الحالية. كان الاستماع إليه وهو يتحدث عن تحديات الذكاء الاصطناعي وفرصه مذهلاً. بل محيراً ومدعاة للفخر حقاً.

لاحظتُ أنه ظل يستمتع بالاهتمام به. حضرتُ مأدبة عشاء أُقِيمت على شرفه. كان المكان عبارة عن معرض فني رائع، وفي الختام اصطف الحضور لالتقاط صور ذاتية معه. بدا مستمتعاً بكل ثانية من ذلك. قال ذات مرة إن القوة هي المصدر المطلق للنشوة، لكن يبدو أن الحياة كانت مصدر نشوة له.

هناك طبيب مشهور جداً وعالم أخلاقيات طبية في الولايات المتحدة يدعى زيكي إيمانويل (كان شقيقه رام كبير موظفي باراك أوباما). أثار انتقادات حادة حين أعلن أنه سيتوقف عن طلب المعالجة الطبية حين يبلغ الـ75، وجادل بأن الآخرين جميعاً يجب أن يحذوا حذوه. ذلك أن جودة الحياة تصبح عندئذ ضعيفة جداً؛ يصبح المرء عبئاً على جميع الآخرين من حوله. كان سن الـ75 وقتاً مناسباً ليتوقف المرء عن العناية بنفسه.

مثّل وزير الخارجية السابق ومستشار الأمن القومي السابق الإجابة المدوية عن هذه الحجة. في المنظمات والشركات، يتحدثون عن “الذاكرة المؤسسية” لتاريخ المكان. لقد شكّل الدكتور هنري كيسنجر – بحسناته وسيئاته – ذاكرة مؤسسية للقرن العشرين – وتمثّل خسارة ذلك التجمع العميق من المعرفة خسارة كبرى بالفعل.

جون سوبل محرر الشؤون الأميركية الشمالية السابق في “هيئة الإذاعة البريطانية” (بي بي سي) ويقدم الآن التدوين الصوتي (البودكاست) “وكلاء الأخبار” عبر التطبيق “غلوبال”

© The Independent