مشهد من فيلم “كافكا” لستيفن سودربرغ (موقع الفيلم)

هي حكاية كافكاوية، لكنها سينمائية هذه المرة أحبها الكافكاويون الحقيقيون حتى وإن كان معروفاً عنهم أنهم لا يستسيغون تلك السينما التي تنسب عادة إلى كاتبهم المفضل، سواء نحت منحاه في الغرابة و”التعمق الفلسفي”، أو حتى اقتبست عملاً من أعماله. فهم يرون عادة أن اورسون ويلز  وحده في اقتباسه الكبير لرواية “المحاكمة” كان أميناً لنص لكافكا إلى حد كبير. ومن هنا حين حقق المخرج الأميركي ستيفن سودربرغ في عام 1991 فيلمه عن “حياة” كافكا  استنكروا الأمر وهاجموا الفيلم معتبرين إياه مدعياً “يهرف بما لا يعرف”. ومن هنا كان من الطبيعي للفيلم أن يفشل فشلاً ذريعاً بعدما كان المخرج قد حقق قبله، وفي فيلمه الأول “جنس وكذب وفيديو” (1989)، نجاحاً أسطورياً أتى مليئاً بالوعود. ونعرف أن عيب فيلم “كافكا” – وهو العنوان الذي أعطاه سودربرغ وكاتب السيناريو يومها ليم دوبس للفيلم الذي أتى على أية حال جديداً في مضمار السيرة السينمائية حيث مزج بين حياة الكاتب وحياة شخصياته مزجاً مبتكراً – كمن تحديداً في ذلك المزج بالذات الذي كان هو ما استثار اشمئزاز الكافكاويين. وكانت النتيجة أن سودربرغ سيقرر خلال العقود التالية أن يعود إلى الفيلم ليحققه من جديد. وهنا لب الحكاية على أية حال.

قرار جريء

فالحال أنه ندر في تاريخ السينما أن قرر صاحب فيلم أن يعود لينتج نسخة جديدة منه تأتي مختلفة كل الاختلاف عن النسخة الأولى، وذلك في وقت أخذ الفيلم نفسه وقته ليتحول إلى فيلم أيقوني فريد من نوعه في تاريخ السينما، بحيث إنه في كل مرة كان سودربرغ يجد طرف خيط ما كي يعود إلى الفيلم لينفضه “نفضة شاملة”، بحسب تعبيره، يكون الفيلم نفسه قد ارتقى رتبة جديدة تضاف إلى مكانته في تاريخ هذا الفن فيحجم وينتظر، وهكذا. ونعرف على أية حال أنه في نهاية الأمر قد حقق مشروعه، ولكن متأخرا نحو ثلث قرن وعرض الناتج في دورة 2020 من مهرجان تورنتو السينمائي، فكانت النتيجة أن الفيلم “الجديد” قوبل بلا مبالاة مخزية وأعلن كثر أنهم، على رغم كل شيء، يفضلون القديم على قدمه. بل قال كثر أيضاً إن هذه النسخة الجديدة نسفت ما كان الفيلم كله قد حققه من مكانة كانت قد جعلت لكافكا مكانة سينمائية كان لا بد من الاعتراف بها والبقاء عندها. فما هي بعد كل شيء حكاية هذا الفيلم ذي المصير الذي يبدو غريباً غرابة مصير صاحب العلاقة نفسه، أي كافكا الذي ثمة حكايات كثيرة يتم عادة تداولها حول علاقته المبكرة بالسينما تحبيذاً وشجباً، إنما حماسية في نهاية الأمر، والتي تستشف من فقرات تحفل بها يومياته؟

عند سقوط الجدار

في الحقيقة أن الحكاية من حول تحقيق الفيلم كما حكاية الفيلم نفسه، تنطلق انطلاقة بالغة الجرأة، ولكن كذلك، بالغة الرغبة في التجديد. فسودربرغ الذي يحب أن يعتبر نفسه واحداً من المثقفين الأميركيين الكبار الذين خاضوا المجال السينمائي، وفيما كان يبحث عن موضوع “يدهش العالم به” بعد النجاح الكبير الذي حققه فيلمه الأول وفوزه بالجائزة الكبرى في مهرجان “صاندانس” الطليعي للسينما المستقلة في الولايات المتحدة، وجد ضالته في سيناريو كتبه الروائي الطليعي دوبس، وكان قد دار به على عدد كبير من المنتجين في هوليوود وخارجها، لكنهم جميعاً وجدوه يفقتر إلى أية جدوى تجارية. أما سودربرغ الذي وجد تسويقه ممكناً على رغم أنه هو نفسه لا يبالي بالأمور التجارية، فقد أحبه تماماً وتبناه حتى تمكن من إقناع منتجين مستقلين بتمويله. وهكذا صور الفيلم بالفعل خلال أسابيع قليلة، ولكن على ضوء تلك الأحداث السياسية التاريخية التي تمحورت من حول سقوط جدار برلين عام 1989 إذ تراءى له أن تصوير الفيلم في تشيكوسلوفكيا، وقد تحولت دولتين أفلتتا من الربقة الشيوعية وتجدد اهتمام العالم بما يحدث أمر من شأنه أن يجعل كافكا على الموضة من جديد. وتراءى له أيضاً أن النص الذي كتبه دوبس هو خير طريقة لمواكبة ذلك.

سيرة الكاتب عبر ما كتب

ونص دوبس كان، كما لمحنا أول هذا الكلام، عبارة عن سيرة للكاتب البراغي باللغة الألمانية، تمزج الجانب الحياتي الفعلي من سيرته بالجانب الإبداعي فيعيش حياة مزدوجة، ما يبرر أخيراً أن يكون في تاريخ هذا النوع السينمائي فيلم “كافكاوي حقيقي”. ومن هنا لدينا بالفعل منذ أول الفيلم كاتب شاب يدعى كافكا يعمل لكسب عيشه في شركة تأمين في العاصمة التشيكية ويكتب رواياته ونصوصه الأخرى ورسائله بالألمانية، تماماً كما هو حال صاحب السيرة المؤفلمة نفسه، لكن مكان عمل كافكا السينمائي هذا لا يشبه في الحقيقة المكان البسيط الذي كان يعمل فيه كافكا الحقيقي، بل يطالعنا هنا على شكل شركة ضخمة تكاد تكون صورة طبق الأصل من الشركة التي صورها لنا الكاتب نفسه في روايته “المحاكمة” وتحت إمرة رئيس في العمل يبدو طالعاً مباشرة من شخصيات رواية كافكا الأخرى “القصر”.

وهكذا في الفيلم يعيش كافكا ويعمل نهاراً في المكاتب الضخمة ومع زملاء ورؤساء يعيش كل مهنم رهابه الخاص في عالم رعب، بينما ينصرف هو إلى الكتابة ليلاً وسط مناخ رعب تقابله فيه شخصياته التي يخترعها ويعيش معها صراعات رهيبة، إلى درجة أنه يختلط تدريجاً بشخصياته تلك وتتحول صراعاته إلى عالم جواني ووجود براني، يتدافعان ولكن، بشكل يجعل من الصعب على المتفرج العادي أن يدرك ما الذي يحدث حقاً على الشاشة… وتختلط عليه الخيوط والأحداث، وبخاصة بشكل بدا معه لحظات معينة وكأن المخرج نفسه قد فقد السيطرة على السيناريو، أو بالأحرى ترك السيناريو يسيطر عليه تماماً، وربما لإعجابه المطلق به، بل بدا وكأنه يسمح عن عمد لكل شخصية من شخصيات الفيلم بالسيطرة حتى على الكاتب في مشاهد كانت في حاجة على أية حال إلى مخرج من طرار ديفيد كروننبرغ كي تبدو بين يديه مقنعة (ولنذكر هنا بأن كروننبرغ قد خاض في عام تحقيق “كافكا” نفسه تجربة مشابهة من خلال تحقيقه فيلمه “الحفل العاري” عن رواية أيقونية أخرى تعتمد المزج نفسه بين المبدع – ويليام بوروز هنا – وشخصياته، فحقق الفيلم نجاحاً مدوياً لم يكن في صالح فيلم سودربرغ، إذ فرضت المقارنة بين الفيلمين نفسها!).

 

والحكاية تتتابع…

مهما يكن من أمر من الواضح أن سودربرغ قد شعر بالإحباط إزاء فشل فيلمه في الوصول إلى الجمهور، لكنه اعتبر نفسه، لا كاتب السيناريو، مسؤولاً عن ذلك الفشل، بل هو أعلن مرات ومرات في عديد من التصريحات الصحافية أنه يخيل إليه أنه وصل إلى هذا الموضوع قبل أوانه، وسوف يأتي يوم يعوض فيه عن الأخطاء التي ارتكبها معيداً الاعتبار للفنانين الذين تعاونوا معه في الفيلم بكل حماس. وهكذا، كما أسلفنا راح يعود إلى الموضوع أكثر وأكثر في كل مرة يحقق فيها فيلماً جديداً من أفلامه، التي أتى معظمها ناجحاً على أية حال، ولا سيما فيلمه الكبير “ترافيك”، ولكن خصوصاً الفيلم الطويل، في قسمين الذي حققه عن حياة تشي غيفارا. والحقيقة أنه لئن كانت نجاحاته المتتالية بعد ذلك قد جعلت جمهوره العريض “ينسى” مغامرته الكافكاوية الأدبية الفاشلة، إلا أنه هو لم ينسها بل عاد وحقق النسخة الجديدة المأمولة مضيفاً تعقيداً فوق تعقيد وموسيقى فوق موسيقى ليمر الفيلم “الجديد” في نهاية الأمر، مرور الكرام، مسجلاً واحدة من المغامرات السينمائية الأكثر غرابة وطموحاً، وربما الأكثر ادعاءً على أية حال، وذلك في وقت راحت أيقونية الفيلم تزداد قوة يحيث بات يعرف بـ”الفيلم – الظاهرة”. وربما يكون من ثم مسؤولاً ليس فقط عن استنكاف السينمائيين عن الدنو مجدداً من كافكا وحياته وحكاياته، ولكن كذلك عن الحذر الذي قوبل به النمسوي ميشال هانيكي حين أقدم على أفلمة رواية “القصر” لكافكا نفسه فلم تلق الاهتمام العريض الذي كان متوقعاً!